ظلت الممارسة المسرحية منذ ميلادها الأول، مرورا بقطائعها التاريخية، وصولا إلى تحولاتها الحديثة وما بعد الحديثة تعبيرا عن ممارسة جمعية بالأساس، وكشفا عن تجربة الفرد والجماعة في إطار المدينة ـ الدولة؛ هذه الأخيرة التي سنت سلطة المسرح، وفتحت ـ إلى جانب مجالس الشعب ـ ساحاتها للنقاش العمومي، كي يخوض فيه الجميع بما فيه المسرح نفسه. وقدمت الفضاء العام بوصفه فضاء واسعا للحرية والديمقراطية، وللسؤال والتفكير الحر، وللتحريض والاحتجاج، وللفرجة والاحتفال..
بالرغم اشعاع المسرح وخفوته ثم اشعاعه مرة أخرى، فقد ظل المسرح ـ دوما ـ مرتبطا بالفضاء العام يتأثر به ويؤثر فيه، ويصبح الهم الجمعي وتداوله، والكشف عنه أساسه وغاياته. ومن المسرح الذي تحتضنه الفضاءات المغلقة، تلك التي تستوعب عددا معينا من الجماهير، وتمارس عليه سلطة معينة ورقابة من نوع خاص، إلى المسارح الجوالة التي واصلت فك قيود الرقابة، وصولا إلى مسرح الشارع الذي يرفض كل رقابة، ويضع الممارسة المسرحية في قلب الفضاء العمومي، لكي تساهم في تشكيل الرأي العام، وتكشف عن الزيف، وتتبنى شخصيات تحمل فصيلة دم أخرى تقع بين سندان الحرية والديمقراطية ومطرقة الرقابة والتوجيه.
فماذا يعني أن نكتب لمسرح الشارع؟
إننا نسمع ونتابع، هنا وهناك، العديد من الفرق المسرحية المحترفة أو الهاوية قد بدأت الآن، أو ربما منذ زمان، في فتح آفاق لممارستها المسرحية كي تقع في قلب الفضاء العمومي، وأن تحمل هوية مسرح الشارع. فهل هذا يعني بالفعل أنها تقدم مسرحا للشارع؟ ما رأيتها للفضاء العام؟ وللرأي العام؟ أي وعي لمفاهيم الحرية والديمقراطية وللرأي العام؟ وماذا عن كتابتها الدرامية الموجهة لمسرح الشارع؟
إن المتابع للشأن المسرحي، قد يجد صعوبة بالغة في إيجاد نصوص مسرحية منشورة وموجهة خصيصا لمسرح الشارع أو يمكن القول بانعدامها، مادامت أغلب التجارب المسرحية تشتغل بطرق أخرى لبناء نص العرض من كتابة ركحية وعبر آليات الارتجال. ويمكن القول أيضا، بأن النص المسرحي <حكايا السيرورا> لمؤلفه محمد أمين بنيوب، عن فكرة عزيز الخلوفي، وبأزجال محمد أمين الساهل، قد يكون من بين أولى النصوص المسرحية المغربية الموجهة خصيصا لمسرح الشارع.
أن تكتب لمسرح الشارع عند محمد أمين بنيوب، وانطلاقا من <حكايا السيرورا>، معناه قبل أن تنزل إلى الشارع العام، عليك أن تطرح سؤال الشارع أو سؤال (الزهرة) في الإيقاع الثالث من المسرحية:
“شكون أنا، بلحق شكون أنتوما؟!”
ومعناه أيضا، كما جاء في الإيقاع الثاني من المسرحية، أن تضبط لغتك وأن تزن كلامك:
“وزن كلامك آ الرعواني.. راه حنا في الساحة”
ثم النزول إلى الفضاء العام وأن تخترق عنفه، فالساحة كما جاء في الإيقاع الرابع من المسرحية:
“الساحة العمومية للصراخ والفضاء العمومي للبوح.. للي خاصو يتكال.. كول .. هضر.. تكلم.. خوي لمزيودة.. خرج.. صرخ.. غوت.. كول ولوح لعباية.”
ومعناه أيضا أن تقتفي تشوير طرق الهامش، وتقف على ضفاف هوامش المجتمع ونواميسه القاسية، وأن تستوعب أنك أمام فصيلة دم أخرى من شخوص المسرح والحياة لا هي بالمقدسة ولا بنصف إله، إنها من فصيلة (الزهرة) و(عبيقة) و(سيمو) في <حكايا السيرورا>.
فمما تتشكل المادة الدرامية للمسرحية؟
تتشكل المادة الدرامية التي اعتمد عليها محمد أمين بنيوب في <حكايا السيرورا>، انطلاقا من نظرته التحليلية والجدلية للواقع، التي تستوعب أسئلة أولئك الذين لا يتزحزحون من المركز ولو سجل سلم ريختر أعلى درجاته ممن يتاجرون في كل شيء مما ذكرهم الإيقاع السادس في المسرحية، وقدرته الفائقة على تتبع نبضات من يقطن الهامش ممن تختزل حكاياته في حراسة السيارات على رصيف بائس أو كل من يحمل فصيلة من ذكرهم في الإيقاع الخامس من المسرحية:
“الشماكريا الموسخين.. المقطعين، المكردين.. الجيعانين.. الموضرين.. والمجاديم.. المشرلمين.. أولاد الزنقة.. أولا السوق.. أولاد القح.. أولاد القردة.. فاميلة البوعارا..”
إلى جانب من يمتهن بعض المهن الهامشية كتلميع الأحذية مثل (الزهرة) و(عبيقة) و(سيمو)، وبالوعي التام بمعنى الفضاء العام ومبناه الذي يسع الجميع حقا وواجبا، وبتحولاته إلى الفضاءين المسرحي والدرامي، وبالاعتماد على قصائد من فن العيطة وفن الصلام وبعض الأزجال؛ نجد لغته ومادته الدراميتين في <حكايا السيرورا> تبحث في تفاصيل الشخصية ودقائق الخطاب.
وما الخطاب الذي تكشف عنه شخصيات (الزهرة) و(عبيقة) و(السيمو)؟
انطلاقا من برولوغ عبارة عن ايقاع افتتاحي، ثم الإيقاع الأول وسمه المؤلف بـ (اقتحام الساحة)، والإيقاع الثاني بعنوان (الفتوح)، والإيقاع الثالث بـ (شكون حنا)، والإيقاع الرابع بـ (هوية على إيقاع فن الصلام)، والإيقاع الخامس بـ (تقرقيب الناي)، والإيقاع السادس بـ ( أخبار الجورنال في الساحة)، ثم الإيقاع الأخير عبارة عن (الختم)، تكشف الشخصيات الثلاثة عن خطابها الثوري والهامشي وعن أسرارهم وهويتهم:
فصندوقة مدفون..
شلا سرار..
راس مالو..
سيراج وشيتة.
زمان واش من زمان..
شي يلمع حالتو..
شي فصندوقة..
تشمعات كمارتو.
وللي حاكم فالزمان..
ملجم عاودو الهايج..
منين يزيغ..
يتكيه للذبيحة.
وصل 18 عام.. شخصية بلا هوية.. حياة معفونة ومنكوبة.
عايشين عيشة مزاكلة ومفاكمة
شي يدين معفونة.
غسلات بالصابونة.
ماتنقاو يدين..
وتوسخات الصابونة”
يمكن أن نعد مسرحية <حكايا السيرورا> لمحمد أمين بنيوب نصا مسرحيا يدعو إلى التفكير الحر عبر الفضاء العام الواسع الذي يحوي الجميع.. فضاء الحرية والديمقراطية، ويدعو إلى الانتباه إلى شخصيات الهامش التي تؤثث فضاء المدينة وأزقتها، ويعرض الهم الجمعي للتداول. كما يعد النص كذلك نصا موجها بالأساس إلى مسرح الشارع، بلغة درامية واعية بعيدة عن كل ما نتابعه في العروض المسرحية الأخرى الموجهة إلى الشارع من (الغوات والغوات). بل بلغة درامية تتأسس على نظرة تحليلية وجدلية للواقع، وترفع لغة الشارع ولغة البوعارا والشماكريا إلى لغة جمالية مسرحية، تترك للمتلقي مساحات للتأويل، وللمبدع فرغات للتحقق الفني والجمالي.
د.عبد المجيد اهرى – باحث مسرحي من المغرب