أبو الفنون أو الفن الرابع ، ذلكم العالم السحري الخلاّق الذي يجمع بين المتعة الحسية والذهنية والروحية ، ومتعة الوجود وجدلية الحياة ، في عمليته الإبداعية وتجسيده للشخوص والوقائع ونقله للأحداث ومحاكاتها ضمن مسار ثقافي وفني وحضاري واسع الأفق من شأنه ضمان تواصل الأجيال وتغذية الأفكار الجادة والجريئة ووضعها على سكة الإبداع السليمة التي من شأنها السموّ بالفن الرابع وضمان استمراريته بخاصة في عالم التكنولوجيا الواسعة والمدّ المعلوماتي الهائل .
ولتحقيق كل ذلك ، كان لابدّ من تنشيط دورات تكوينية في القواعد والأسس المسرحية التي من أولوياتها التأثيث لفعل إبداعي واعد ، وتزفيت الأرضية لصالح المهتمين بالفن الرابع وتمكينهم من الأدوات الأساسية والركائز العامّة التي تحكمه نظريا وتطبيقيا .
تحقيقا لذلكم الهدف ،أخذ قطاع الثقافة بعين الدفلى على عاتقه بعث فعاليات دورة تكوينية في المسرح وعلى رأسه السيد المدير ” حسناوي محمود ” ، الذي رأى حتمية التكوين في مجال المسرح ضمن أسس منهجية لصالح الشباب نظريا وتطبيقيا في مجال النص والعرض المسرحيين ، ووفق ذلك تمّ تأطير ورشتين تكوينيتين ، الأولى في حقل ” الكتابة الدرامية ” للأستاذة ” برمانة سامية ” والثانية للفنان ” زموري سمير” في مجال ” الأداء التمثيلي” .
التربص التكويني الذي استهل منذ 24 من شهر ديسمبر ويمتد إلى غاية 29 من ذات الشهر لسنة 2018 ، والذي احتضنتنه فضاءات دار الثقافة ” الأمير عبد القادر” ضمن شقّ نظري وتطبيقي ، عرفت استقطاب لفيف من الشباب من مختلف مناطق وبلديات الولاية الذين أبدووا رغبتهم في التكوين ومدى حاجتهم لكذا تربصات تكون أمامهم أفقا نحو استكشاف مواهبهم واستنطاقها ميدانيا .
في ضوء هذا ، كانت الورشة التكوينية في حقل ” الأداء التمثيلي” من تأطير الفنان “زموري ســمــيـر” ، والتي من خلالها انتهج واتّكأ على مجموعة من المحاور ، وكانت في مقدّمتها الصفات العامة للممثل ، وبما أن ذلك الأخير ( الممثل ) يحمل على عاتقه مهمة الأداء عن طريق مخاطبته للجمهور المتلقي وفق عديد العمليات التي تستنطق الإدراك الحسي والوجداني كقاعدة أساس لبث الخطاب الفني تحقيقا لمتعة بصرية ، باعتبار هذا الممثل وسيطا بين الخيال الخارجي والواقع على خشبة المسرح ، ما بين العرض والمتلقي تحقيقا لهندسة عامة للعرض .
وههنا كان لزاما البحث عن أدوات ووسائل للممثل التي بفضلها يقدّم لنا رسالة العرض وفكرته وطرحه أيا كان اتّجاهه ، ومن أهمّ الأدوات التي تعدّ ركيزة في العملية الإبداعية نجد الجسد وما يتعلق باللياقة البدنية حتى يكون هذا الجسد مطواعا وقابلا للتأقلم مع أية وضعية ركحية ، فجسد الممثل علامة من علامات العرض المسرحي ويخضع لتدريبات عملية تهيئه للتعامل مع دلالات العرض ومدى علاقة لغة الجسد مع باقي علامات العرض الأخرى .
والممثل وفق تلكم التمارين العملية يتمّ تهيئته وتحضيره إلى تقمص شخصية أخرى غير شخصيته ، فكلّما كنّا أكثر وعيا بجسد الممثل كلّما أثرنا في أسلوب العرض وفق مسار التقنية التدريبية ، مركّزا على أن جسد الممثل قابل للتغيير والتطور والتحول بحسب ما يلحق به من تغييرات وفق مسار أحداث العرض المسرحي ، فجسمه يدلّ في حالة من الحياة ، فلابديل للممثل في تجسيد العمل الدرامي ، مستخدما عديد الأدوات والوسائل لتجسيد ذلك وفق ما نسميه التكنيك .
منتقلا بعد ذلك ، مؤطر الورشة إلى خاصية الصوت مع العمل على تربية الصوت وتحسين النطق بالنسبة للممثل ( الإلقاء ) ، فالصوت هو الآخر دعامة أساس لدى الممثل وأهمّ وسائل الاتصال مع المتلقّين ، فقدرة الممثل على التحكم في صوته وفق الأشكال المطلوبة يعدّ مركز ثقل لديه ، عن طريق الطبقات الصوتية والإيقاع المطلوب ، مقدّما في ذلك تمارين خاصة بالتنفس الصحيح والوقوف عند الإيقاع والنبرة الصحيحين ، مع القدرة على تطويع صوت الممثل للتحدث بشكل مرتفع ، منخفض أو حاد أو ناعم .
وفي نفس محور أدوات الممثل ، أشار الفنان ” زموري سمير ” في ورشته إلى كينونة الممثل ،والتي تعدّ مبدأ يقتضي الاعتراف أن التمثيل العظيم هو ما كشفا لما داخل الممثل أكثر منه تصويرا متقنا للشخصية التي سيؤديها ، فالاعتماد على ما هو داخل الممثل نفسه ليستقي منها ما هو في حاجة له تجسيدا للدور المنوط له من طرف المؤلف ، أين يمزج بين شخصيته وعناصر الشخصية التي يريد إيصالها للجمهور .
في كل هذا ، وجب على أن تتوفر لدى الممثل القدرة على تحليل الشخصية وتفسيرها ، وتحليل علاقتها بالشخوص الأخرى ، وتحليل البيئة التي تنتمي إليها تلكم الشخصية والظروف التي تحيط بها ، الوقوف عند دوافعها والضغوط الممارسة عليها ، والصراع الذي بينها وبين باقي الشخصيات ، وقدرة الممثل على تفسيره الأحداث وقدرته على التكرار أين وجب القيام بدوره لأكثر من مرة دونما فقدان مرونته وحيويته .
ناهيك عن مبدأ التلقائية والوقوف عن خاصية الارتجال والذي يعدّ تقنية قديمة من أشكال فن التمثيل ، وقد تطور على يد ” ستانسلافسكي” إبان القرن العشرين ، وهي تقنية يمارس من خلالها الممثل أمورا مرتجلة وتعدّ ابتكارا ، والارتجال له درجات منه ابتكار نص كما هو الأمر في كوميديا دي لارتي ، وارتجال لفظي وحركي دونما الاستناد إلى أنموذج محدد ، مع مخالفة شتى القواعد والأسس ، مع البحث عن لغة جسدية جديدة .
كما نلفي ارتجالات بسيطة وأخرى مركبة ، ومن حيث العدد نجد ارتجالات فردية ، ثنائية وجماعية ، ومن حيث المكونات المسرحية نلفي ارتجالا حواريا ، مونولوجيا ، كوريغرافيا وغنائيا ، وفي مجال المستويات الدرامية نجد ارتجال التأليف ، ارتجال التشخيص ، وارتجال الإخراج وحتى السينوغرافيا ، بالإضافة إلى ارتجال جزئي وارتجال كلي ، وحتى الارتجال له أسسه وقواعده من حيث اعتماده على الكفاءة والتلقائية ، والقدرة على تحفيز الخيال والانفعالات ، والمقدرة على الإبداع الفوري ، كما أنه يبنى على الجديد واللامتوقع خروجا من بوتقة المألوف والسائد ، بتقنية الابتكار والخبرة كسرا للتقليد والبحث عن نص وفضاء خصب للارتجال .
قد تواصلت أشغال ورشة ” الأداء التمثيلي” لتأتي في محورها الثاني التطبيقي ، بالوقوف مع الشباب المتربص على تمارين الجسد مع اعتماد تقنيات اللياقة البدنية والتسخين مع تمارين التوازن والسقطات والقفز ، مع تمارين على مستوى الصوت اشتمل على تمارين التنفس والحبال الصوتية وتدريبها على مستويات الإلقاء ، مع تمارين القلم للوقوف عند الإلقاء الجيد مت والسليم ، وتمارين الشفاه .
ليتم بعدها الانتقال إلى تمارين الممثل والوقوف عند التقنية النفسية في منهج “ستانسلافسكي” ، والذي قامت منهجيته في المسرح على دعامتين أساسيتين هما ” النص المسرحي ” ورسالته و” الممثل ” المسؤول عن نقل تلكم الرسالة إلى الجمهور المتلقي ، حيث يرى ” قسطنطين ستانسلافسكي ” أن مهمة المخرج الأولى تكمن وتبرز في نقل فكرة المسرحية إلى الجمهور ، على أن تكون أفعال الشخصيات مبررة ومنطقية ومقبولة كما في الحياة الحقيقية ، حتى يفهم الجمهور لماذا كتب النص ، ولماذا يجسده الممثلون على الركح ، فحسبه ( ستانسلافسكي ) أن المخرج هو المسؤول عن نقل أفكار المؤلف ، كما انه عقل وقائد فريق العمل المسرحي ، مع ضرورة أن يكون فاهما للنص ، عارفا بانتمائه ، ملما بالأحداث وخطها ومسارها ، مع مساعدة الممثل على الكشف على حقائق الدور المنوط إليه .
وفي دعامة ( الممثل ) أكدت تعاليم منهج ” ستانسلافسكي ” على احترام عمل الممثل باعتباره الشخصية الأولى التي تضع بذرة العمل الدرامي وتعمل على مراقبة نموه وتطوره ، فهو أداة التعبير التي تخاطب الجمهور.
كما أن منهجه وقف عند عديد الاكتشافات منها حالة الممثل الذهنية فوق الخشبة ، وههنا ركّز على عنصر استرخاء العضلات الذي يجعله تحت إرادة الممثل ليعبّر عن دواخله بكل حرية، ناهيك عن تركيز الانتباه مما يوصل الممثل إلى حالة العمل الخلاق وهو يركّز على أحاسيس جسمه ، والتركيز ههنا لا يشتمل السمع والبصر بل بقية الحواس ، ناصحا في منهجه أن لانتباه المشتت لا يستسيغه المشاهد ، والانتباه لدى ” ستانسافسكي ” نوعان :
انتباه داخلي يسمح للممثل بتحويل موضوعه الذهني العقلاني إلى موضوع عاطفي حسي ، وانتباه خارجي عليه تنميته حينما تختلط حياة الممثل بالشخصية ، فعلى هذا الممثل الانتباه الى نفسه قبل أن ينطق اولى كلماته في الدور ، ومنهجه يولي الأهمية ذاتها للنوعين .
ناهيك عن خاصية البناء الداخلي للدور حتى يتوصل الى خاصية ” الصدق ” في الدور ، بمعنى صدق المشاعر والأحاسيس ، صدق الدافع الإبداعي الداخلي ، كما أوجد ” لو ” السحرية التي وجب على الممثل الإيمان بها كحقيقة ملموسة ، فالصدق عامل مهم في عمل الممثل ، فـ ” لو ” السحرية هي من ترفع الممثل من واقع الحياة اليومية إلى مجال الخيال الرحب ، وهي من العناصر التي ينبثق منها الفعل المسرحي ، فهي الدافع والحافز لفعالية الممثل في منهج ” ستانسلافسكي ” .
وقد ركّز مؤطر الورشة على منهج ” ستانسلافسكي ” بالشرح والتطبيق مع جموع المتربصين وفق تمارين كشفت قدرة كل متربص على الاستيعاب ، كما أكّد على خاصية الصدق والذي لا يتحقق إلا بالتدريبات والمرونة كما التركيز واسترخاء العضلات حتى نلامس الإحساس بالصدق ، كما على الممثل أن يكتشف أشياء جديدة على المسرح دونما التفكير في حركته الميكانيكية ، وبالتالي ذلكم الاكتشاف تكون له علاقة بالحالة الذهنية الخلاقة للممثل .
دونما أن يغفل مؤطر الورشة على الإشارة إلى علاقة الممثل بالنص المؤدّى من مرحلة القراءة الإيطالية إلى توزيع الأدوار ، وقدرة الممثل على فهم النص مع تحديد ومعرفة الفكرة الأساس والأحداث المتلاحقة ، مع القدرة على ربط تلكم الأحداث وتفسيرها وتحليلها ، مع العمل على تنمية الصراع ، وتحديد هوية الشخصيات ، حتى يتعمق الممثل أكثر ويحدد علاقته بالنص ويقف عند الترنيمات ، وعلاقته مع باقي الممثلين على الركح ، هذا بالإضافة إلى تحديد علاقته مع الديكور ، فهندسة الديكور جزء هام من العرض المسرحي كما انه يساعد الممثل في تحديد حركته ووضعياته .
كما وقف مؤطر الورشة عند خاصية التمثيل الصامت أو فن البانتوميم ، وهو الأداء التمثيلي الصامت ، ويكون فيه جسد الممثل أداة للفعل الدرامي معبرا عن شتى الأحاسيس والأفكار بالإيماءة ، والحركة والإشارة والأوضاع الجسدية ، مع الأخذ بعين الاعتبار نقطة التركيز والانفعالات حيث يتم العمل على تدريب الممثل على الانفعالات .
وعليه ، فإن مؤطر ورشة ” الأداء التمثيلي ” الفنان ” زموري سمير ” قد قدّم جهدا بارزا ومثمرا في تواصله مع مجموعة المتربصين ، وسعى إلى إفادتهم بشكل شامل وموضوعي بالشرح المفصل والتطبيق ، أين وقف عند طاقات واعدة وكفاءات شابة لها قابلية التحصيل والمتابعة بكل شغف وطموح كبيرين ، بخاصة وأن معظمهم منشطون ثقافيون ، مدراء دور ومؤسسات الشباب ، وهم في مسيس الحاجة لهكذا دورات تكوينية من شأنها تأهيلهم ليغدو مستعدين في المستقبل القريب للإبداع والإنتاج والتكوين بدورهم .