المسرحية السادسة ضمن برنامج فعاليات الدورة الثانية لمهرجان لبنان الوطني للمسرح – بيروت
ينشغل يحيى جابر في الآونة الأخيرة في شؤون المرأة. لعله انشغال ناتج عن اكتشافه كمخرج وككاتب للممثلة أنجو ريحان، “منجم تمثيل” حسب أقواله. لعله أيضاً اشتغال خاص به كرجلٌ يسعى للإضاءة على مظلومية المرأة في قالبٍ كوميدي.
الكوميديا هنا لب الطرح والحكاية: منذ ما يزيد عن النصف القرن، رأى بعض كتاب المسرح، في تعريف التراجيكوميديا، كأوجين يونسكو وفريدريش دورنمات وصمويل بيكيت أن الزمن الذي نعيش فيه يحمل كل عناصر المأساة، لكنه لا يمكن أن يفرز المأساة أو التراجيديا بمعناهما التقليدي. اذاً كان لا بدّ أن تفرز مشاهدات جابر المتعددة لمأساة المرأة في هذه البقعة من الأرض، “مجدرة حمرا”، عرض مسرحي مونودرامي يخلط كوميديا العادات بكوميديا الصالون بالتراجيكوميديا.
على خشبة تياترو فردان امتدت قطع اثاث أبرزها كنبة وهي مساحة أداء أنجو ريحان التي تلعب دور ثلاث شخصيات: مريم وفُطُم وسعاد. لكل من تلك النساء حكايتها الا أن ما يجمعهن بالإضافة الى الصداقة هو الإنتماء الجنوبي وتحديداً لمنطقة النبطية: فطم بقيت وفية لزوجها أبو علي – صاحب متجر الستائر. بعد وفاته بأكثر من عشر سنوات، حين يعرض أبو خالد عليها الزواج تعترض ابنتها الصغرى وتحرك أخويها لحرمان الوالدة من منزلها في حالة الزواج. سعاد تتعرض لعنف أسري من قبل زوجها. تتجاسر على هذا العنف بإطلاق النكت السخيفة طوال الوقت. سعاد هي الوحيدة التي تتوجه الى الجمهور. تقول لصديقتيها: “عم بحكي مع الجناني”. ومريم الكاتبة، المرأة الأقل جنوبيةً بين السيدات الثلاث تعيش بين فرنسا والضاحية الجنوبية وتتأرجح بين اغراءات طليقها للعودة اليه وبين دعوات زين، حب المراهقة، لتصبح زوجة ثانية في أحسن الأحوال أو لترضى بزواج متعة في أسوأها. سيداتٌ ثلاث يلتقين في بيت مريم، يتمددن على الكنبة، يتبادلن الأحاديث بكل عفوية وبساطة الى أن تأتي اللحظة النهائية الصادمة في العرض.
في سياقات حكاياهن، تتفتح الخصوصية الشيعية على مهل اذ يتيح جابر هذه المرة مساحة أكبر لنضج الحكاية وعلاقة الشخصيات مع بعضها البعض. لا يمنع ذلك من مرور سريع وأخاذ على ما لذ وطاب في هذه المسرحية الشهية شيعياً من طقوس البسكوت والراحة والزواج، واللطم العاشورائي، وزواج المتعة، وتعدد الزوجات وبالطبع المجدرة الحمرا.
تتمايز المرأة في مونودراما يحيى جابر الذي كرس لها حتى اليوم عملان، يتناول الأول
“اسمي جوليا” تجربة امرأة مع سرطانين، سرطان الثدي وسرطان بيئتها الذكورية اذ عانت منذ صغرها من مجتمع أبوي وصولاً الى الزواج حيث ظُلمت. أما الثاني فلحكايات نسائه، رغم قدرتها الفائقة على الإضحاك، وقعاً يلامس المأساة دون الغوص فيها. مأساة نساء يحيى جابر لا تنتج بالضرورة عرضاً مأساوياً بل تخلق شخصيات متينة قادرة على المقاومة لا تستطيع الا أن تجابه مأساتها بالضحك. هذا جزءٌ من اشتغال المونودراما النسوية لدى يحيى جابر. وهنا يكمن الفرق اذا قورن العملان مع أعمال جابر السابقة وهنا أعني “بيروت طريق الجديدة”، و”بيروت فوق الشجرة” وغيرها من الأعمال المونودرامية حيث يظهر الرجل كأداة لتمظهر عناصر المدينة وأهمها جماعاتها المتعددة: فؤاد الخياط في عرض بيروت فوق الشجرة كان أداة حكواتية لينة وطيّعة لترجمة تبدلات بيروت مع تبدلات السياسات الخارجية عبر حكاية زواجات فؤاد المتعددة، العيتاني في عرض بيروت طريق الجديدة لعب دور الحكواتي الذي يقدّم مساراً تاريخياً يحاذي منحى أنتروبولوجياً لحكايا أهل طريق الجديدة. ليس هناك من صراع أو اشكالية تؤرق كينونة شخصيتي فؤاد أو العيتاني. الرجل عند يحيى جابر هو أداة تعكس المدينة بينما المرأة تعكس مأساتها في الدرجة الأولى وتؤسلبها بالكوميديا. المرأة تبتلع المدينة بمأساتها وتنتصر عليها، ولو للحظات.
حين يجسد يحيى جابر المرأة في نصوصه تتبدل علاقة شخصياته مع المكان اذ تصبح لأي مكان خصوصية تتعدى الخصوصية الأنتروبولوجية كما في مسرحيتي بيروت طريق الجديدة وبيروت فوق الشجرة: بينما تنغمس شخصيتا فؤاد وزياد عيتاني في تنقل سريع في شوارع بيروت من طريق الجديدة الى وسط بيروت، حيث لكل شارع حكايته الخاصة ويعكس حالةً مجموعة من الناس وحالة مدينة بأكملها، تتحول الأمكنة لدى كل من جوليا ومريم وسعاد وفطم الى مؤشرات شخصية مرتبطة بذاكرتهن العاطفية: المكان الذي يستحق الذكر هو المكان الذي ترك أثراً مفصلياً في حياتهن.
في نصه الجديد، أضاف يحيى جابر عامل الفانتازيا الذي لم يكن بهذا البروز في أعماله السابقة. هنا يتبدى مشهد المجدرة الحمرا كأحد أجمل مشاهد العرض حيث تصف سعاد لصديقتيها كيف “طبَشَ” زوجها صينية المجدرة وتطايرت الحبات. في لحظة يتحول النص بتفاصيله الى مشهد سينمائي مع مؤاثرات خاصة بامتياز. لا تقتصر الفانتازيا على هذا المشهد فقط انما في مكان ما من العرض تصف فطم كيف تسلقت الشجرة ووصلت الى أعلاها حين نجحت في شهادة البريفية وكيف رأت العالم من فوق وكيف قفزت وكيف كانت سقطتها مدوية.
تنقلت أنجو بين شخصياتها المتعددة بكل سلاسة وعفوية ودون تكلف. أجادت اختيار الجستوس الخاص بكل شخصية من شخصياتها رغم انحسار حركة الشخصيات في كنبة: مريم، التي طلقت زوها لعدم رغبتها في الإنجاب والتي تضيع بين اغراءات الكرواسون والبسكوت والراحة تتعاطى مع جسدها بحرية، وفطم المنزعجة من موقف ابنتها تبدو حركات جسدها أكثر انغلاقاً، أما سعاد، الشخصية الأكثر اثارةً في العرض، تحدث الجناني أي الجمهور عما اقترفته حبات العدس… يا لحبات العدس… حباتٌ تفند ظلماً أصابها من ذويها الذين منعوا عنها حبها الأول وأجبروها الزواج بخضر… الزوج الذي يعنفها.. يا لحبات العدس ويا لجريمة… المجدرة الحمرا!
منى مرعي
(المدن)