مسرحية “تقاسيم على الحياة .. تشيكوف” يلاعبنا ويحملنا إلى ذواتنا المهشمة / رمزي العياري

تقدم “تقاسيم على الحياة” الإنسان المغدور في عفويته وسجيته وعاطفته ولذته

لا أزال أتذكر جيدًا موجات التصفيق والهتافات العالية بعد عرض مسرحية “نساء في الحرب” للمخرج العراقي الفذّ جواد الأسدي في دورة سنة 2005 لأيام قرطاج المسرحية. كما أتذكر الظروف السيئة لعرضها بقاعة المركز الثقافي الجامعي “الحسين بوزيّان”، ومفاجأتها للجميع بتنويه النقاد والمتابعين والجمهور وتأكيدها أن المسرح العراقي له مكانته وتاريخه ورموزه.

مسرحية “تقاسيم على الحياة ” اقتبسها المخرج جواد الأسدي عن نص كلاسيكي معروف وهو ” الزنزانة رقم 6 ” للكاتب الروسي “أنطوان تشيكوف”

“احتجاج الكلون الثائر”.. صرخة إنسان يطالب بحقه في الماريخوانا الطبية!

هذا ما دار بخلدي وأنا متوجه مساء 11 ديسمبر/ كانون الأول 2018 لقاعة الفن الرابع بالعاصمة تونس لحضور العرض المسرحي العراقي “تقاسيم على الحياة” لنفس المخرج جواد الأسدي خلال فعاليات الدورة 20 لأيام قرطاج المسرحية. كانت هناك زحمة أمام القاعة وطابور تشكل بعفوية أغلبه من الشباب جاء ليكتشف نكهة المسرح العراقي وتميز تجربة واحد من أجود المخرجين العراقيين.

خلال الانتظار في الطابور تلهيت ببعض الأسئلة هل مازال جواد على نفس الطريق الواثقة بالمسرح؟ وهل مازال يغامر في اتجاه النصوص المسرحية الكلاسيكية الصارمة والعصية؟ وهل سيحافظ كعادته على اللغة العربية كخلفية حضارية وجمالية؟ وكيف سيتعامل مع الخشبة عندما يسكب عليها النص؟

مسرحية “تقاسيم على الحياة ” اقتبسها المخرج جواد الأسدي عن نص كلاسيكي معروف وهو ” الزنزانة رقم 6 ” للكاتب الروسي “أنطوان تشيكوف” ونصب لها ديكورًا ذا وحشة ونفور، جدران حديدية عالية ببوابتين وثلاثة شبابيك وإضاءة عمودية قاسية مما يضفي على القاعة مشاعر تراوح بين الألم والانكسار والخوف والتوجس والحذر من الذات ومن الاخر وانتظار الأمل الذي لا يأتي.

نصب المخرج جواد الأسدي لمسرحية “تقاسيم على الحياة” ديكورًا ذا وحشة ونفور

في قراءة شاعرية لتحطم الذات وتشظيها في أزمنة العولمة وطغيان الحديد وسكب الصديد على مروج في القلب لا متناهية من الأزهار البرية. يقدم هذا العمل المسرحي الإنسان المغدور في عفويته وسجيته وعاطفته ولذته فتأتي الشخصيات كحطام سفن عصفت بها رياح الحياة القاسية،”إيفان” فيلسوف نزلاء “المصحة النفسية” وحكيمها أشار إلى أن الإنسان تواق إلى الحرية وباحث عن نفسه بين الأرض والسماء في رحلة حياة بسيطة كعشبة.

“ميخالوف”، الفنان الشهير الذي جن بعد أن قتلوا حصانه الذي رافقه طيلة قيامه بدور الحوذي الذي خلب ألباب جمهور المسرح. يرمز إلى انزياح الفن ّوتهميشه القصدي أما قتل الحصان فلا يعدو أن يكون سوى قتل لحرية الفنان وتكميمه وكبحه. ” ميخالوف” صرخ على الخشبة بقوله” لقد قتلوا حصاني” إلى حد انخلعت معه قلوب المتفرجين، إنه صراخ الفنان يستنهضنا من السّبات الطويل.

اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أيّام قرطاج المسرحية: أسئلة عالقة لم تطلها أضواء الخشبة

shareأداء الممثلين في مسرحية ” تقاسيم على الحياة” للعراقي جواد الأسدي بدا نابعًا من وعيهم بنص أندري تشيكوف

الدكتور “أندريه” ورغم تحلّيه بالصلابة والصمود في تعامله مع النزلاء، وحرصه على إقناعهم بأن المصحة هي مرفأ نجاة من الجنون وأنها حديقة للتريّض بعد المعاناة إلا  أنّه سرعان ما ينهار أمام صموده لتبرز هشاشة الإنسان وضعفه فيلتحق ببقية المرضى ويصبح منهم. كأن الحقيقة هي التالية  “كلنا مرضى يا سادة.. غدرتنا الحياة وأصابتنا في مقتل رغم تفانينا في في حبّها”.

أداء الممثلين في مسرحية ” تقاسيم على الحياة” للعراقي جواد الأسدي بدا نابعًا من وعيهم بنص أندري تشيكوف، هذا النص الصعب والمركب والحاثّ على التفكير والتدبير الفلسفي. العراك مع النص في البروفة لمسناه نحن كمتفرجين في أداء مناضل داوود وإياد الطائي وحيدر جمعة وأمير حسان وأمين مقداد. لا مجال للعبث مع النص، كل الحركات مدروسة وموظفة في الحقل الدلالي والرمزي للمسرحية. لقد كان الحضور مبهرًا للممثلين.

جواد الأسدي المخرج والمؤلف المسرحي العراقي وفيّ إلى حد غريب للغة العربية له قدرة فائقة على تطويعها في أعماله دون إزعاج المتلقي العربي ويبعدك تمامًا عن تلك النقاشات العقيمة بخصوص اللغات المقولة محليًا واستعمالها في النصوص المسرحية وخلال “تقاسيم على الحياة” تزهر اللغة العربية من أفواه الممثلين وتهضم النص الروسي وتحوله إلى جماليات فكرية وفلسفية.

هذا العمل المسرحي العراقي المشارك في المسابقة الرسمية في الدورة العشرين من مهرجان “أيام قرطاج المسرحية”  أعاد بعض الأمل بخصوص الفعل المسرحي وأكد أن المسرح يظل دومًا الفن الأقرب إلى الإنسان ومجال من مجالاته الحيوية، ترتاده النفس لتقول الحقيقة كما هي ولتتساءل حول وحشة الوجود ولتغير من واقعها وتبنى لها حياة أجمل في مكان آخر، حياة مشدودة إلى أوتاد النقاء بحبال الفن حتى لا تضيع في أفنية الكون الفسيح.

______________

المصدر / تونس

موقع الخشبة

Check Also

شيزوفرينيا المسرح: بين ثقافة المكان وخطاب العرض حسن خيون ، بلجيكا.  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

حمل استمارة المشاركة في الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي

This will close in 5 seconds

استمارة النسخة التاسعة 2024 من المسابقة العربية للبحث العلمي المسرحي

This will close in 5 seconds

مسابقة تأليف النص المسرحي الموجه للكبار فوق سن 18 "الإنسان في عالم ما بعد إنساني"

This will close in 5 seconds

مسابقة تأليف النص المسرحي الموجه للطفل من سن 3 إلى 18(أطفالنا أبطال جدد في حكاياتنا الشعبية)

This will close in 5 seconds