ليس خافيا تأثير المسرحي الألماني برتولد بريخت على المسرح العربي، تأثير ولو أنه جاء متأخرا لكنه تجذر في السنوات الأخيرة بشكل لافت، حتى أننا لا نجد مسرحيا غير متأثر بالمسرح الملحمي البريختي، وتبدو استعادة ملامح المسرح الملحمي مهمة الآن مع بروز أصوات أخرى ضد بريخت، تدعو إلى العودة إلى الماضي، عازلة المسرح عن محيطه الاجتماعي، معيدة إياه إلى حلقة البرجوازية في تخلّ عن دوره الاجتماعي والثقافي والفني.
كتب المسرحي الألماني برتولد بريخت أولى مسرحياته “بعل” وهو في الحادية والعشرين من عمره (1918)، وسبقها ببعض الأغاني والقصائد القصصية “البالاد”، ولا شك أن “بعل” حملت حياة بريخت الشاعر والفنان الذي خالط الصعاليك والفنانين المتجولين والعمال العاطلين، وارتاد الحانات والحواري والأزقة الضيقة، وبذلك عبّرت المسرحية عن واقع الفرد واغترابه في مجتمع لا يحقق له إمكانات الحياة الضرورية، ويدفع به نحو مناطق التوتر والضياع، وهو الشكل السائد للكتّاب المعاصرين للحرب العالمية الأولى.
وانطلق بریخت بعد ذلك ليؤسس منهجه الملحمي في المسرح الذي هدف من ورائه إلى كسر اندماج الممثل في الشخصية المسرحية التي يقوم بها، وتحرير المتفرج أيضا من هذا الاندماج السلبي، ليكون أهم انقلاب في جمالیات العرض المسرحي في القرن العشرين، وعبر سنوات إبداعه التي شارفت على الأربعين عاما، استطاع بريخت أن يضيف إلى صلب الدراما تيارا قويّا بظلاله على خشبة المسرح في كافة أرجاء العالم.
ومع بداية الخمسينات من القرن الماضي، انتقل مسرح بریخت إلى الخشبة العربية في مصر ولبنان وتونس والمغرب والعراق وغيرها، لتتجلّى تأثيرات هذا المسرح البريختي في كافة عناصر المسرح من كتابة وإخراج وتقنيات جمالية، ومازال بریخت يمارس حضوره في
المسرح العالمي، ومن ثمّ تنهض الأسئلة حول ما تبقّى منه عربيّا، وتأثيراته على الخشبة العربية وحاضره اليوم ومستقبل منهجيته. ويرى نقّاد بريخت أن ما يميّز منهجه أنه وبالرغم من سقوط الأيديولوجية الماركسية التي قام عليها، يظل منهجا فكريا وفنيا صالحا للتطبيق في كل زمان ومكان، وأهميته تتركز في أنه المنهج أو الأداء الوحيد في الدراما الذي يحقق وظيفة التنوير كما ينبغي أن يتحقق، وهو يسعى إلى العدل الاجتماعي في غيبة الأيديولوجيا.
تأثير بريخت
على المستوى العربي، ترك بريخت آثاره في عدة بلدان مثل سوريا، حيث قُدّم له مسرحية تعليمية هي “القاعدة والاستثناء” سنة 1992 في مسرح الجيب، وأخرج له المخرج الراحل سعد أردش مسرحية “الإنسان الطيب” سنة 1966 ثم “دائرة الطباشير القوقازية” سنة 1968 مع المخرج الألماني كورت فيت، وقد فرض بریخت نفسه أيضا على المسرح في سوريا والعراق ولبنان بشكل خاص، كما تم تقديم مسرحية “الأم شجاعة” التي أخرجتها ليلى يوسف في أوائل السبعينات، ولكن بریخت تسرّب كمنهج إلى معظم كتّاب المسرح المعاصرين والذين حاولوا مناقشة قضايا الأمة الاجتماعية والسياسية، ونلاحظه بشكل واضح لدى أعمال المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس والمصري ألفريد فرج وميخائيل رومان ومحمود دياب وغيرهم.
بصمة بريخت كانت وما تزال واضحة على المسرح العربي، وليس فقط من زاوية الكتابة بل حتى الأداء والإخراج والديكور
وعى هؤلاء المسرحيون أن الهدف المسرحي هو التفكير والتغيير من خلال المنهج الملحمي الذي استخدمه بریخت، ولم يقف هؤلاء عند تقنيات بریخت فالفن لا يكفي فيه المحاكاة بل لا بد من الإضافة، وهذا لا يمنع أن يظل منهج بریخت لقرون طويلة مثل المنهج الأرسطي، وأن يتكيّف مع الاحتياجات الجديدة، فإذا كان بريخت قدّم منهجية البناء الاشتراكي ونقد الرأسمالية بكل فظاعتها وأزماتها، فإن المجتمع الرأسمالي ما يزال قائما ومنهجية بریخت صالحة من أجل التغيير إلى مستقبل متفتح آخر.
وتسرّب بريخت أيضا إلى الكثير من المخرجين العرب الذين زاوجوا بين منهج ستانسلافسكي ومنهج بریخت العقلاني القادر على إيصال الدلالة بشكل أوضح للجماهير، وحتى الممثلون العرب الكبار تسرّب إليهم منهج بریخت من خلال القراءة أو المشاركة في أعماله.
ولعله من الواضح أن تأثير بريخت لم يكن قاصرا على بعض المؤلفين، أو على كسر الإيهام ومحاولة إحداث صدمة، بل أصبح كل ذلك تقنية معترفا بها، ويقوم بها معظم المسرحيين، فقد ألقى بریخت بظلاله على الإخراج والتمثيل، وكافة مشتملات العرض المسرحي فالممثل الذي يقنع الجمهور بأنه يمثّل هي تقنية بريختية، والمشاهد الذي لا يستغرق في العرض أو يتوهم بأن ما يعرض طبيعي، لأن هناك مسافة لإعادة النظر والتفكير في النص وهذا ما كان يقصده بريخت.
المسرح الملحمي
ترى الناقدة فريدة النقاش أن منهج بريخت لم يستنفد قدراته وإمكاناته الكامنة بعد في المسرح العربي ولا العالمي، بالرغم من تأثيره القومي في الأجيال الجديدة من الكتّاب والمبدعين المسرحيين في العالم العربي، ومازال بريخت ومسرحه الملحمي الذي يعتمد على ذاكرة الجماعة وقدرتها على أن تخط لنفسها أفقا للمستقبل ليس مجرّد موضة عابرة تنبثق ثم تنطفئ كالشهاب لأنها تلبّي حاجات عابرة.
وتضيف “أن مسرح بریخت يلبّي حاجات عميقة ودائمة الحضور في عصرنا وأحددها على النحو التالي: إن مسرحه الملحمي اعتمد اعتمادا كبيرا على دور الجمهور وعلى كسر الإيهام، وعلى النزعة التعليمية من جهة ثالثة، وحاول في هذه التركيبة التي قطعت مع تراث الخشبة المغلقة الإيطالية وميّزت عصرا هو عصر الشعوب ليختلف بشكل جذري عن المسرح الشكسبيري الذي أعتبره القمة في ما أنجز في هذا الميدان، وجاءت هذه التركيبة كي تعبّر في تجاوز للعالم البرجوازي، وخلق عالم شعبي حقيقي عبر المسرح، وبالتالي كان لا بد أن تصبح أدواته وقيمه ورؤيته إلى العالم جديدة كل الجدّة، لتميّز عصرا بكامله مازالت إمكانيات هذا المسرح فيه لم تستنفد بعد، أي العصر الذي تشعر فيه الشعوب جميعا إلى تجاوز الوضع الراهن للرأسمالية وبناء عالم جديد بقيم جديدة وأفكار جديدة”.
وتضيف النقاش “لقد أثّر بریخت واسعا في كل أجيال المسرحيين في الوطن العربي منذ عرفناه في الخمسينات، فتأثر به أهم الكتاب من محمود دياب وميخائيل رومان (مصر)، وعبدالكريم برشيد (المغرب)، وعزالدين مدني (تونس)، وروجيه عساف ونضال الأشقر (لبنان)، وسعد الله ونوس في سوريا. وقاسم محمد ويوسف العاني (العراق)، أي أن بصمته كانت وما تزال واضحة جدا على المسرح العربي، وليس فقط من زاوية الكتابة فقط بل من زاوية الأداء والإخراج والديكور، فعلى سبيل المثال كان بريخت يدعو إلى إضاءة شاملة لكي لا يوحي بأيّ شكل من الأشكال أن ما يقوم به حقيقي، ويدعو المتفرج إلى دور ايجابي وليس كمتلق سلبي”.
وتعتبر النقاش أن بريخت علامة مسرح النظام الرأسمالي وضرورة تجاوز هذا النظام وإحدى العلامات الإنسانية فيه، ولم تكن مصادفة، فقد كان بریخت مناضلا اشتراكيا وشاعرا وفنانا مسرحيا اشتراكيا، وسوف يبقى تأثيره مثلما بقي تأثير شكسبير، وربما بنفس القوة والزخم، وهو تعبير عن احتياجات كامنة ولم يجر التعبير عنها بشكل واضح مثلما عبر بریخت، هذا ليس معناه أن تيار بریخت يبقى دائما هو التيار الوحيد، فنحن نعيش في مجتمعات لها طابع التعدد، وسوف تبرز تيارات أخرى، لكن تيار بريخت سيظل هادرا وقويا لأنه استلهام الاحتياجات عميقة في التحوّل الموضوعي للإنسان، نحو تجاوز عالم الفوضى والوحشية إلى عالم أفضل وأرقى”.
أما الناقد حسن عطية، أستاذ النقد المسرحي بأكاديمية الفنون، يقول بقي من بریخت الكثير وتأثيراته الأساسية على المسرح العربي ليست فقط من خلال التأثير المباشر، وإنما أيضا تأثيره في الكتابة الدرامية لدى عدد كبير من الكتاب مثل سعدالله ونوس والفريد فرج ويسري الجندي وغيرهم،
وبالنسبة لصياغة العرض المسرحي والتعبيرات التي طرحها بريخت مثل كسر الحائط الرابع والجدل مع الجماهير، وفهم المسرح كأداة تأثير تغييري وتنويري في المجتمع، إن مسرح بریخت يعتبر أهم انقلاب مسرحي في جماليات العرض المسرحي في القرن العشرين، ولذلك سيبقى تأثيره مستمرا إلى زمن طويل قادم، طالما المسرح العالمي وليس العربي فقط في حاجة للتجديد.