المسرح المغربي يتقدم إلى الأمام تاركا خلفه أسئلة البحث عن الهوية
لقاء الفكر والإبداع مع المسرحي محمد سيف
أجرى الحوار : المخرج المسرحي بوسرحان الزيتوني
دائما كان الحوار بيني وبين المسرحي العراقي محمد سيف ثريا ومتشعبا، وظل يستمر دائما حتى بعد أن تباعد بيننا الجغرافيا… عرفته متابعا لتجارب المسرح العالمي والمغربي، بل وجدته شيئا فشيئا ينغرس قي تربة هذا المسرح وفي هوائه من كثرة حضوره وفعالية هدا الحضور. وقد اخترنا في موقع مساحات أن يكون جزءا من نوافذها … فشكرا لمحمد سيف ولكل من جعل اللقاء ممكنا. المسرح المغربي يتقدم إلى الأمام تاركا خلفه أسئلة البحث عن الهوية المسرحية االمسرح حقل للتبادل الثقافي؛ حقل للتواصل ومد الجسور بين التجارب المسرحية الحديثة أن المسرح في شكله ومضمونه قد انتقل من الغرب إلى أنحاء الوطن العربي عبر قنوات متعددة ومختلفة.
- د. محمد سيف. أنت واحد من بين المسرحيين العرب الذين هم جزء من هواء مسرحنا المغربي، ومن بين القليلين الذين عشقوا نتاج ركحه وعسله حلوه ومره… هل يمكن ان تعرفنا بمحمد سيف وانتاجاته الابداعية والفكرية .؟
محمد سيف : يبدو لي ان الحديث عن الأخرين ونتاجهم، الفني والأدبي، بالنسبة لي، أسهل بكثير من الحديث عن نفسي، ولهذا السبب لم اكتب حتى الآن سيرة ذاتية قادرة على إعطاء صورة حقيقية عني وعن عملي. ربما لان اكثر السير الذاتية تتشابه، وربما أيضا من الصعب اختصار نفسك ببضعة سطور تكون قراءتها في أغلب الأحيان مملة، ولكن لنبدأ وباختصار شديد هكذا:
محمد سيف مخرج، ممثل، دراماتورج، ناقد، وباحث مسرحي عراقي، مقيم في باريس منذ عام 1984، دكتوراه في المسرح والعلوم الاجتماعية من جامعة السوربون 7، ماجستير العلوم المعمقة، والبكالوريوس من جامعة السوربون1، دبلوم مدرسة جاك لوكوك العالمية للتمثيل، دبلوم معهد الفنون الجميلة في بغداد، حاليا المدير الفني لفرقة مسرح (الكلام العابر) في باريس. بالإضافة إلى عملي، كرئيس تحرير لمجلة دراسات الفرجة الفصلية الأكاديمية المحكمة، التي تصدر عن المركز الدولي لدراسات الفرجة.
أخرجت للمسرح: مسرحية (الجمجمة) للكاتب التركي لناظم حكمت، مسرحية (الصبي المشاكس) إعداد عن قصة لتشيكوف لمنتدى المسرح في العراق، مسرحية (الدموع المرة لبيتر فونكونت)، للمؤلف الألماني فاسبندر، لمسرح بير فرينيه الفرنسي، مسرحية (المتروكة) إعداد وبتصرف عن نص لماكس ميري، لمسرح لونيل الفرنسي، اخرج مسرحيتي (التوقيف، وورود الجيرانيوم)، للكاتبة الفرنسية، أفيلي سترا، ومسرحية (كالرياح تذهب وتجيء) تأليف كوليت اشتيرن، لمسرح الباستيل الصغير. أخرجت أيضا، سلسلة ممسرحة من القصص المستوحاة من الف ليلة وليلة لمسرح بول ايلوار. وقدمت مسرحية (المراسل) تأليفا وإخراجا، على مسرح الشعب في ستوكهولم/السويد. قدمت نص(اربع ساعة في صبرا وشاتيلا) لجان جينيه، على مسرح معهد العالم العربي في فرنسا بعد ان قدمتها في تونس برفقة الفنان المنصف السويسي ومنية الورتاني. ثم قدمت توليف مسرحي شعري، بعنوان: غريب كالبحر، لمهرجان طنجة المشهدية في المغرب ومسارح أخرى في باريس؛ الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر، للشاعر محمود درويش. لافتتاح مهرجان هنوفر الألماني واختتام مهرجان طنجة المشهدية. ومن أعمالي الأخيرة إخراج مسرحية (الحريق) لمؤلفها قاسم محمد، التي قدمت مؤخرا على مسرح القصبة في مدينة طنجة المغربية، ومسرح بيت الفنون في مدينة بوردو الفرنسية.
المؤلفات المسرحية: مسرحية البحث عن السيد كلكامش، ابكي فالعالم وادٍ من الدموع، الزوج الأبدي، إعداد عن رواية دوستويفسكي، المراسل الحربي، وثلاثة عناوين لمسرحيات ثلاثة، التي طبعت مؤخرا في دار نشر دار المصادر في بغداد، وكتبت للأطفال، الأمير أحمد والساحرات، ومسرحية الملك الأمي.
في الدراسات المسرحية كتبت: الطفل والتعبير المسرحي، نشر في دار سحر/تونس؛ أفكار وتطبيقات تعارض التقاليد، وزارة الثقافة لإمارة الشارقة؛ مسرح ما بعد الدراما، كتاب مشترك، وكتاب دراماتورجية العمل المسرحي والمتفرج بالاشتراك مع الدكتور الباحث خالد أمين، هذا بالإضافة إلى كتب مشتركة أخرى: تحولات الفرجة فرجة التحولات، الدراماتورجيا الجديدة، الفرجة والمجال العمومي، وجميعها من إصدارا المركز الدولي لدراسات الفرجة.
في الترجمة كتاب: الضجر هو الشيطان لبيتر بروك، نشر من قبل وزارة الثقافة والأعلام في إمارة الشارقة، بنسياننا شكسبير يمكن العثور عليه ثانية، كتاب يجمع كتابين في كتاب، صدر عن دار نشر عدنان /العراق، كتاب شعرية الجسد لجاك لوكوك، (ترجمة وتقديم وتعليق)، عن دار نشر مؤسسة الصادق الثقافية، في مدينة بابل العراق، وترجمة كتاب أرسطو مصاص دماء المسرح الغربي، للكاتبة الفرنسية فلورنس دوبون، في صدد التحضير للطبع. هذا بالإضافة إلى نشر العديد من البحوث والدراسات والمقالات النقدية في المسرح والرواية والفن التشكيلية في مجلة نزوى العمانية، مجلة فنون، الأقلام والطليعة الأدبية، في العراق. مثلما نشرت وبشكل دوري العديد من المقالات النقدية حول تجارب مسرحية عالمية وعربية: القدس العربي، الزمان، النهار اللبنانية، وبيان اليوم المغربية، بالإضافة إلى المواقع الإليكترونية مؤخرا.
- كيف تمت علاقة محمد سيف بالمسرح المغربي.. ؟ … بعد كل السنوات التي عايشت فيها تجارب هذا المسرح : كيف ترى المشهد المسرح المغربي راهنا ؟ وما هي اهم اتجاهاته ؟ …
محمد سيف : في البدء كانت علاقاتي بالمشهد المسرحي المغربي عن طريق القراءة والبحث، ولكنها سرعان ما تحولت وأخذت مسارا جديدا، عندما التقيت بإحدى الندوات الفكرية في الجزائر، بالباحث ومدير المركز الدولي لدراسات الفرجة الدكتور خالد أمين. في هذه الندوة قدمت بحثا عن “مسرح ما بعد الدراما”، وعند نزولي من المنصة، قدم لي الدكتور خالد أمين دعوة للمشاركة في نشاط المركز الذي لم اكن اعرف عنه الشيء الكثير. وعند حضوري ومساهمتي في نشاط هذا المركز لأول مرة، اكتشفت ذائقة وحساسية مسرحية مختلفة ومتنوعة، فإلى جانب الندوة كانت هناك عروض مسرحية تقدم كل يوم، عروض لم استطع الوقوف إزاءها كمتفرج عادي؛ عروض أثارت لدي أسئلة عديدة حول المشهد المسرحي العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. اكتشفت ان المسرح المغربي يتقدم إلى الأمام تاركا خلفة أسئلة البحث عن الهوية المسرحية التي أضعنا فيها أنفسنا لفترة طويلة؛ اكتشفت ان هذا المسرح قد غادر “حمار” اللغة وركب “حصان” الصورة، وصار يكتب نفسه وفقا لتصورات مسرحية حديثة تعني بفنون الأداء اكثر مما تعني بمتن النص الأدبي وهيمنته القاسية. وهذا في الحقيقة كان جل اهتمامي كمسرحي عراقي يعيش في الغرب ولازال فترة طويلة. فصرت اكتب عنها مثلما اكتب عن التجارب المسرحية الغربية.
واعتقد ان لدي الآن ذخيرة نقدية بإمكانها ان تكون كتابا عن الحساسية الجديدة في مسار المسرح المغربي؛ كتابا يؤرشف ويقرأ ويحلل فترة مهمة من تاريخ هذا المسرح، الذي صرت مغرما به لأهميته؛ كتابا ربما سيخرج قريبا إلى جانب كتابات صديقي الدكتور خالد أمين، المعني بشكل مباشر بالمسرح المغربي وهمومه، وتطلعاته الجديدة؛ كتابا يعتبر امتدادا تطبيقيا لكتاب دراماتورجيا العمل المسرحي والمتفرج، نتناول فيه تجارب مجموعة من المخرجين المغاربة الذين اشتغلوا على هذا المفهوم واشتقاقاته المتعددة من وجهة نظرهم الخاصة للغة المسرح، ونذكر منهم على سبيل المثال، وليس الحصر: عبد المجيد الهواس، محمد الحر، أسماء هوري، بوسرحان الزيتوني، نسور أمين نسور، محمود الشاهدي، وإلى أخره… .
- ارتبطت بتجربة المركز الدولي لدراسات الفرجة . ما تقويمك لمشهدياته ؟ وما جديد دورته القادمة ؟ وما جديدك فيه ؟ … يغالب المركز الدولي لدراسات الفرجة فقر المكتبة المغربية بإصدارات متنوعة بين الكتاب العلمي والكتاب الإبداعي والمجلات .. كيف تقوم اثر هذا المجهود في تغيير الفكر المسرحي بالمغرب ..
محمد سيف : إن فكرة المركز الدولي لدراسات الفرجة، بحد ذاتها فرجوية. بدأت لكي تتطور، تتبلور، وتتسع أفاقها مثل عمل مسرحي حديث مستمر، له بداية ووسط، ولكن ليس له بالضرورة نهاية، لأنه مفتوح على أفاق جديدة متجددة، وعلى جمهور متنوع من الأساتذة والبحاثين والطلبة والفنانين وعلى الجمهور العام. منذ اكثر من خمسة سنوات تقريبا وأنا أتواجد في أروقة ندوات وعروض المركز، كل ما لمسنه وشاهدته، أنه، يتقدم إلى الأمام، يتدفق بهدوء وتأني مثل موج بحر نابع من العمق وليس السطح. يحاول من دون ادعاء أو مبالغة، نحت صخور مشهدية تحاكي الحاضر المسرحي بكيفية أكاديمية، شعرية، وجمالية، مواكبة لكل ما يدور في عالم المسرح الحديث وتطلعات الكونية، وذلك من خلال دعوته لأساتذة وفنانين كبار كان الفنان المغربي والعربي بشكل عام يسمع عنهم أو يقرأ عن تجاربهم وأفكارهم في الكتب فقط، وإذا به صار اليوم يجلس معهم ويشاركهم ثمار المأدبة الفكرية والفنية التي يعدها المركز الدولي للفرجة في كل عام. يأتون هؤلاء الأساتذة المفكرون إلى هذه التظاهرة الفنية والفكرية لا لكي يحاضروا وإنما ليستمعوا ويناقشوا ويشاهدوا آخر المظاهر الفنية العلمية والأكاديمية المعنية بالفرجة المسرحية والمجال العلمي والنظري للمسرح في العالم وبلغات عدة. وهذا، في الحقيقة، ما لم نألفه من قبل، ولا يشبه لا من قريب أو بعيد ما يحصل في المهرجانات العربية، التي تتشابه وتتكرر فيها الوجوه، والعلاقات اللاطائل من ورائها. بلا شك ان المركز ظاهرة ثقافية تكاد ان تكون فريدة من نوعها في عالمنا العربي بامتياز، تقوم بعمل وتحقيق منجزات يعتقد كل من يراها من بعيد بأنها مدعومة من قبل اكثر من دولة ووزارة، ولكن الحقيقة كل الحقيقة، غير ذلك تماما، وراء كل جهودها وعروضها، وإصداراتها المتواصلة جمعية فنية بفريق عمل صغير وإمكانيات مادية فقيرة ولكنها غنية بدأبها وحملها لشعلة المسرح المتقدة. إيمانا منها بأن المسرح حقل للتبادل الثقافي؛ حقل للتواصل ومد الجسور بين التجارب المسرحية الحديثة.
ولهذا فإن المركز الدولي لدراسات الفرجة ليس مجرد تظاهرة ثقافية تنتهي بمجرد ما يسدل الستار عليها، وإنما بحث مستمر، وإشعاع يحفز دائما وابدأ على البحث والتنقيب ومستودع، في ذات الوقت، لاستقبال مقترحات مسرحية وفكرية وجمالية تعني بالدرجة الأولى الفنان والباحث المغربي والعربي، في ذات الوقت. ففي دورته القادمة، الرابعة عشر، على سبيل المثال، سيطرق المركز الدولي لدراسات الفرجة، أبواب الأشكال المسرحية الهاربة، وعنوانها: عبر الحدود: المسرح وقضايا الهجرة. سيناقش هذا الموضوع الغني والمتشابك في آن واحد، (هجرت الجيل الأول من المسرحيين العرب والأجانب إلى الغرب حاملا مسرحه)، وهو الأمر الذي، وفقا للدكتور خالد أمين، ( مكن من تحقيق تداخل ثقافي بين أساليب فرجوية تنتمي إلى الوطن الأم وبلد المهجر، من خلال تفاعل الخصوصية الثقافية مع الثقافات الفنية الأخرى. حيث هنالك أجيال استطاعت أن تأسس شراكات إبداعية بين الثقافات وبلورت علاقة الذات بالآخر من خلال الجسد المسرحي. وهنا لم تعد الهوية رهينة موروث ثقافي جامد وثابت، بل حصيلة سيرورة وإعادة بناء دون فقدان السمات المميزة للثقافة الخاصة. فمع تعاقب الأجيال في المنافي ظهر جيل جديد من الفنانين من خلفيات ما بعد الهجرة في مجال المسرح وفنون الأداء الذي ينتج فنا عابرا للحدود ويعيش في فضاء “بيني”: منطقة اتصال يصبح التبعثر فيها تجمعًا. فمسارح أبناء وأحفاد المهاجرين هي انعكاس لهويات هاربة تروم تأزيم مفاهيم من قبيل: الوطن الأم، اللغة الأم، الثقافة الأم… إذ يقوم فنّانو المهجر بإعادة كتابة جدلية “نحن” و “هم”. وقد أصبح هؤلاء الفنانون (…) ليس فقط أكثر تأثيرا في البنى الثقافية لدول المهجر (…)، بل أيضا أكثر حضورا في مهرجانات وملتقيات المدن الكبرى).
سوف أشارك في هذه الندوة بموضوع عن المختبر المسرحي للمخرجة البولونية إليزابيت شكشوك، ومدى تأرجحها بين غروتوفسكي وكانتور وارتو. لا سيما أن هذه المخرجة تسير على خطى شيوخ المسرح البولوني، لكي تتخذ عروضها في النهاية اتجاها آخر، اتجاها شاملا، على نهج آرتو. إنها كمخرجة تتحاشى اتباع أسلوب واحد، وتحاول انتقاء ما تعتبره الأفضل من بين مختلف الأساليب، وهي، في نفس الوقت، لا تعتبر المسرح مجرد تجميع لعدة تخصصات فنية، وإنما بحث وتنقيب فيما هو مشترك بين التخصصات المختلفة، وهو أكثر ملائمة من مصطلح (تعدد التخصصات) وفقا لجاك لوكوك، الذي يترك فكرة التقسيم الصارم قائمة. لهذا فإن عروض إليزابيت شكشوك، بمثابة بحوث مستفيضة في العلاقة بين الممثل والجمهور، بمعنى أخر، تعتبر ” تكنيك الممثل جوهر الفن المسرحي”. وهي بهذا، تستعير من منهج غروتوفسكي الرغبة في التغلب على الفجوة بين المسرح، والرقص، الغناء، والطقوس. وينصب جل اهتمامها على منح الممثل لعب عضوي وفوري حر. وبهذه الطريقة، تستأنف بحوث غروتوفسكي المسرحية وحاجته ” لإلغاء المسافة بين الممثل والجمهور، بإلغاء الخشبة وتدمير كل الحدود التي تفصل الجمهور عن الممثلين”. إنها تعمل على جعل مشاهد مسرحياتها الأكثر جذرية تحدث وجها لوجه أمام المتفرج، لدرجة أن يكون الممثل في متناول يد هذا الأخير، الذي يشعر بدوره، بتنفسه وعرقه المتصبب. كما في ثلاثية (قداس للفنانين، Démence praecox، ماتكا”، التي تواصل من خلالها إليزابيت شرشوك استكشافها المسرحي للحدود بين الحياة والموت من خلال طرح أسئلة الجنون، بتكييفها لشخصيات “المجنون والراهبة” (1923)
لستانيسلاف إحناسي ويتكيفيتش، التي تستوحيها بطريقة حرة جداً، تتكيف مع العالم الحالي أيضا. إن مجال الرؤية في أعمال هذه المخرجة، أمامية بحته، حيث لا شيء يفصل المتفرجين عن المختلين عقليا. وذلك من خلال انزلاق مساحة اللعب برفق نحو ممر مركزي يجلس على جانبيه المتفرجين. وهكذا يصبح المتفرج في وسط هذيان هذا العالم، الذي سيتم دعوته اليه والمشاركة فيه، في لحظة ما، فيصبح شريكا مع الممثلين في هذا الحفل الراقص بعد إن تم تفكيك حدوده. ففي عروض هذه المخرجة علينا إن ننسى الواقعية، لا سيما أنها تسير، مثلما ذكرنا أعلاه، على خطى كانتور وغروتوفسكي، في تجاوزها للاتفاقات المسرحية، وتفجير المفاهيم المسرحية التي تدعو من خلالها متفرجها إلى تجربة قوية بقدر ما هي محيرة. إنها بولونية جدا، ووفية للتقاليد المسرحية التي نشأة عليها!
- سبق وان أنتجت مع المسرحي الباحث خالد أمين كتابا مشتركا هاما حول الدراماتورجيا … وهو موضوع لا زال مفتوحا على أسئلة لا تنتهي .. وألاحظ ان مساهمتك داخل الكتاب نحت نحو تبسيط المفهوم وتفكيك مستوياته بشكل سلس يمكن منه القارئ.. وقد ابتعدت في متن الكتاب على أي تطبيقات تحليلية تطبيقية . هل ننتظر أن ينفت السؤال لماذا كتابا في المفهوم ، وهل امتلاكه قادر على حل معضلات تأسيس العرض المسرحي ؟
محمد سيف : قبل هذا الكتاب، كان هناك كتاب مسرح ما بعد الدراما، الذي تطرقنا فيه إلى مقترح هانس ليمان النقدي النظري للعرض الحديث، وأزمة الدراما، والشخصية في المسرح المعاصر، وتشكيكه في أولوية سلطة النص ، بالمعنى الحديث للحدث. بحيث ظهر السرد والنص في هذا المفهوم المسرحي كعنصرين متعادلين بعد إن تم الطعن بهما من قبله. ومنذ إن صار المسرح يبتعد عن مفهومه الدرامي، ازداد المجتمع قلقا وإثارة. علما إن مسرح ما بعد الدراما، وفقالـ “جان بيار سارازاك”، (ليس نمطًا، ولا نوعًا، ولا جماليًا. ويجمع هذا المفهوم بين ممارسات مسرحية متعددة ومتباينة، وتتمثل وجهة نظره الشائعة في عدم اعتبار الفعل أو الشخصيات بمعنى الطباع أو الاصطدام الدرامي أو القيم الجدلية، أو حتى الشخصيات القابلة للتحديد، ضرورية لإنتاج المسرح)[1]. ثم انبثقت من جديد فكرة أزمة سلطة المؤلف التي تم إحيائها مؤخرًا. فالخطاب المسرحي الحالي، يناقض أو بالأحرى يعارض بين الكتابة والركح، والمؤلف مع ممارسي المسرح، ومركزية النص مع الأداء، ومسرح ما بعد الدراما والارتجال. لقد خضع النص للعديد من التجارب المسرحية، وغالبا ما تحول إلى مواد، وغالبا ما غيبّ في المسرح، ولكنه ” عاد” في النهاية، من جديد إلى الواجهة.
ومن اجل تفسير مصطلح” العودة” هذه، وتسليط الضوء على فكرة “الأزمة” وعلى الأخص ” أزمة الدراما”، حاولنا أن نناقش ونفكك أنا وزميلي الباحث الدكتور خالد أمين، مفهوم الدراماتورجيا ودراسة تطوره الدلالي “والتاريخي” من خلال المرور، من عمل المصمم الأصلي للعمل الدراماتيكي، إلى هذا الذي صار الآن يدرس عملية أدائه على الخشبة؛ حاولنا امتحان المفهوم المعاصر للدراماتورج، ووظيفته الحديثة التي ولدت أو تعود إلى “جوتلد ابراهام ليسينغ”، الذي صار الدراماتورج اليوم بفضله كاملا، يقوم بدراسة مستقبلية أولية تصاحب المجال الناشط في العمل المسرحي، ويبلور المفاهيم الملموسة في الإخراج على حد سواء؛ استعرضنا، كل من وجهة نظرة التي تحيل إلى مرجعيات علمية رصينة، هيئات مختلفة للدراماتورج، من خلال دراسة العلاقات التي تربط هذه النوعيات المختلفة والأساليب المتنوعة لكتابتها، ومدى علاقاتها بالمخرج والمتعاونين معه في نسج نصه الدرامي الذي سيتم اقتراحه لتفسير المشاهد. واعتقد إنني لم اكتف في بحثي بتحليل وتفكيك هذا المفهوم فحسب، وإنما تطرقت أيضا، إلى مفهوم الدراماتورج في المسرح العربي، الذي يختلف تماما عن مفهومه في المسرح الغربي، الذي اختلف وتطور من بلد لآخر وفقا للعديد من السياقات والرؤى، لاسيما أن الكل يعرف، بأن المسرح في الوطن العربي، وليس المسرح العربي، لأن هناك فارق كبير بين هاتين التسميتين. حيث تؤكد الأولى، على أن المسرح في شكله ومضمونه قد انتقل من الغرب إلى أنحاء الوطن العربي عبر قنوات متعددة ومختلفة، وفيها تأكيد ضمني أيضا، على أن الظاهرة في نهاية المطاف، هي غربية بامتياز، ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، الذي سبق وأن تناوله العديد من الكتاب والباحثين في هذا المجال أو ذاك. أما التسمية الثانية “المسرح العربي”، فتشير إلى خصوصية الهوية المسرحية العربية التي عمل على إثباتها الكثير من الباحثين والكتاب بالتجائهم إلى التاريخ والموروث الأدبي وفن السير والحكايات وإلى أخره … التي تحتوي على بعض المظاهر القصصية الدرامية القريبة أو التي تشبه ملامح الدراما الغربية الأرسطية، ولكن بالاعتماد على النموذج الغربي وتقنياته ومدارسه المتعددة.
ولقد قام المؤسسون من المسرحيون العرب على تقليد ونقل التقاليد المسرحية الغربية مع تغير أسمائها، وأحداثها، ومعالجاتها، وهذا ما عرض الكثير من المصطلحات والمواضيع والمفاهيم إلى الكثير من التغيير والتحريف والترجمات المختلفة البعيدة أحيانا عن تعريفاتها الحقيقية، وجعلها تأخذ سياقات أخرى غير مألوفة وواضحة، مثل: مصطلح التجريب، والفضاء المسرحي بأنواعه الذي اختلف الكثير من المسرحيين على تسميته وظلوا يتأرجحون بين تسمية المكان الخالي والفضاء الخالي، متناسين أن الفضاء المسرحي ليس بفضاء واحد، وإنما هو عدة فضاءات لكل واحد منها له وظيفته الإجرائية المختلفة والمميزة، وكذلك التخبط بين مفهوم الدراماتورج، والبحث الدراماتورجي، وذلك بإعطائه مرادفات اصطلاحية غير دقيقة ومبهمة، لا تشير بالضرورة إلى وظائف الدراماتورج والتحليل الدراماتورجي الذي يعني بالممارسة النقدية التي تقوم بتقديم وتقويم الفن المسرحي وبلورة الأدوات الضرورية للعرض ولقائه والتقائه بالمتلقي. وربما يرجع ذلك لعدم معرفتهم لمعنى الاصطلاح نفسه على الرغم من كون وجوده يعود إلى الجذور المسرحية الأولى “الإغريق”، وكذلك السينوغرافيا أيضا، التي كانت تشير في عصر النهضة إلى مجرد لوحة خلفية للمسرح، وأصبحت اليوم علم من علوم تنظيم الخشبة والفضاء المسرحي ولا تقوم فقط بتأثيثهما؛ مثلما أصبحت بديلا لمصطلح الديكور الذي يشير في شكله ومضمونه إلى التزين والبهرجة، لاسيما أنها، أي السينوغرافيا، لم تعد تهتم بالجانب التزيني من الديكور، وإنما بتطوير الأدوات المسرحية بكليتها، على سبيل المثال، رسم الحدود الرمزية بين الحقيقة والخيال وعلاقة الممثلين بالجمهور، والكشف عن ما هو مرئي وغير مرئي في منعطفات النص والعرض في آن واحد، ودفع الجمهور إلى عكس رؤية متخيلة في وعلى الفضاء الحقيقي للتمثيل، وإلى آخره من المهمات التي تعمل على تفجير النظام الكلاسيكي للخشبة، من خلال تجديد علاقتها بفضاءات المسرح المتعددة. وليس من باب الصدفة أن يرتبط تطور السينوغرافيا بالتطور الدراماتورجي، و(قد اعتبرا ثورة مستقلة في الجمالية المسرحية، وتحولا في عمق فهم النص وعرضه على الخشبة)[2]، ولهذا فهما يرتبطان اليوم ارتبطا وثيقا في جميع التجارب المسرحية الحديثة. هذا بالإضافة إلى، مصطلحات أخرى ، مثل: الكوريغرافيا، الغروتسك، البوفن ، والفودفيل، والبوليفار، وإلى أخره. ولقد حاول بعض الباحثين من النقاد أن يركبوا أو بالأحرى يطبقوا أو يسقطوا مصطلح الدراماتورج والتحليل الدراماتورجي على طرق مسرحية مختلفة، بتقريبهم على سبيل المثال، بين مفهوم الإعداد المسرحي وعمل الدراماتورج المعد.
ونعتقد إن على الرغم من هذه القرابة الممكنة لنوع من أنواع الدراماتورجية، فإنها تبقى تسمية غير دقيقة، وذلك لأن الإعداد المسرحي كما هو مفهوم في المسرح العربي، يشير إلى عملية أدرمه العمل الروائي أو القصصي أو الحدث سياسي، وإلى أخره، حيث ينتهي عمل المعد بمجرد ما يسلم هذا الأخير النص إلى المخرج وفريق العمل. إن هذا العمل، في رأينا، يشبه إلى حد كبير عمل المؤلف. في حين أن الإعداد الدراماتورجي، لا يتوقف عند هذه الحدود الضيقة، ويذهب بعيد في مساهمته بشكل مباشر وغير مباشر، في عملية تفسير وشرح المفاهيم الجمالية والسياسية والاجتماعية والتاريخية للعمل، ويقوم بمناقشتها مع فريق العمل سواء أثناء عمل الطاولة، والبروفات المسرحية، أي أن الدراماتورج، يقوم بعملية الاستشارة الأدبية الدائمة، والسهر على كيفية اللقاء بعض المقاطع المسرحية ودلالاتها النحوية وفقا للتفسير الإيديولوجي للنص وعلاقته بمتلقي الوقت الحاضر. وهذا بحد ذاتها ما يتجاوز عملية الإعداد المسرحي كما هو مفهوم عربيا.
إذن، إن الإعداد المسرحي والإعداد الذي يقوم به الدراماتورج المعد، يكاد أن يكون مختلفا كثيرا في شكله ومضمونه، لأن هذا الأخير يخضع لتقاليد مسرحية تجعله مشاركا وفاعلا في جميع مراحل العملية المسرحية من بدايتها حتى نهاية، في حين أن الأول تنتهي مهمته عند تسليم النص. وإن حدث وإن وجدت بعض الاستثناءات، فتظل نادرة ولم يؤسس لها منهجا معينا يسير عليه المسرح في الوطن العربي. هذا بالإضافة إلى أننا إذا اعتبرنا العمل النقدي الذي يقوم به الناقد المسرحي بعد مشاهدته العرض نوع من البحث والتحليل الدراماتورجي، فإننا بلا شك نقوم بتحريف هذه الوظيفة النقدية، ونجعلها تأخذ منحا آخر ليس له علاقة لا من بعيد أو قريب بالبحث الدراماتورجي مثلما يفهم غربيا، إذ انه يلقي الضوء على عملية مرور الكتابة الدراماتيكية إلى الكتابة المسرحية، لاسيما( يوجد هناك تحليل دراماتورجي قبل الإخراج يقوم به كل من الدراماتورج والمخرج، وبعد العرض، عندما يقوم المتفرجين بتحليل الخيارات الإخراجية)[3]. وهذا يعني أننا في المسرح العربي لم نؤسس أسلوبا مسرحيا خالصا، وطالما لا توجد لدينا أساليب مسرحية خالصة، لا يوجد مسرح عربي خالص. ولهذا يبقى المسرح في الوطن العربي هجينا، على الرغم من محاولة تقديمه ومعالجته للعديد من المواضيع العربية، وبحثه المستمر عن القوالب الفرجوية في الحكايات والسير الشعبية، والملاحم والأساطير، ولكن الشكل، التقنيات، النظريات، الاصطلاحات، والممارسات التي تخص الممثل، والإخراج والسينوغرافيا وحتى النقد وإلى أخره، تبقى في مجملها تقريبا تقاليد غربية وأن توفرت بمسرحنا في الوقت الحاضر.
علينا أن نعترف بأن للغرب تقاليده، وتربيته المسرحية التي نشأ عليه المسرح وجمهوره على حد سواء، أما نحن، وعلى الرغم من امتلاكنا للظاهرة المسرحية وتبنيا لها وبلورتها في مجتمعاتنا، ظلت الظاهرة نفسها بلا تقاليد مؤسسة رصينة، ولهذا السبب تبقى المصطلحات في اعتقادنا، والتقاليد وبعض المفاهيم المسرحية عائمة في حياتنا المسرحية ولا ترتكز على ركائز قوية يمكن الاعتماد عليها، وعندما نستخدم هذا المصطلح أو ذاك، لا نستخدمه في المكان والوقت المناسب والملائم، وينصب جل اهتمامنا على ركوب الموضة، لكي نثبت للآخرين بأننا نفهم أيضا، لاسيما أن العبرة ليس في قتل الحسين وإنما فيمن قتلوه، والعبرة ليس في ادعاء معرفة هذا المصطلح أو المفهوم أو ذاك، وإنما في فهمه وتطبيقه وفقا للتقاليد المعروفة والصحيحة.
بلا شك، أن هناك تجارب مسرحية عربية استثنائية حاولت أن تمارس نوع من الدراماتورجية وفقا للتقاليد الصحيحة، وخاصة تلك التي تتعلق بالمخرج الدراماتورج، ونذكر من ضمنها، على سبيل المثال، وليس الحصر، تجارب “فاضل الجعايبي وجليله بكار”، و”قاسم محمد” في عروضه التي أخذت أشكالا وبحوثا ومسارات مختلفة على مستوى الكتابة والإعداد، والتوليف المسرحي، والاستلهام، سواء من التاريخ العربي القديم أو الأحدث اليومية والسياسية المعاصرة، و”صلاح القصب” في تأويله لبعض النصوص الشكسبيرية، والنصوص المحلية العراقية، التي تجاوز فيها النص الأدبي كمتن أدبي، وذهب بها نحو الصورة الشعرية وتفجرها في العديد من العروض، وتجارب “جواد الأسدي” المسرحية التي تنوعت وتأرجحت بين التأليف المسرحي والإعداد، والاعتماد الكلي على الإخراج وفن الممثل بالدرجة الأولى والأخيرة، وكذلك تجارب المخرج العراقي “إبراهيم جلال” في تعامله مع المؤلف العراقي “عادل كاظم”، الذي كان يرافق العمل المسرحي بشكل يومي، بل حاول المخرج “ابراهيم جلال”، في الكثير من الأحيان استكتاب مؤلفه بطريقة اقرب إلى مفهوم الدراماتورج في الوقت الحاضر، ولهذا جاءت عروضه متميزة ومدروسة ومبنية على أسس مسرحية رصينة استطاعت أن تأثر في أجيال كثيرة من المسرحيين العراقيين والعرب، هذا بالإضافة إلى كونه أول من دشن واشتغل على المسرح البريشتي في المسرح العراقي، وذلك بإخراجه لمسرحية “بونتيلا وتابعه ماتي” لبريشت، وقد كلف بإعدادها وتعريقها الشاعر العراقي “صادق الصائغ”، وحملت عنوان “البيك والسائق”، والتي ضمنها اللهجة البغدادية كونها الأكثر قربا للفهم من جميع اللهجات العراقية الأخرى. وبلا شك هنالك تجارب مسرحية عربية أخرى لم تسنح لنا الفرصة لمشاهدتها وإنما القراءة عنها، وهذا لا يكفي بحد ذاته للحديث عنها والتطرق إلى إنجازاتها. ولقد دعمت بحثي بعينة تعتبر مهمة جدا بالنسبة لمسار المسرح العراقي والعربي المعاصر، عندما تحدثت عن تجربة قاسم محمد، في إخراجه لمسرحية حنظلة لسعد الله ونوس، وعملية خروج عن النص للعودة إليه ثانية، ومسرحية “طير السعد”. وقد كرست لهذا المخرج الخلاق، في بحثي، مساحة دراسية تمفصليه، لا تقل عن عشرة صفحات أو أكثر.
- ننسى أحيانا بحكم انك صرت جزءا من فضاء مسرحنا انك مسرحي عراقي اضطرته الظروف إلى الهجرة مبكرا ليقيم في فرنسا دارسا ومواطنا .. لكنك لم تنقطع عن مواصلة المسرح العراقي … كيف تقيم تجربة المسرح العراقي راهنا؟
محمد سيف : يمتلك المسرح في العراق تقاليد مسرحية رصينة أسسها أساتذة ومعلمين كبار خبروا المسرح عمليا ونظريا، قدموا تجارب استطاعت ان تخلق ذائقة مسرحية جمالية عريضة سواء لدى الأجيال الفنية التي أتت بعدهم ولدى الجمهور بكل شرائحه الاجتماعية والسياسية. وقد فتح أول معهد للفنون الجميلة في العراق عام 1936، وتلاه أكاديمية الفنون الجميلة، ثم الفرقة القومية للمسرح، بالإضافة إلى الفرق المسرحية الأهلية التي زرعت البذور الأولى لانطلاق شرارة الحركة المسرحية العراقية. وهذا الحراك الثقافي، بلا شك، لا يمكن أن يترك الباب مفتوحا لتسرب ظلامية ما يحدث الآن في هذا البلد الذي عرف ليال وحقب تاريخية معتمة؛ ولا يمكن أن يسمح لعجلة التطور بالتوقف. ولهذا وعلى الرغم محاولات التعتيم ومسح وإلغاء وتشويه الوجه الحسن لهذا العراق الذي جملّ المذبحة، لازالت هناك أصوات جمالية ورؤى مسرحية، تفكر بصوت عال بغد أفضل، تخلق الجمال، رغم القبح الذي صار يؤطر الوجه البشري؛ لازالت هناك أصوات، تحاول الاستمرار في نحت العالم بالطريقة التي تليق به، وبالإرث الذي خلفه لنا الإباء والمعلمين الأوائل. بلا شك هناك الآن، تجارب ودماء جديدة في المسرح العراقي مهمة جدا، وتشكل امتدادا حقيقيا لما بدئه الأوائل.
ولكن كيف السبيل لتقيمها من البعد الذي أنا فيه الأن؟ هذا هو السؤال الذي يقض مضجعي حقيقة، ويجعلني أقف بصمت وحيرة إزائها. وقد حاولت تأليف كتابا عن المسرح في العراق بعد عام 2003. وبعد محاولة اطلاعنا وقراءتنا لبعض منعطفات المسرح في العراق ما بعد هذه الفترة وليومنا هذا، وجدنا أنفسنا أمام طريقين بديا لنا، منذ الوهلة الأولى، متقاطعين، ومتداخلين: الطريق الواقعي والطريق الخيالي. فالأعمال المسرحية التي اطلعنا عليها سواء من خلال فعل القراءة أو المشاهدة، تقودنا من جهة، نحو ما هو واقعي، يتوافق مع السياق الاجتماعي والسياسي العراقي ومتغيراته وتحاكيه بلغة العتب المر والأليم، ومن جهة أخرى، تعطينا لمحة فريدة من نوعها عن الطبيعة الخيالية المعاشة، التي ترسمها المسرحيات التي عالجت ما قد حدث قبل هذا التاريخ وما هو تأثيره على ما هو آني ومعاصر لوقتها. ومن أجل فهم هذا التقاطع والتداخل بين الواقعي والخيالي، لجئنا، بشكل أساسي إلى التحليل الذي قدمه الفيلسوف جان ماري شيفر، حول العلاقة بين الفن والحياة، إذ يقول: ( ليس هناك حياة نعيشها من جانب، وممارسات فنية من جانب آخر. إذ توجد هناك صلة لا فكاك منها بين الاثنين (…) الفن هو التطور الطبيعي للثقافة الإنسانية من وجهة نظر التطور التاريخي والفردي، في نفس الوقت (…) فالخيال يسمح لنا على حد سواء، بفهم مصادر الممارسات الفنية من وجهة نظر التطور التاريخي الثقافي للإنسانية، ومن وجهة نظر الأفراد الذين هم نحن)[4]. وقد قادتنا طروحات جان ماري شيفر، إلى التفكير في العلاقة الوثيقة بين الأبداع الفني والأحداث الإنسانية. لاسيما أن الخيال الذي يرافق الأنسان منذ طفولته من خلال اللعب، وحتى عمر البلوغ مع الخيال، والأحلام، والفن، لا يمكن فصله عن تأثير الأبداع الفني في الإنسانية على طول تاريخها. إن الفن يعكس هذا الذي يعيشه الأنسان، ليس فقط كجزء لا يتجزأ من المجتمع، وإنما أيضا كفرد، وهذا بالغ الأهمية. وبالمثل، فإن المجتمع الذي يجد فيه هذا الأخير نفسه، ينغمس بدوره في السياق التاريخي الخاص به، ويجمع الماضي الذي يمر به جميع الناس، وفي نفس الوقت، يتطلع إلى ما قد يعني المستقبل بالنسبة لهم.
إن أولى الأسئلة التي تشكلت لدينا، من هذا المعنى: ما هي الأشكال التي يمكن أن تظهر في الدراماتورجية العراقية، التي تسمح بفهم هذه العلاقة بين الفن والأنسان، والعامل الثقافي، ومجتمع اليوم؟ كيف يمكن تقديم هذه الأشكال المسرحية الجديدة “إن صح التعبير” اليوم مقارنة مع تلك التي نعرفها في عصور أخرى من المسرح العراقي؟ وكيف يمكن إعادة تعريف المعايير الجمالية المسرحية العالمية مقارنة بالمعاصرة ؟ إن هذه الأسئلة التي ذكرناها، جعلتنا نتوقف أمام فرضية: الشكل المتكرر لموضوع الحرب في الدراماتورجية العراقية المعاصرة؛ نتوقف أمام النموذج الحالي لتقديم المأساة التي مرّ بها العراق عبر سنوات متلاحقة، دون أن يعرف ناسه استراحة المقاتل. وهذا بحد ذاته، يتطلب منا مساءلة العروض التي أصبحت فيها الحرب ليست مجرد حواجز، وإنما ذريعة للهرب أو ترك الوطن, والبدء من الصفر في المنافي البعيدة، ويمكن تأكيد هذا القول عندما نلقي الضوء على وضع الحرب في تحليلنا، هذه الحرب التي تُقدم كل يوم، وفي كل عرض، على شكل حكايات، وبطريقة متكررة- تقول الأم لابنها في نص ” قُمامة” لعلي عبد النبي، على سبيل المثال: وحيدي فقد منذ سنين طويلة في حكاية تحكيها الأمهات لأولادهن كل ليلة، حكاية أسمها الحرب-، وكذلك من خلال الجمل التفسيرية التي يضمنها المؤلف لنصه، أو في حوارات النص التي نعرف من خلالها موقع الشخصيات ومكان وقوع أفعالهم: غرفة مغلقة، قبو مضاء بشكل سيئ، مكاتب استقبال اللاجئين، جبهة القتال، أروقة غرف التحقيق والتعذيب السري، الحمام، مفترق الطرق، وفي مساحات تم تحويلها إلى أماكن للحبس.
ويمكن أن نلاحظ أيضا، أن هذه النصوص تحتوي على ديناميكية الخارج الداخل المغلق. العالم الخارجي الغارق في دوامة من الرعب: الحرب، المجازر، الاغتصاب، السيارات المفخخة، العنف، الميليشيات، وكثرة السيطرات في الطرق، وولادة نوع من الرجال الجدد، الذين يمارسون بحرية دور الجلادين في هذا العالم، باستخدامهم الخوف كأداة للسلطة التي تخلق الرعب والخوف في كل الأماكن التي يمرون بها. وهناك شخصيات أخرى، تقرر أن تحبس نفسها بنفسها، لحماية نفسها من العالم الموجود، والجدران والأبواب المغلقة، أو ربما من أجل الفرار من الخارج- الهروب من لامبالاة الآخرين، والعزلة وعدم القدرة على الاتصال بهم- والعيش في مفارقة بشرية رهيبة، فبمجرد ما يعثروا هؤلاء على اللجوء، يختفي حلم الخلاص. لأن الخطر الخارجي الذي يهربون منه سوف يولد في داخل ملاجئهم ومنافيهم الجديدة.
لقد أنجزت من هذا الكتاب جزء كبيرا، ولكنني للأسف توقفت مؤقتا، لأنني وجدت أن تقيمي للتجربة العراقية الراهنة، ستكون ناقصة، وغير علمية، بسبب تماسفي معها، ووجودي في الغرب منذ زمن طويل، وكل ما اعرفها عنها مصدره القراءة البعيدة، وهذا في رأي غير كاف. ولكنني شاهدة في احدى زياراتي إلى العراق بعض التجارب واخص منها تجربة المخرج مهند هادي، التي كانت متقدمة جدا وتأسس لمسرح حديث يتماشى مع لغة العصر وتطلعاته الفكرية والجمالية. ومهند هادي واحد من المخرجين الجدد الذين ساروا على خطى المعلمين الأوائل للمسرح العراقي، وإلى جانبه، هناك مخرجون أخرون لا يقلون عنه أهمية، مثل كاظم النصار، انس عبد الصمد، صميم حسب الله يحيى، تحرير الأسدي، علاء قحطان، حاتم عودة، جبار جودي، ستار الركابي، والقائمة تطول ولا تسعفني الذاكرة لذكرهم الآن جميعا. جميع هؤلاء المخرجون يحاولون أن يضيئوا ليل العراق المعتم بتجارب مسرحية تبدو من مواضيعها ومعالجاتها ومقارباتها للفضاء والأداء المسرحي غاية في الأهمية، ولكن للأسف لم أشاهدها، ولهذا يظل تقيمي لها ناقص، وغير علمي، وأفضل أن أدلو بدلوي عندما تكون الرؤية اكثر وضوحا، لا سيما أن مشروع الكتاب لازال قائما، وينتظر اكتمال الرؤية لكي يخرج إلى الضوء.
- محمد سيف ليس ناقدا مسرحيا فقط، فالنقد خيار الضرورة في حياتك، ووفق ما اعلم انك صانع مسرحي بالأساس ممثلا ومؤلفا مخرجا باعدت بينك وبين الإبداع ظروف معلومة. وقد حاولت مؤخرا معاودة الانخراط بمسرحية قدمتها بطنجة المشهدية. هل يمكن ان تقربنا من المسرحية وما كان مشروعك من خلالها.. ؟ وهل هناك مشاريع إبداعية في الأفق؟
محمد سيف : في الحقيقة، إن تجربتي المسرحية، على مستوى الإخراج والكتابة لم تنقطع عن الجانب العملي التطبيقي، والدليل إنني قدمت منذ وصولي إلى باريس حتى الآن أكثر من خمسة وعشرين عملا مسرحيا، وأسست ثلاثة فرق مسرحية: فرقة مسرح الكراج، فرقة مسرح الضفتين، وفرقة مسرح الكلام العابر التي لازلت مديرها الفني. وقدمت عروضي في العديد من المسارح الباريسية، مثلما قدمتها في تونس، ألمانيا، وطنجة المغربية، وهذا ما تشير إليه سيرتي الذاتية المختصرة جدا، في بداية الحوار. ولقد اشتغلت اكثر تجاربي المسرحية في زمن لم يكن للفايسبوك حضورا طاغيا كما هو الآن، ولهذا تكاد ان تكون غير معروفة على المستوى العام، على الرغم من المقالات العديدة التي تناولتها الصحف والمجلات العربية والغربية في وقتها. وما تجربة مسرحية ” الحريق” إلا امتدادا لها، والتي حاولنا من خلالها ان نؤسس، أنا والفنان عبد الجبار خمران، تجربة مسرحية مهجرية، إن الصح التعبير. ولكن للأسف الشديد لم تستمر، على الرغم من تقديمها في طنجة المشهدية وفي مدينة بوردوا الفرنسية، لأسباب كثيرة عدة، أولها الإنتاج، وثانيا، استقرار عبد الجبار خمران، شبه الكلي، في الغرب وانشغاله بأعمال لجنة الدعم، والترويج لفرقته “دوز تمسرح” التي كانت مسرحية “الحريق” أول عمل لها، وثالثا، المسافة بيني وبين المغرب، جعلت الأمور اكثر تعقيدا.
كانت مسرحية الحريق بالنسبة لي بمثابة حلم ظل يراودني منذ اليوم الذي استلمتها فيه وهي عبارة عن أوراق، موضوعة في ظرف اسمر اللون، مكتوبة بخط أنيق لأستاذ الأجيال الجليل قاسم محمد. حلم يشبه إلى حد كبير الواقع، ظل يعيش معي دائما، لا اعرف كيف أحققه، ولا أين، ولا بأي طريقة، أو كيف السبيل إليه ! ليس لأنني وعدت أستاذنا بإخراجه فقط، وإنما لأنه كان يتنبأ فيه بالكارثة التي وقعت ولازالت تعيش بيننا مثل مصير قدري لا يمكن التخلص منه؛ كارثة تحاكي وقتنا الحالي من خلال شخصيات قادمة من ثلاثة قرون فائتة لكنها، لازالت قادرة على محاكاة ومقاضاة أوضاعنا المأساوية التي فاقت بشاعتها تراجيديات العصور الماضية. إنها تناص حر، وحي، مع حاضر لازالت آثاره تنحت مستقبلنا الغامض، الذي لم نعد نتعرف فيه على ملامح وجوهنا؛ تناص مع الالة الجهنمية للملك لير وعبثه وتلاعبه في مملكته مثلما يقول، وليس الوطن، والناس، والقانون، والحياة؛ تناص مع لير ما بعد العاصفة، وما بعد تخلي بناته عنه، وما بعد موت الجميع وتحولهم إلى رماد، على انغام هسيس النار الجاهزة دوما وابدأ للإشعال في أية لحظة. لهذا لم يبق لصمت بهلول ولا لسخريته مكان في هذه المسرحية. صمت يعبر عنه عجز الكلام والأفعال إزاء تهور الحكام ورعونتهم التي لم تعرف الحدود، وكأنهم أنبياء بعثوا لا لكي يصلحوا الأرض، وإنما لكي يتسببوا بالكوارث، وبحمامات الدم، وبالحروب الطائفية، وبتزوير اللغة والأسماء، والقوانين من أجل تبرير أفعالهم.
في هذه الحرائق التي اشتعلت وبات من الصعب إخماد نارها، نرى لير وبهلول وهما يبعثان من الرماد، مثل طائرين فينيقيين، انبعثا لا لكي يحافظا على عفة الأرض فحسب، وإنما لكي يحدثانا عن تاريخ الخراب الذي حل فيها، وعن أسبابه، وعن إمكانية إعادة بنائها من جديد. لقد كتبت قاسم محمد، هذه المسرحية قبل اندلاع الربيع العربي الذي لم يكن ربيعا، بحصر المعنى، وكأنه كان يتنبأ بما سوف يحدث، مثل راء يعلم بالغيب وبخفايا المستقبل، أو مثل مسرحي يعرف ان يقرأ طالع الأيام والأزمان، إن المسرحية تضعنا منذ الوهلة الأولى، في المحرقة والحريق دون مباشرة، تجعلنا نراهما قبل وقوعهما وبعده، وتسمعنا ما قيل من قبل ومن بعد، وما يمكن قوله في المستقبل. لهذا تحتاج منا الرجوع إلى الوراء قليلا، لكي نستطيع ان نتقدم معها إلى حيث ما يقودنا قدرنا المسرحي، وبحثنا عن لغة آنية تخاطب المتفرج الذي صار اليوم أكثر وعيا ودراية، ولكي نبتعد عن الأشكال التقليدية المعروفة، سواء في الأداء أو طريقة معالجة العرض، كان لابد لنا أن نلجأ في عملنا إلى الفنون الأخرى، مثل: السينما، الفيديو، والفنون التشكيلية، من أجل توفير فائدة للنموذج المسرحي الذي نود تقديمه، وتوليد الخيال فيه بطرق مختلفة، رغبة منا في إدخال جماليات، وعلاقات زمكانية أخرى، تزعزع التماسك السردي للنص، أولا، وتشرك المتفرج في مغامرتنا المسرحية، ثانيا. كل هذا كان بالنسبة لنا، مصدر خوف وحيطة وحذر، دفعنا للتأمل والتفكير بطريقة تجعلنا نبتعد عن نص قاسم محمد وتناصه الحر مع شكسبير، من اجل العثور عليهما ثانية فيما بعد! نبتعد لكي نقترب، ونقترب لكي نذهب بعيدا في آن واحد، في بحثنا عن الشخصيات التي أضعفت وجرى تفكيكها في الكتابات المعاصرة، واصبح مفهومها في الكتابات الركحية موضع تساؤل وتم استبدالها بشكل منظم من قبل الممثل الذي صار يدخل خشبة المسرح دون أن يرتدي شخصية وهمية، كاشفا فيها عن نفسه أولا، ومزيلا ثانيا، القناع الذي كان يختفي وراءه، دون ان يبال بالعواصف التي لم تؤسس بقدر ما تؤخر.
لهذا عزمنا أنا ورفيقي في التجربة (عبد الجبار خمران) منذ الوهلة الأولى، بالذهاب إلى قلب الوردة مباشرة، وذلك من خلال الانفتاح على جوهر اللعب في تمريننا للنص إلى الخشبة، بما في ذلك من وجهة نظر الغموض بين الخيال والواقع؟ فصرنا نتساءل بشكل وجودي ويومي: هل بإمكاننا كممثلين ان نصبح حقا أشخاص أخرين أم لا ؟ وإلى أي مدى سنكون نحن ونكون الشخصيات في ذات الوقت ؟! ومتى نبدأ نحن وأين سننتهي لكي تبدأ الشخصيات ؟ أية معادلة شاقة، مثلما يقول قاسم محمد؟! واذا استجبنا كممثلين للتحديات المفروضة من قبل الكتابة المعاصرة، سواء الأدبية أم المسرحية، ما هي الهيئة التي ستمنحها هذه الكتابة وهذا التناص، للعب داخل الإبداع الذي يجب أن يكشف عن الممارسة الشاملة؟ وما هو دور لعب الممثل في مثل هذه المغامرة ؟ كيف يمكن لتمثيلنا أن يكون تطبيق مسرحي معين؟ إذا كان يتغير وفقا أو على أساس تنوع الأساليب الفنية التي تجد نفسها في مواجهة؟
بلا شك هناك مشاريع أخرى في الأفق، ولكن ربما ليس قبل ان تكتمل تجربة مسرحية “الحريق”، لا سيما ان توقفها لا يعني ابدأ نهايته، وإنما استمرار في تأمله بحلة جديدة أخرى، ولكن حينما يحين الحين!
محمد سيف – باريس / حاوره بوسرحان الزيتوني – المغرب
(نشر الحوار باتفاق مع موقع مساحات)
هوامش:
[1] – SARRAZAC, Jean Pierre (1997). L’avenir du drame, Belfort : Circé/poche, p. 17.
[2] – Patrice Pavis, dictionnaire du théâtre, Armand colin, édition revue et corrigée, Paris, 2002, page 216.
[3] – مقطع من مقالة “التحليل الدراماتورجي”، القاموس المسرحي، ص 136، لباتريس بافيس، بواتييه، 1987.
[4] – Jean-Marie Schaeffer, Pourquoi la fiction ? (Entretien avec Alexandre Prstojevic), Vox poetica, entretiens. http://www.vox-poetica.org/entretiens/schaeffer.htm