المعلّقتان… امرأتا الوجود والعدم، الأمل واليأس، في مصعد واحد – علاء رشيدي #مهرجان_لبنان_الوطني_للمسرح2

المسرحية الثالثة ضمن برنامج فعاليات مهرجان مسرح لبنان الوطني في دورته الثانية – بيروت

لكي تضع شخصيتين متناقضتين وجهاً لوجه في حكاية، يتطلب الأمر حبكة أولية تبرر وقوع هذا الحدث، وذلك لكي يتم عبر الفن مناقشة فرضية مواجهة حتمية بين شخصيتين متناقضتين تماماً؟ يسمح المسرح باختبار هذه الفرضية، فما الذي يجري حين تتقابل شخصيتان على طرفي نقيض في مكان مغلق؟ الحبكة الأولية التي ينطلق منها السرد في مسرحية “المعلقتان”، هو توقف المصعد في امرأتين تستقلّانه معاً، الأولى تصعد الى حيث يجري كاستينغ لمسرحية تدور حول قصة حياة شاعرة عالمية رحلت منتحرة، الثانية متواجدة فيه منذ مدة غير معلومة حتى نسيت أن تخرج منه. تدوّي صفارات الانذار فيتوقف المصعد وتعلقان داخله لمدة طويلة جداً، نص حسن مخزوم.

الانحباس في المكان لمواجهة التناقض

للمصعد هنا رمزية الوجود، العالم المتأرجح بين الأرض/ الثبات، والفراغ/ المجهول، بين الهاوية وبين الوصول، كما تصفه إحدى الشخصيتين بالقول: “هذا العالم الأعمى والأصم، هذا البناء المظلم، لا نافذة، ولا سطح، ولا باب، ولا مدخل ولا مخرج، ما نعتقده سماء ربما لا يكون سوى كفن”، هكذا تتسع تأويلات المصعد/ المكان في المسرحية لتشمل الحياة الإنسانية بشرطها الوجودي: “يقال أدخلوا هذا العالم فندخل، ثم يقال أخرجوا فنخرج”.

هذا الانحباس المكاني المفروض على الشخصيات، وظفه جان بول سارتر في “الأبواب المغلقة، 1944” ليبرهن لنا على أن “الجحيم هو الآخرون”، وكذلك في “انتظار غودو، 1953” وظفه صامويل بيكيت في طرح رؤيته عن شرط الوجود الإنساني. في “المعلقتان” يوظف الكاتب هذا الانحباس ليكون فاتحة حتمية للتواصل بين شخصيتين أنثويتين، سنكتشف مع حتمية تبادل الأحاديث بينهما على أنهما متعارضتان على المستوى الفكري، النفسي، والاجتماعي، لتصبح مهمة النص الأدق هو البحث عن بنية فكرية ونفسية واجتماعية لكل منهما، أي طريقة تفكير، مجموعة وجهات نظر، رؤى عاطفية، وسمات طباع تجعل كل منهما نقيضة للأخرى، أو على علاقة جدلية مستمرة محسوبة داخل النص بدقة، فكيف يرسم العرض الملامح الجوهرية لكل منهما؟

العدمية والإيجابية وجهاً لوجه

يبدو التمايز بين الشخصيتين منذ النظر إلى علة تواجدهما في المصعد، فالشخصية الأولى (سارة عبدو) متواجدة في المصعد من زمن حتى نسيت أن تخرج منه، وكأنها في حالة اعتياد العزلة عن العالم، أما الشخصية الثانية (يارا زخور) فتظهر فاعليتها في محاولتها للمشاركة في كاستينغ مسرحية استقلت المصعد للوصول إليه. هكذا تتمايز كلتاهما عن الأخرى في الدوافع التي أنتجت قصتهما.

بعد ومضات من الإضاءة القوية، وموسيقى غيتار كهربائي ينطلق الحوار، تقول سارة: “منخلق بجسدنا لحالنا، بعدين؟ منفبرك الأجوبة ومنتوهم الحقيقة”. وبينما تحاول يارا الخلاص من ورطة المصعد، فإن سارة تكرر العبارات والاقتباسات الشعرية والفلسفية التي تبين أن هذا هو شرط الحياة الإنسانية: “حدن بيحكي مع الهاوية؟ ما تعذبي حالك يا مسكينة نحنا محاصرين بالفراغ. وين ما كنت شو رح يتغير، الحياة ما فيها شي مهم”، بينما تقول النقيضة: “الحياة ثمينة ولازم نتمسك فيها”.

تجاه العلاقة مع الحياة تبدأ ملامح التمايز بين الشخصيتين بالتوضح، الأولى عدمية بوعي أعمق، الثانية إيجابية لكن مثالية هي التي تقول: “إن لم يعجبك مكانك قم بتغييره، فأنت لست شجرة. بيقولو إذا كنتي إيجابية وتمنيتي شي وركزتي عليه ممكن يتبلور ويتحقق”.

تجسد المخرجة لينا عسيران المصعد بمجسم حديدي منصوب في عمق الزاوية اليمنى للمسرح، لكن الشرط الذي يفترضه النص، أي جريان كامل الحدث المسرحي داخل مكان مغلق، يفرض العثور على حلول إخراجية لتطبيق هذه المعادلة على الخشبة. عامل المصعد (أداء طوني فرح) هو الشخصية الثالثة في المسرحية، هو المنقذ الوحيد لكنه يتسم بالمزاجية وقلة الاهتمام بمصير المرأتين، عبر هذه الشخصية يمكن تحريك المجسم الحديدي الذي يمثل المصعد، لتؤدى المشاهد في مناطق متنوعة على الخشبة، لذلك تجري بعض المشاهد في الزوايا العميقة للخشبة، ومشاهد أخرى تجري في منتصف المسرح، أو في المقدمة بالقرب من الجمهور. هذه الحركة لمكان التجهيز الحديدي أو المصعد، تسمح للممثلين باستعمال كامل الخشبة كأنها فضاء المصعد المغلق، وهو حل إخراجي موفق للتعامل مع شرط المكان في هذا العرض.

العلاقة مع اللغة والكلمات

تتابع الشخصيتان الحوار الحتمي بينهما، الأولى قلقة من العتم، الثانية تفضله: “أنا معودة ع العتمة لأني بحب الليل، الناس بتنام وبصير أتخيلها جثث ملفوفة بشراشف التخت متل الكفن”، الأولى تستعمل المصطلحات الفرنسية في لغتها، الثانية تحاول تعريب كل مصطلح يلفظ بالفرنسية، والتشديد عليه كيف يقال باللغة العربية. هذا ما يوحي بأن لكلا المرأتين ثقافتين مختلفين، مرجعيات فكرية مختلفة، وأسلوب تعبير مختلف.

“إذا سكتنا كلنا منصير منشبه بعض”… أسئلة من مسرحية “المعلقتان” للمخرجة لينا عسيران

لكي تضع شخصيتين متناقضتين وجهاً لوجه في حكاية، يتطلب الأمر حبكة أولية تبرر وقوع هذا الحدث، وذلك لكي يتم عبر الفن مناقشة فرضية مواجهة حتمية بين شخصيتين متناقضتين تماماً… هكذا تبدأ مسرحية “المعلقتان”

الكلمات سابقة على مشاعرنا

في العلاقة مع اللغة أيضاً يجري حوار بين (يارا) و(سارة) عن الشعر، الأولى: “الشعر فن بلون العالم”، الثانية: “أنا حبيت الشعر بس مش أكتر من 10 دقائق”، وكذلك حوار آخر عن الكلمات، الأولى: “بالكلمات بغني وبمزح، بزعل وبتغزل وبجعّر”، الثانية تشعر أن الكلمات صُممت قبل مشاعرها، هي غير قادرة على التعبير عن مشاعرها بالتحديد: “كلمات الحزن والاكتئاب والملل والتعاسة والإحباط والقنوط كلها خلقت قبلي، بس أنا بدي كلمة لحالتي أنا بالذات”، وتضيف في وصف اللغة: “كلها أصوات وطقطقة نحنا اللي منعطيها معنى ومفعول”، لكن ليارا رأي معاكس تماماً، تعتقد أن الكلمات هي ما يميز بين الإنسان والآخر: “إذا سكتنا كلنا منصير منشبه بعض”.

الوحدة بين الخيار والإجبار

صوت موسيقى يأتي من خارج المصعد، يكون فاتحة لإلقاء يارا قصيدة، كأنها قصيدة للشاعرة التي ستمثل دورها في كاستينغ المسرحية، هي تتضمن رؤية عن الوحدة: “الأزواج يدهسون الأزهار حين يرقصون فرحاً في العرس، أما الوحيدة فتصادق الأزهار لأنها هادئة كالحجارة، الوحيدة ضباب، نغمة شاذة، الوحيدة تحب القلم، هو ناقلها من العدم إلى الوجود”، هنا الوحدة حالة من الانعزال المفروض، أما الأخرى (سارة) فهي ترى أن داخل المصعد أفضل من الخارج، من الحياة: “أنا بعيد عنك ميزونتروبية”، وتشرح معنى الكلمة، القرف من البشر. هنا تكون الوحدة والعزلة خياراً واعياً شخصياً.

تقدم الممثلتان (سارة عبدو، يارا زخور) أداءً متميزاً في هذا العمل المسرحي، الذي يتطلب نصه المليء بالإلقاء الشعري والأقوال الفلسفية مجهوداً استثنائياً في تقنيات الإلقاء، وكذلك نقلات سريعة في تنويعات الحالات الشعورية مضغوطة بالزمن، وكذلك فهم عميق للبنية الفكرية لكلا شخصيتي المسرحية. يفرض النص المكثف فلسفياً وشعرياً أيضاً على الإخراج إيجاد الحلول التي تجعل من استمرارية السرد مقبولة أمام المتلقي، فتطلب المخرجة من الشخصيات تنويعات في وضعيات جسد الممثلتين على المسرح حين الإلقاء، تنويعات سواء في علاقة الجسد مع الفراغ المسرحي (في العمق، في المقدمة، في المنتصف)، أو في علاقة جسدي الشخصيتين مع بعضهما البعض (فوق بعضهما البعض، بجانب بعضهما البعض، أو مستلقيتان على الأرض في حالة الإلقاء)، كلها تنويعات جسدية للإلقاء والحوار المسرحي المستمر.

الغيرة، الرقابة الذكورية، والتزمت الديني

بعد رسم معالم الشخصيتين الفكرية، النفسية والعاطفية، نصل إلى البعد الاجتماعي الذي يكمل رسم سمات الشخصيات. تروي شخصية يارا مجموعة من المشكلات الاجتماعية التي تضغط على حياتها، مثل الغيرة: ابنة عمها منعتها من زيارتها غيرةً على زوجها. الرقابة الذكورية: ابن خالتها يراقبها ويتدخل في حياتها بحجة العرض والشرف. التزمت الديني: جارها الطائفي والذي يفرض عليها طريقة اختيار الملابس. الطبقية: صديقاتها اللواتي يسخرن من ملابسها أيضاً. تعلق شخصية سارة: “وين النيزك يحرق الأرض؟ دخيلكم قنبلة بشرية تبيد البشرية”، وتقتبس من الكاتب الروماني إميل سيوران في مقولة ثانية: “أكبر خطيئة يرتكبها الإنسان هي الولادة”.

ينتهي العرض دون خلاص يارا وسارة من شرط الانغلاق في المصعد، فالمصعد هنا رمز التعالق مع الوجود والحياة، وهذه الرمزية يجب ألا تصل إلى الخلاص. “المعلقتان” عرض يقدم جرعة فكرية وشعرية للمتلقي ضمن رؤية إخراجية، أثبتت فيها لينا عسيران ميلها إلى التعامل مع هذا النوع من النصوص التي تدمج الفلسفة والشعر بالمسرح، بعد أن قدمت العام الماضي “هاملت ماكينة”، نص المسرحي الألماني هاينر مولر.

علاء رشيدي

(رصيف 22)

Check Also

“أصل الحكاية” يتربع على عرش مهرجان لبنان للمسرح #لبنان

 

حمل استمارة المشاركة في الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي

This will close in 5 seconds

استمارة النسخة التاسعة 2024 من المسابقة العربية للبحث العلمي المسرحي

This will close in 5 seconds

مسابقة تأليف النص المسرحي الموجه للكبار فوق سن 18 "الإنسان في عالم ما بعد إنساني"

This will close in 5 seconds

مسابقة تأليف النص المسرحي الموجه للطفل من سن 3 إلى 18(أطفالنا أبطال جدد في حكاياتنا الشعبية)

This will close in 5 seconds