“مهاجر” جورج شحادة في عرض سوري يعكس الواقع – سامر محمد إسماعيل
النص الدرامي العالمي ما زال يحظى باهتمام والمخرجين العرب لطابعه الإشكالي والوجودي
احتل مسرح الكاتب الفرنكوفوني اللبناني جورج شحادة (1907- 1989) مجالاً بارزاً في الريبرتوار السوري المعاصر، ولعل أبرز نصوصه المعنونة بـ “مهاجر بريسبان” استأثر بهذا الاهتمام لأكثر من مرة، كان أولها عام 1976 لفرقة مسرح القنيطرة، وبتوقيع المخرج حسن عكلا، بينما عرضتها فرقة المسرح الجوال عام 1981 بتوقيع المخرج طلال الحجلي، وعاد المخرج مانويل جيجي أيضاً توليفها عام 2010 كامتحان نصفي لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية. اليوم يقدمها الفنان عروة العربي بإعداده وإخراجه على خشبة دار الأوبرا السورية- “مسرح الاستعمالات المتعددة” متجاوزاً النسخ السابقة.
الصيغة الجديدة من “مهاجر بريسبان” خضعت كما بدا في عرض “المهاجر” إلى محاولة إيجاز القصة من استطالات درامية في النص الأصلي، جرت على ألسنة شخصيات هامشية من فلاحين ومزارعات، ومطوّلات في حوارات ذات طابع شعري أدبي في مسرح الكاتب اللبناني- الفرنسي الكبير، من دون الإخلال بالبنية الدرامية المتصاعدة لقصة المسرحية التي تدور أحداثها عام 1952 مع وصول عربة مهاجر آخر الليل ينشد العودة إلى قريته “بلفنتو”” إحدى قرى جزيرة صقلية الإيطالية. وذلك بصحبة حوذي القرية الذي لا ينفك عن التحدث مع حصانه الأعرج “كوكو” فلا ينبس المهاجر القادم من أستراليا بكلمة، لا في هذا المشهد الافتتاحي ولا في ما بعد. ثم يطالعنا عمدة البلدة وسكرتيره في صباح اليوم التالي بدعوة نساء القرية للتعرف إلى صورة رجل مات بأزمة قلبية فور حضوره إلى البلدة، لعل إحداهن تتعرف إلى الرجل الذي جاء يبحث عن ابنه غير الشرعي بعد طول غياب.
وهذا ما يؤجج غضب النساء وأزواجهن على كل من العمدة والسكرتير، فيكشف الأخير عن كيس من الذهب كان بحوزة الرجل الميت، ويعلن أنه سيسلم الأصول لابنه غير الشرعي. هذا الخبر سيكون جديراً بتأليب صراعات لا تنتهي بين كل من رجال القرية وزوجاتهم، في مماحكة بين خسارة الثروة أو التفريط بالشرف. وتقود الأطماع كلاً من “بيكالوجا وزوجته روزا” و”سكارميلا وزوجته لورا” إلى صراع أفقي عنيف، ومكاشفات درامية بين الاتهام والتشكيك بالعفاف، والترغيب والترهيب بين كلٍ من “باربي وزوجته ماريا” فتتدحرج حوارات هذين الزوجين إلى ما يشبه صفقة فاوستية، يعرض فيها الزوج على زوجته أن تعترف بأن أحد أبنائهما هو من علاقة غير شرعية أقامتها مع المهاجر الميت في ميعة شبابها، وذلك طمعاً بالحصول على ثروته والخلاص من شبح الفقر والفاقة. هذا العرض من الزوج سوف يفجّر غضب “ماريا” فتصرخ بعلو صوتها مخبرةً أهل القرية بما يريده زوجها منها، مما يضطر هذا الأخير إلى طعنها بسكين حادة عدة طعنات ترديها جثةً هامدة.
البحث عن الإبن
الجريمة يستغلها “باربي” ليخبر أهل “بلفنتو” بأنه قتل زوجته عندما أخبرته بأن ولداً من أولاده هو نتيجة علاقة غير شرعية أقامتها مع المهاجر الميت، فيصفق أهل القرية إعجاباً بـ”شهامته” لكونه غسل شرفه من عار هذه “المرأة الخائنة”! ونشاهد في اللوحة التاسعة من العرض حوذي القرية يقوم بجلب مهاجرٍ جديد إلى “بلفنتو”، لكننا نكتشف أن الحوذي جاء به إلى القرية الخطأ، تماماً كما فعل مع “مهاجر بريسبان” تخفيفاً من عبء طول المسافة على حصانه المرهق.
في النسخة السورية المُستجدة يمكن ملاحظة تلك الإسقاطات الماهرة على رغم أنها كانت خجولة بعض الشيء على واقع المجتمع السوري في الحرب، لعل أبرزها تلك المواجهة بين رجال القرية وشخصية العُمدة، وبين هذا وسكرتيره عند تقاسم حصصهما من مال المهاجر الميت بعد أن يوحي العمدة بأنه سوف يودعه في الخزينة العامة للدولة، في مفارقة عكست التصويب على السلطة واحتكارها للثروة، ومنعها عن عامة الناس، فيما يختلف رجالها على النفوذ ونهب المال العام. إشارة قوية من الفنان عروة العربي في ظل الظروف التي تشهدها البلاد منذ نيف وتسع سنوات، ومع الضائقة الاقتصادية الخانقة، وتصاعد أعداد الإصابات بفيروس كورونا المستجد في البلاد.
العرض الذي جاء كمشروع تخرّج لطلاب السنة الرابعة (تمثيل) في المعهد المسرحي شارك فيه على يومين وبطريقة “الدوبل كاست” كل من: إياد عيسى وكنان حاتم ودجانة عيسى وملهم بشر وإيلين عيسى وعلي إسماعيل وراما زين العابدين، جنباً إلى جنب كل من يوشع محمود ويزن الريشاني وحسناء سالم وآية محمود وحسن خليل وريموندا عبود وعلاء زهر الدين. جاء عرض “المهاجر” كتتمة لما بدأه هؤلاء في الشتاء الماضي مع عرض “الزير سالم” لمؤلفه المصري ألفريد فرج ومخرجه السوري- الفلسطيني حسن عويتي، إذ كان هذا الأخير قد تعاون مع الناقدة ميسون علي رئيسة قسم التمثيل في المعهد على تقديم رؤيا معاصرة عن بطل السيرة الشعبية.
صيغة واقعية
وأتى عرض “المهاجر” في صيغته الواقعية مكثِّفاً تسع لوحات في النص الأصلي إلى سبع مشاهد متتالية ورشيقة، مع الحفاظ على ساحة القرية وشجرتها كمكان رئيسي لجريان الأحداث وتطورها (صمم الديكور محمد كامل) والانتقال من الافتتاحية إلى العقدة فالحبكة فالحل، في بناء درامي تقليدي ساندت فيه إضاءة الفنان أدهم سفر في التناغم بين فضاء اللعب وفضاء الفرجة، بينما لعبت أزياء لين هزيم بألوانها وقصاتها الكلاسيكية على مقاربة شخصيات القرية الصقلية. وحذف المخرج شخصية “الخوري أورورى” مبدلاً إياه بأداء حيّ لمغني الأوبرا عبد الله عطفة بمرافقة عزف كلٍ من أمير زين الدين- بيانو و ماريا شاهين- تشيللو إذ لعبت الموسيقى هنا دوراً تصويرياً لأحداث العرض، من دون أن تكون فقط بمثابة تعليق عليها، لتصبح الموسيقى شخصية رئيسية انتقلت مع الشخصيات وصاحبتها نحو مآلاتها التراجيدية.
ويأتي عرض “المهاجر” ضمن صيغة اعتمدت على اللغة العربية الفصحى في الحوار، قاربها المخرج عروة العربي متكئاً على خبرته في إدارة ممثلين على عتبة الاحتراف، مزاوجاً بين الدرامي والشعري من جهة، وبين الشخصية والدور من جهة ثانية، من دون التخلي عن حرارة الأداء وتفعيل إيقاع العرض، مبتعداً عن الالتصاق بالنص الأدبي، حيث اللعب ولا شيء سواه يدفع بالشخصيات إلى الحضور النفسي الكثيف، وتوليد حركة متفاقمة مع الممثل الشريك، كلاً وفق مساحة الدور المُعطى له، وبالتوازي مع ثنائيات تفور وتغلي على خشبة المسرح، من غير أن تفقد تركيزها وسيطرتها على أدواتها في النطق والحركة والتواصل مع الجمهور.
وكانت “مهاجر بريسبان” قد قُدمت للمرة الأولى على مسرح “الريزيدنس” في ميونيخ عام 1965 بعد أن ترجمها إلى الألمانية كل من إيفون وهربرت ميير وحظيت أيضاً بترجمتين مهمتين من الفرنسية إلى العربية على يدي كل من المصري فتحي عشرى (دار المعارف- 1969) والشاعر السوري أدونيس (دار النهار -2004)، إذ توخى هذا الأخير الطاقة اللغوية للنص، مُخلصاً للنزعة الشعرية في مسرح الكاتب اللبناني الإسكندري المولد، البيروتي النشأة، والفرنسي الإقامة والتأليف. تلك النزعة التي جعلت من شحادة نداً لشعراء السريالية الفرنسية من أندريه بريتون، ورينيه شار، وهنري ميشو، وسان جان بيرس، وذلك منذ عرض مسرحيته الأولى “السيد بوبل” عام 1968 على خشبة مسرح “الكوميدي فرنسيز” والتي أثارت عاصفة من الجدل لدى نقاد الستينيات في فرنسا.