ً
كرم مطاوع .. مخرج لكل العصور
بقلم : يوسف الحمدان
يعتبر الفنان والمخرج المسرحي المبدع الكبير الراحل الحي كرم مطاوع ، واحدا من أهم عمالقة المخرجين المسرحيين العرب الذين أسهموا في تأسيس وعي مسرحي جديد في حراكنا المسرحي العربي السبعيني ، أكثر تحديدا ، فقد كان سليل فكر قومي منفتح على رؤى عميقة ومؤسسة في المسرح العالمي ، وخاصة تلك الرؤى التي استقطرها من بيئة دراسته الأكاديمية في المسرح الإيطالي ، وتلك الرؤى التي تماهى معها حبا ورغبة عارمين في نهل الجديد والمغاير من مسرح الجوار الأوربي ، في النمسا وبريطانيا وفرنسا ، لتشكل على صعيد المراس المسرحي في مصر ، وهجا خلاقا تظافر مع رؤى الإبداع المسرحي القرين للتجربة والتي كان أهم مؤسسيها آنذاك ، المخرجون سعد أردش وأحمد عبدالحليم ونبيل الألفي ، والكتاب ألفريد فرج ويوسف إدريس ونجيب سرور ، رحمة الله عليهم ، والذين أسهموا في تأسيس مسرح الجيب ، وشكلوا حراكا مسرحيا حداثيا جديدا ومغايرا للسائد الكلاسيكي الذي سبقهم إبان العقود الماضية ، رافقته حركة نقدية جادة في حينها ، تمكنت من إرساء مكانة هذا الحراك على الصعيد المسرحي والجماهيري في مصر ، كما تمكنت من خلق جسور متينة له تصله بالفكر القومي والتقدمي بوصفه المد المتنامي لثورة يوليو الخمسينية .
وكان المخرج كرم مطاوع من بين أقرانه أكثر من لامس بروحه الفنية الإبداعية الجامحة والفذة ، القضايا التي تعنى بالعمق الفكري في المجتمع المصري والعربي ، وتنوع فيها بوعي حاذق ومخيلة خلاقة ، فجاب الشعر والأسطورة والتاريخ وأسيجة الاستعمار والاستبداد والظلم ، بروح لا تعوزها جرأة في التصدي أو رؤية في التفسير والتحليل والمعالجة ، حتى امتد مداه الخلاق إلى دول عربية قريبة كالجزائر ، أو بعيدة نسبيا عن دائرة أفريقيا كالكويت .
هناك في الكويت ، في منتصف سبعينيات القرن الماضي ، حيث كنت طالبا في قسم النقد والأدب بالمعهد العالي للفنون المسرحية ، في مدينة الشامية تحديدا ، التقيت وتعرفت على فارس الإخراج والتمثيل ، أستاذ المسرح بجدارة وامتياز ، الفنان المبدع العملاق كرم مطاوع ، من بين أساتذة كبار تلقيت على أيديهم فنون المسرح ، من أمثال الأستاذ أحمد عبدالحليم والدكتور إبراهيم سكر ، والدكتور أمين العيوطي الذي أدين له بتوريطي الجميل في النقد المسرحي ، والمخرج سعد أردش ، والمخرج سناء شافع ، والمايسترو يوسف السيسي ، والدكتور فؤاد دوارة ، والدكتور علي درويش .
وكان الأستاذ كرم مطاوع ، الأكثر جدية وأناقة وصرامة ، من بين من تعلمت على أيديهم ، مهووسا بدرجة غير عادية بدروسه الإخراجية والأدائية ، إذ أن الدرس بالنسبة له ، تجربة متواصلة لا تتوقف أو تنتهي عند استراحة بين محاضرتين أو تدريبين ، وأذكر أن الوقت الذي يزاول فيه الأستاذ كرم مطاوع تدريباته المسرحية مع طلبة قسم التمثيل والإخراج في مسرح المعهد ، لا يمكن لأي طالب من قسم آخر أو من دفعة أخرى أن يرفع صوته في مقهى المعهد ، أو يأخذه المزاح مع زملائه إلى حد الضحك ، فللأستاذ كرم مطاوع هيبة غير عادية في المعهد ، وشخصيته الجادة الصارمة ، تجبر كل من هو خارج الدرس أو التدريب على الصمت ، وأذكر أنه حين يسمع ولو بعض صوت أو همس مرتفع ، كان يخرج من المسرح ، ليقف عند الباب دون أن ينبس بكلمة ، ليعم الصمت ثانية .
كان الأستاذ كرم مطاوع حريصا كل الحرص ، أن يتعلم منه طلبته ما يحاورهم وما يدربهم عليه بدقة متناهية ، وكما لو أنه فعلا يعدهم لعرض مسرحي في إطار فرقة مسرحية ، وكما لو أنه يشعر هذه اللحظة أنه في مختبر مسرح الجيب المصري بين أقرانه من المسرحيين ، لا بين طلبة يدربهم ويعلمهم في معهد مسرحي .
انطلاقا من هذه الجدية الخلاقة ، تمكن الأستاذ كرم مطاوع ، من أن يخرج أقوى دفعات التمثيل والإخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية ، على امتداد عمره منذ التأسيس ، وأن يجعل من أبناء هذه الدفعات أهم الممثلين والمخرجين في حراكنا المسرحي الخليجي ، ومن أهم من تدرب على يد الأستاذ كرم مطاوع ، اذكر منهم ، من البحرين ، الفنان سامي القوز ، والفنان خليفة العريفي ، والفنانتين أحلام محمد وفاطمة الدوسري ، ومن الكويت سعاد عبدالله ، مريم الصالح ، علي المفيدي ، والفنان البحريني في دفعة أخرى قحطان القحطاني ، ومحمد المنصور ، وفنانون لا تحضرني أسماؤهم اللحظة .
لقد كانت العروض الذي تقدمه دفعات الأستاذ كرم مطاوع ، من طلبة التمثيل والإخراج ، لها خصوصيتها ونكهتها المميزة ، وكان كل طالب أو طالبة في هذه العروض يشاهدهم الجمهور بوصفهم أبطالا مسرحيين محترفين متمكنين من أدائهم أيما تمكن ، وكانت عروض مطاوع يحرص الطلبة والحضور والأساتذة على حضورها ، ففيها سحر إخراجي وأدائي لا يقاومان ، ودائما ما تكون محل جدل ونقاش بين طلبة المعهد وأساتذتهم ، وخاصة قسم النقد والأدب ، وبين النقاد والفنانين والمثقفين والصحافيين في الكويت ، فهو الفارس الذي تمكن من خلق خيول وأحصنة تبهر مُشاهدها وهي تقدم أجمل وأبدع إمكاناتها في مضمار المسرح الطويل والصعب ، وكما لو أنه يعيد مجددا إنتاج هذا الجدل النقدي الجميل الذي رافق تجربته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بمصر .
وبالتالي نستطيع أن نجزم ، بأن الأستاذ كرم مطاوع ، أسس لحراك مسرحي حداثي جديد في مسرحنا الخليجي ، تمكن من أن ينتج بوعيه الذي تشربه منه أفضل وأكثر العروض المسرحية جدية وإبداعا ، وأذكر في هذه السانحة ، إخراج تلميذه الفنان خليفة العريفي لمسرحية ( هاملت لكل العصور ) لفرقة مسرح الخريجين عام 81 بمسرح الجفير ، وهي مسرحية أخرجها لأبناء الدفعة الأستاذ الكبير كرم مطاوع ، لنلحظ عبرها مدى تأثيره الخلاق في طرق أبواب جديدة في المسرح ، على صعيد الرؤية والتفكير ، فهو أستاذ يعيد إنتاج أي نص يقدمه برؤية عميقة ومغايرة تذهل كل من تصدى لنصه ، وهكذا كان الحال جدليا خلاقا ، في تصديه لمسرحية ( ياسين وبهية ) لنجيب سرور و ( الفرافير ) ليوسف إدريس وغيرهما من النصوص .
كرم مطاوع .. إنه المخرج الرائي المشتعل بوهج المسرح ، بهمه وحلمه ورؤاه البعيدة المخاتلة والمشاكسة والخلاقة ، والذي أذهلني واستوقفني طالبا بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت ، ومحاضرا في البحرين عندما تمت دعوته من قبل وزارة الإعلام في سبعينيات القرن الماضي ، مثله كم نحتاج اليوم إلى مخرج يمنح روحه للمسرح بوصفه حياته التي يعيشها وينتجها ويتخيلها ويؤثر من خلالها ؟ ..