جي بي سي
بين الحداثة وما بعد الحداثة
الأستاذ الدكتور
حسين التكمه جي
أثار عرض مسرحية جي بي سي للجزائر ضمن عروض الهيئة العربية للمسرح في مهرجان عمان جدلا واضحا حول عدم فهم انتمائه الأسلوبي غير الواضح , للمخرج محمد شرشال والذي فاز بجائزة الدكتور سلطان محمد القاسمي .
عد شكل العرض نقطة انطلاق جديدة في المسرح العربي في محاولة تخريب فرضيات الحداثة نحو ما بعد الحداثة التي تسعى الى عالم مفترض غيبي النزعة ينسحب نحو الغموض والفوضى مستندا الى توظيف الجسد والمشاهد المتشظية مقدما عددا من النمر المسرحية في محاولة لاستخدام الشفرة المزدوجة والتورية الساخرة والغموض والتباس المعنى , لذا انتقل العرض الى موت عناصر السرد وتوطين الهمهمات والصرخات الصوتية المفهومة وغير المفهومة في محالة للإلغاء سلطة المؤلف لتوكيد سلطة السيناريو , وبهذا تم كسر هيمنة النسق المركزي والبحث عن لغة بصرية ممزوجة ومدعمة بالإيقاع الموسيقي فضلا عن قدرة المؤدين على المرونة الجسدانية , في محاولة لتوكيد مفهوم اللعب واللاعقلانية والفوضوية.
معتمدا بالكلية على الطاقة المتأججة واقصاء المنطق العقلي واضعا الحس بديلا له بحسب فلسفة نيتشة .
لذلك فوجئنا للرؤية الاخراجية بعدم تحديد الأسلوب او ملامح اسلوبية ذلك من كون المخرج الغى وحدة الحدث مستخدما العزل الضوئي والايقاع الموسيقي المكرور لفصل النمر عن بعضها, لذا وجدنا العرض بصيغة وجود جماعي شبه انساني متنافر مع شكل المجتمع , فالشخصيات صور مبتكرة من لعب أطفال وتلاعب بالتشوية بالمكياج او استخدام الأقنعة المتنوعة بدءا من النمرة الأولى حتى المشهد الأخير الذي شكل عالم متعدد الوحدات وغير المتجانس , وعلية فان النمر هي لوحات لشخصيات شبه إنسانية الا ان افعالها انسانية متعالية من الميكانو والانسان الالي ولعب الأطفال ,وعلية فإن النمر هي لوحات بالعمل الطاقمي تنهض على وحدات ترميزية وحركات تعبيرية وادائية نتيجة الطابع الرمزي ,
وتخضع جميع الشخصيات لمنطق القهر والبحث عن الخلاص والحرية والهروب من الواقع عن طريق القطار المنتظر الذي يعد الوسيلة الوحيدة للإنقاذ دون جدوى بوصفه عالم مفترض من العرض والصور غير الواقعية التي تؤدي لغياب المعنى والفكرة , الا ان المخرج سعى في بعض نمره ان يوصل بعض الرؤى من خلال السخرية المغمسة بالألم مثل استلاب الطفال من عالم حنان الام الى عالم الاكراه ذا الدلالات الرمزية ضمن حواضن المشفى والطبيب غير المبالي وصولا لمساحة الانتظار العقيمة في النمرة الأخيرة تحت ساعة الانتظار في المحطة وانتظار شبح القطار الذي لم يصل بوصفة المخلص .
لعل فوضى الأساليب قد اتضحت , فمسرح ما بعد الحداثة لا يؤمن بما جاءت به الحداثة ولذا فهو يوظف اكثر من أسلوب ويحقق شفرات مزدوجة ومتشظية تصب في الغاء التاريخ والبحث عن نسبية الفهم فهو مسرح بلا دراما بل هو مسرح الهستيريا الأنطولوجي والوجودي.
العرض ومخرجه حاول ان يوائم بين أساليب الحداثة في دمجها مع توجهات ما بعد الحداثة لذا غاب المعنى وتشتت الفكرة , ولعل العمل الطاقمي قد رفع العرض بالأداء المتقن والمترابط مع الموسيقى وايقاعاتها فضلا عن المرونة الجسدية في تشكيل حركات ارادية ذات قدرة على إيصال مجموعة من الأصوات والهمهمات مع الأداء الحركي المرتبط بالإيماءة والاشارة نحو فهم قصدية الفعل في اغلب النمر في حين ضاعت الكثير من الحركات وما رافقها من دلالات دون ان تحقق معنى ذلك ان الصورة في اكثر الأحيان تتحدث بلغة المعنى .
العرض قدم متعة حسية اكثر منها متعة فكرية بسبب غياب المعنى وعدم تنامي الفعل نحو ذروته المعهودة كون ما بعد الحداثة تلغي المفهوم الفائت وتستدعي مفاهيم جديدة , والحقيقة كل ما قدم على الخشبة ينتمي الى ما بعد الحداثة , في محاولة من المخرج لمحاكاة ما بعد الحداثة الاوربية , والتي ابتدأت تاريخيا من عصر التنوير ثم عصر الحداثة ثم عصر ما بعد الحداثة وأخيرا الحداثة الزائدة او عصر ما بعد بعد الحداثة , والسؤال هل ان ما بعد الحداثة انقلاب على الحداثة ؟ والجواب ليس انقلابا شاملا بل ان دور الحداثة تاريخيا قد انتهى مما يفترض قراءة جديدة للواقع ومتغيراته السياسية والاجتماعية , والحقيقة هو ان نقدم قراءة جديدة للواقع العربي بكل متغيراته الحديثة التي اتسمت بالتقلبات السريعة فأثرت على البنى الفكرية اذ لا بد من البحث عن مباني أخرى في عروض مسرحية لقراءة الواقع وليس تهشيم الصورة .
يؤاخذ على العرض كثرة الإضافات الزائدة والتي لم تقدم شيئا بقدر ما كانت معيقة للفهم والادراك , وكذلك توظيف الحجب الضوئي وهو من مسلمات الحداثة , فضلا عن توظيف الستارة وهي من مدخلات الحداثة واستخدام الموسيقى ذات الطابع الأوربي, ان ضروب التقديم فيما لو التزمت بمعايرها العربية فإننا سنشهد عرضا مميزا لما بعد الحداثة العربية فكرا ومفهوما للإنسان العربي وحاجاته وهمومه الفكرية والمعرفية .