محمد نوالي
أستاذ المسرح والسرد وتحليل الخطاب
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
0613992794
المبدع الشامل في تجربة المسرح الفردي·
توطئة
يبتدر الطاهر الطويل جملة من الأسئلة التي تثار حول المسرح الفردي منها قضية تسمية، وهل هو اتجاه يرقى إلى مصاف الاتجاهات المسرحية، أَ له جذور تاريخية أم أانه حال ظرفية طارئة .
من هنا يتوضح الهاجس في هذا الكتاب كما يحدده صاحبه، والتمثل في ملامسة جوانب تلك الإشكالات في ضوء تجربة الفنان المسرحي عبد للحق الزروالي.
وعلى هذا الاساس قسم الكتاب إلى ثلاثة فصول
ـ هوية المسرح الفردي
تجربة عبد الحق الزروالي
قراءة في مسرحية “رحلة العطش”
أثارني كتاب الأستاذ الطاهر الطويل عن تجربة المسرح الفردي في الوطن العربي منطلقا من تجربة عبد الحق الزروالي التي استمرت أربعة عقود أنتج فيها الرجل أربعين عملا فرديا وعشر مسرحيات جماعية. بمعدل مسرحية فردية كل عام.ـ إذ شعرت بضرورة العودة إلى أعمال عبد الحق الزروالي والانصات إليه مجددا .فلم أجد بين أيدي إلا عددا قليلا من المسرحيات المطبوعة، وبعضها تم بثه في اليوتوب.
تساءلت كيف يمكن لهذا المهوس بعشق المسرح أن يستمر في العطاء بالحماس ذاته دون كلل وبالوتيرة نفسها؟ كيف يمكن لرجل واحد أن يصنع فرجة تمتد لأكثر من ساعة ونصف أو أكثر يتابعه فيها جمهور لا يفارق مقاعده إلا إذا انتهى العرض. جمهور متعدد في المكان والزمان أي منذ سنة 1975 إلى العشرية الثانية من الألفية الثالثة. يعبر إليه قاطعا كل المسافات “في جولات متتالية عبر قرطاج، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، وطرابلس، وطورينطو بإيطاليا، وباريس، ومدريد.” [1] ؟
يسافر حاملا قضيته ومحملا بهمومه وهواجسه وجراحاته وأحلامه التي يود أن تلخص كل هموم هذا الوطن العربي الكبير عبر أحقاب عرف الواقع فيها تغيرات جوهرية وكارثية حبلى بالمفارقات والتناقضات على المستوى المحلي والقومي. بالدرجة التي اهتز فيها كياننا الثقافي والفكري.. طرح قضيته في مسرحه ومسرح قضاياه بإحساس الفنان الشامل الذي تتقاطع فيه، وفي إنتاجه شخصية المؤلف والممثل والمخرج ومؤثث الركح. مستندا إلى الحكي والسرد، متوسلا بمسرحة التراث والواقع في معزوفات منودرامية يعلو فيها صوته متأرجحا بين مختلف المقامات والسياقات.
هذا الرحالة الجواب في تضاريس هذا الوطن الكبير ومشاكله في “رحلة العطش” من خلال شخصية ربيع هذا المواطن العربي الباحث عن هويته في مساحة الوطن العربي الذي تقطع أوصاله الحدود والإيديولوجيات والسياسات القطرية، كيف أمكنه تجسيد مشهد الإنسان العربي التائه الذي يشعر بانتماء إلى تاريخ مشترك وتراث ولغة، ويعيش تجزئة بالدرجة ذاتها الذي يتقمص فيها حلمه المفارق المجهض بوحدة مأمولة.
كيف توفق هذا المبدع في رحلته أن من يتقمص أدوارا مختلفة، ويتشظى في كل الأزمنة والأمكنة في القرية والرحلة وأفضية المدينة وفي التراث محاورا ومقتبسا وموظفا. يحاول أن ينسج من مسرحه ألوانا مختلفة في تشكيلات تفعل المرايا فيها فعلتها.
من أجل ذلك، فإن السؤال يكون : لماذا نحتاج إلى قراءة منجز الزروالي الذي رسم لإبداعه ثالوثا فرديا يجمع فيه بين شخصية المِؤلف والمخرج والممثل.
هو منجز غزير متواصل من عقود، غير أن هذه الغزارة قوبلت بنوع من الإهمال والحيف والاستخفاف أحيانا الذي حاول الطاهر الطويل رفعه عنه بكتابه المونوغرافي هذا.
ذلك أنه كما يذهب الطاهر الطويل “رغم غزارة ما أنتج، نسبيا، حول المسرح المغربي، فإننا لا نكاد نجد بحثا أو دراسة مستقلة تتناول “المسرح الفردي” إلا شذرات ذيلت بها بعض المؤلفات، لا تتجاوز الإشارات العابرة أو قراءة لبعض النصوص أو إسهابا في الحديث عن تجربة معينة، كما هو حصل مع تجربة “عبد الحق الزروالي”، رغم أن هذا الحديث نفسه لا يخرج عن كونه مقالات متفرقة أوحوارات يغلب عليها طابع المناسبات. إذ غالبا ما تكون بعد مهرجان أو تقديم عرض مسرحي، وبذلك لا ترقى إلى التناول العلمي. وكثيرا ما يتأرجح الكلام عن هذا النوع من المسرح، بين وسمه بالظاهرة تارة، والتجربة تارة أخرى، والتيار والاتجاه ” كما يصرح أحد الباحثين. اللهم الاستفاقة المتأخرة التي تشكلت في كتاب الطاهر الطويل، وهي تحتاج إلى الاستكمال والمواصلة.
فمن اللازم إخضاع هذه التجربة الممتدة على مدى أربعة عقود للدراسة والتتبع من منطلقات تأخذ خصوصياتها.. بالنظر إلى كونها مشروعا منفتحا، وحركة مفتوحة على الإشكالات الأساسية المعبرة عن وجهات نظر. عايش فيها صاحبها عقوداً كانت من أدق العقود إشكالاً في تاريخنا. أضحى فيها إنساننا وواقعنا وحضارتنا ووجودنا محل استفهام مُشّرع على احتمالات وتحدّيات كبرى.
وعليه، فيلزمنا هذا المشروع مراجعة بعض أحكامنا التي كوّناها عليه وعلى صاحبه. ولنستمع إليه مرة أخرى من خلال صوته المباشر، ومن خلال صوته الذي يتقمص أدوارا شتى منها دور العارف تارة والحلايقي تارة أخرى، والانسان الذي يجذف في متاهات الواقع . فهي الأبلغ في التعبير عنه، وعن مشروعه وحركاته. وقد تكون تقمصاته مجرد أصوات تأتينا من بعيد، مقنعة تارة، كما صوت النفري في إشراقاته الممتزجة بحلم الواقع في مسرحية “كدت أراه” التي تقوم على الازدواج والتضعيف في الخطاب المتراوح بين التجليات الصوفية والكشف الواقعي. وقد تكون صريحة تارة أخرى في رحلتها الباحثة عن جذور موحدة في واقع التشرذم والتشتت كما في “رحلة العطش”. شخصيات، يَلبسها وتَلبسه. ويُضمنها رؤيته فتتلاحم مع صوته ونبراته وحركاته وهو يملأ فضاء الركح ببساطة بليغة أبلغ من كل الزخرف الذي يدبج سينوغرافيا جامدة مؤثثة بحذلقة فنية مقيتة. شخصيات مفارقة باروكية تظهر في أوجه متعددة متصادمة كما في إحدى بواكر مسرحيته “الوجه والمرآة”.
قد يتحكم فيها أو تنفلت من سلطته. لكنها أصوات تمتلك إحساسها، وقوتها، ونظرتها وأحكامها. وقد نجد فيها بعضا مما نود قوله، أو ما نحب أن نفكر فيه. كما قد تخرق أفق انتظاراتنا أو تستجيب لها. تعبر بنا أطياف الماضي والتراث لتقذف بنا في أتون وقائع صادمة ينسجها الواقع واللحظة التاريخية بأبعادها الزمانية والمكانية وتجلياتها الفكرية والثقافية..
هي شخصيات يريدها بأبعاد متعددة، لها أطوارها وأصواتها. تُغرّب وتُمسرح. تؤدي أدوارها المنوطة بها في تشكيل أدبي ومسرحي من خلال الفرد المتعدد المتجسد بجسده الذي يوقع جنون العاشق المهوس بالتمثيل. وهذه فضيلة تجمع بين الحسنيين. تحقق التواؤم بين شعرية الأدبي، وشعرية المسرحي. أدواتها بيِّنة لا تخطئها العين ولا الحسّ. تفعل وتنفعل في حركات مسرحية بأنفاس المعايشة وأصوات السرد الذي يحول الركح إلى فضاء يتناسل فيه الكلام عبر تقنية الاستطراد والانتقال والانسيابية التي نجدها لدى كاتب عربي عظيم هو الجاحظ الذي ألهم مسرح عزالدين المدني.
فوراء هذا الصوت المتفرد المنفرد المتعدد المتجول بين أفياء مختلفة يمتلك وهجا وقبسا من نار المعرفة والعرفان والملقح بالاحتجاج والسخرية السوداء والعتاب والألم الذي ينز من جراحات زمن متكلس بكل معاني الانهيار. يصنع من لغته مفارقات خطاب باروكي يتشظى كالشهب الاصطناعية.
مشكل التسمية والاصطلاح
ما هو اسم هذه التجربة واصطلاحها التي تثير الجدل التي ما فتئ صاحبها يردد على أنها مجرد تجربة. أما المولعون بالتصنيف فيردون لها عنوانا وتحديدا يمكن من خلالها إخضاعها للتنميط المعهود. أما صاحبها فيردد ببساطة أنه لا يهم فيها التسمية ما دامت تجربة تمتلك كل العناصر المسرحية.. فهي وإن عبرت عن ذاتها على شكل مسرح فردي فإنها تفصح عن تكامل التجربة. كما يوضح هو نفسه من حيث أنها منجز رجل واحد اختار مقام العزف المتفرد وليس المنفرد والبون بينهما جلي وواضح.
في هذا الإطار يثير الطاهر الطويل جملة من الأسئلة التي تثار حول المسرح الفردي منها التسمية.
فما هو المسرح الفردي وما علاقته بمسرح الممثل الواحد والمونودراما، وعرض رجل واحد one-man-show أو مسرح مبدع واحد un créateur en solo؟
قد يبدو لأول وهلة أن هذه التجربة لها امتدادات قديمة قد ترجع إلى المسرحي الجوال أب المسرح الإغريقي ثيبيس الذي قد يكون شخصية أو مجموعة من الشخصيات التي ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد وكانوا يتجولون بعرباتهم. كما يتساءل الطاهر الطويل.
قد يوهمنا نعت “مسرح فردي” بالانغلاق على الفردانية في حين أنه مسرح منفتح على قضايا متنوعة وإن كانت من منظور فردي. وحتى لا نحسبه صوتا منفردا متجليا في نوع المونودراما التي هي صوت الهامش في احتجاجه وصراخه وتعبيراته لكونها توحدا مع الذات، وهي تحاول أن تعيش في عزلتها مشاكل المجتمع. وتلتقط معاناة الإنسان في أي مكان ولا مكان. فمدارها هي الضغوطات الاجتماعية والحضارية وقد تحولت إلى ضغوطات نفسية فردية يعيشها المرء في أقصى حالات عزلته وتفرده .في مجتمع يحفل بالمتناقضات، ودفع بمجاميع كبيرة إلى منطقة ” الجماعات المطمورة” الزنوج، الأقليات المرأة. إذ تعتبر ضفاف الهامش المنقطع في عوالمه الخاصة البئيسة إحدى المتاهات الديداليوسية التي تولجنا فيها المونودراما. التي تأدرم السرود المعيشة الحياتية dramatisations des récits de vie.
تصبح المونودراما بمقتضى ذلك المعادل المكافئ للمونولوغ الداخلي، هذا دون أن نحصر المونودراما في المونولوغ الدرامي. وحسب دانان لماذا يتصبح الشكل المفضل مثلا للأفراد بعض الثقافات التي تحاول مجتهدة أن تثبت ذاتها في إطار إبراز هويتها والدفاع عنها؟ كما هو الشأن بالنسبة للأقلية الفرونكفونية في كندا التي أوجدت فيها الشكل الفني الأكثر ملائمة للتعبير عن ذاتيتها. وكما نجد في المسرح الفلسطيني التي لا تصبح فيه المونودراما نتاج تقاليد فني للمونودراما محمول على الصوت الواحد. بل تصبح شكلا تعبيريا عن الوضع المفارق الذي يعيشه الفلسطيني الذي يحمل هويته بأبعادها الأنطولوجوية والثقافية والسياسية والنفسية مغالبا واقع التشتت الذي يفرضه.
سأموت في المنفى” والسرد المتشظي
في مونودراما “سأموت في المنفى” التي تعرض في شكل دائري الذي يستعير فضاء الحلقة، وفضاء الحكواتية والسمر، يشرك غنام غنام الجمهور المتحلق في تمثيله وفي حكيه ومأساته، مكسرا الحدود بين الركح والجمهور. تقدم المسرحية بمصاحبة عزف الكمان الحزين بدون سينوغرافيا،. لا شيء إلا من حضور شخصية الممثل الذي يتقمص الدور بشكل مكشوف إيحاء بوجوده في مكان ولا مكان محدد. فالكل الأمكنة تبدو بدون ملامح في الوقت الذي يصبح المكان في السرد ذا حضور كبير من ذلك القدس يافا أريحا .غزة فلسطين…. . المكان هو محور الإشكالية.
الصوت الواحد يعيد تمثيل الواقع الفلسطيني بشكل سردي حكائي يلجأ إلى الخطاب التاريخي والتوثيقي وإدماج الشعري المأساوي لأن من رحم المأساة ينشأ الشعر كما كان يقول محمود درويش. ويشخص المواطآت السياسية التي تفرض عليه مستعرضا تاريخا من محاولة النبذ والنفي وإقبار فلسطين. ويستحضر فلسطين كما جاء في المسرحية: ” كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين، زي ما قال محمود درويش. …ولدت أردنيا وصار لزاما علي أن أرى فلسطين وأنا في المدرسة من وجهة نظر الملاجئ كأردني. وعندما أعود إلى البيت أرى فلسطين في ثوب أمي وفي جرح في كتف أبي وفي حكايات ستي … أنا من هناك ولي ذكريات…”
فالمونودراما تصبح أحد الأشكال التعبيرية عن المآسي الفردية والمآسي الجماعية التي تعاش بشكل فردي عبر الإحساس بالتمزق. تصبح منبرا للإفصاح عن المأساة الفردية والجماعية وقد أصبحت معيشا فرديا. فهي أشبه بالقصيدة الدرامية وأشبه بالقصة القصيرة. أو أشبه بالسرد الأوطوبيوغرافي السير ذاتي الذي يعيد تمثيل المأساة الجماعية وقد عيشت فرديا كما في مسرحية “سأموت في المنفى”. فمأساة الشخصية المنودرامية في ” سأموت في المنفى” هي مأساة الممثل والكاتب والمخرج غنام، وهي مأساة الفلسطيني وكل عربي يحمل الجرح الفلسطيني في وجوده. في هذه العتبة يتلاقح السرد بالدراما والمسرح في مقامات درامية أحادية الصوت، لكنه وإن كان صوتا دراميا في سرده المتفرد السير ذاتي الاسترجاعي فإنه يلخص في ثناياه تاريخا للقضية الفلسطينية، وهي تتسجل في بعدها الفردي الشخصي الذي يعيش تفاصيلها الإنسان الفلسطيني في معاناته الخاصة، وهو يحمل كل ظروفها ونتائجها، ويحكي المفارقات التي تنسج تفاصيل مأساته.
في هذا الاختيار التعبيري فإن القصص والحكايات المسرودة بشكل انسيابي تسقط الفصل التقليدي بين التمثيل والمُمثل والعالم المُمثل والجمهور. وهو ما يُقحم الجمهور في العرض، ويُتيح له معايشة تجربة فردية وجماعية فريدة من نوعها. وعبر هذا الإقحام المقصود عبر سرد أدبي متعدد المقامات تتمطط السيرة في وجدان الجمهور المخاطب والمسرود له، فيصبح جزءا منها وشاهدا عليها. أنه نوع من الميثاق الضمني الذي يقوم على الإيمان بأن المحكي ليس مجرد صوت يخاطب ويسرد بل هو حقيقة معيشة، وحقيقة مشتركة. فالمونودراما عند غنام تكسر حواجز اللعبة المسرحية حين يضع الجمهور في صلب مسرحيته، وحين يضع إشكاليته محور العرض عبر لعبة المرايا التي يتيحه الالتفات والانتقال بين الضمائر السردية. فينتقل من السرد إلى الخطاب إلى الحوار مع الجمهور إلى السرد التاريخي إلى الشعر إلى الاستدلال الحجاجي. المقطع الذي يتحدد فيها عن فلسطين : “…على أرض فلسطين هو لم يملك إلا أن يسميها فلسطين….”
لقد اختار كافكا اليهودي المغترب الذي يعيش شتاته وتوزعه بين كونه من الأقلية اليهودية يتكلم لغة ألمانية رغم كونه ليس آريا في بلد غير بلده النمسا اسم بطل روايته القصر K مساح الأراضي لكن المفارقة أنه بدون أرض ولا عنوان ولا حتى اسم بيِّن، وبطل روايته المحاكمة جوزيف K . اختار أن يحاكي اغترابه وشتاته في رواياته. وعلى شاكلته اختار غنام مساح الأراضي أن يجسد حياته في مونودراما مأساوية، وأن يعيشها بشخصه اسما وممثلا وصوتا. لكنه الأول كان يحكي شتاته واغترابه وتمزقه الأنطولوجي والثقافي والنفسي والاجتماعي. بينما غنام يحاكي في موندراميته هويته التي لا تضيع في الشتات لأن لها جوهر يشدها رغم تمزقها. وهو السر الذي جعل غنام يسكن في مونودراما “سأموت في المنفى” بوصفه مؤلفا ومخرجا وممثلا. لأن هذه المونودراما هي هو. وهو وكل الآخرين الذين تراوحوا على المشهد ذاته ومنهم ناجي العلي، وغسان كنفاني، توفيق زياد، وسميح القاسم، ومحمود درويش، وكل من أكد على الانتماء بنبذ الاغتراب والتشتت.
فالمونودراما أكثر التصاقا بالأدبية لأنها تقوم على قوة النص من خلال الحكي ومقاماته ولحظاته الدرامية التي تستند إلى استرسال المحكيات وانتقالاتها المشهدية، وطاقتها الخطابية والسردية والحكائية. ومرجعياته النصية المتعددة من أشعار وأقوال وأحداث تاريخية وحكايات شعبية، يضاف إلى ذلك حضور الممثل من خلال التراوح بين المحكي الشخصي المعيش والمحكي الواقعي التاريخي العام.
وحين يتحول النص إلى عرض منجز فإن طاقة الممثل تظهر في ملء الفضاء بحركاته . الفضاء الذي يبدو فقيرا في أشيائه عدا كرسي يصبح شيئا مسرحيا يستعمل. لكن هذا الفقر لا يكاد يرى بل يختفي لأن الفضاء يغتني ببديل يتمثل في أصوات الممثل وحركاته من خلال الصدقية التي يكتسبها وهو يشخص حكايته. هنا يتلاشى التمثيل وكل مقوماته، كما ينتفي الحكاواتي الذي يتوارى خلف حكاياته. يصبح الحكاواتي هو الحكاية ويصبح الممثل هو الشخصية الممثلة. فبدل أن يصبح الممثل مشخصا لدور يلبسه يتحول هو إلى تجسيد حقيقي للشخصية. وكأن هذه المونودراما ليست مجرد تمثيل بل هي تجسيد حقيقي لحالة إنسانية ماثلة. هنا يتحول المتلقي من متفرج إلى متورط في تضاعيفها وجزء منها. ولعل هذه قوة هذه التجربة التي آثرت أن تكون لي مدخلا .
من سمات السرد المنودرامي طغيان الصوت الأحادي، وهو أمر لا يغيب حتى عن التجارب التي تحاول قصدا وبطريقة اختيارية واعية تعداد المنظورات والمحكيات اللغوية فيها.
ذلك أن طغيان الصوت المنفرد والقلق الذاتي وهمومه، يجعل من نصوص مونودرامية كثيرة تغرق في نوع من الذاتية التي تساير هواجسها. تصبح معها أشبه بالقصص المطولة التي تأتي صدى لضغوطات نفسية واجتماعية أو حضارية. وهو ما يجعلها مثل القصة القصيرة التي تتخلق أنساغها في بيئة متوترة. ذلك أن القصة لا تحكي عن بطل أو شخصية نجد أنفسنا فيها. فمدارها هي الضغوطات الاجتماعية والحضارية وقد تحولت إلى ضغوطات نفسية فردية يعيشها المرء في أقصى حالات عزلته وتفرده. فنشعر بنغمة واحدة وصوت منفرد. وهو ما يضاد مفهوم البوليفونية الذي تقوم على تعدد الحقول الثقافية والتعدد اللغوي والصوتي.
ولعل المقدرة السردية عند مؤلفيها من أسباب نجاحها. وغنام نفسه يعي هذا حين يصرح بذلك وأنه فاز بجائزة القصة.
وعليه، فقد كانت المونودراما مجالا للتعبير عن الأزمات الفردية النفسية والمصطنعة بظروف تاريخية سياسية واجتماعية يحسها الأفراد ويتشربونها ذاتيا، كما أصبحت شكلا تعبيريا عن التصورات الفردية وقد استقطبت الواقع الإنساني والتاريخي ضمن تصوراتها الخاصة، فأصبحت جزءا من التفاعل بين الذاتي والموضوعي.
فقد وجد بيكيت في المونودراما الشكل الأصلح له لصياغه رؤيته العبثية التي تترجم استحالة التواصل، وعزلة الفرد. من أجل ذلك كتب مونودرامات متتالية، ومنها ما هو صامت أيضا لكنه يضم ممثلا واحدا مثل ” شريط كراب الأخير، الجمرات، الأيام السعيدة، أليس كذلك يا جو ؟ ومسرح بلا كلمات “.
المسرح الفردي ليس مسرحية الممثل الدرامي الواحد mono actor drama فقط وإن كان هذا أحد مكوناته. هو نوع من المسرح يقوم فيه “ممثل واحد بلعب وأداء مسرحية مكتملة” كما هو حال الممثل الراقص الصيني “ماي لانج فانغ” الذي تتراكب شخصيات في أدائه لكنه لا ينسى شخصيته الخاصة. وكما يقدم نبيل لحلو ببراعة شخصيات متعارضة في حوارية قوية من خلا تمثيله الفردي وتقمصه القوي لهذه الشخصيات عبر انتقال انسيابي بينها بتغيير المقامات الصوتية والحركات مستعينا بأدوات بسيطة منها وضع القبعة ونزعها عبر الانتقال بين دورين.
وهذا ما يدل على أن المسرح الفردي ليس فقط عرض رجل واحد one-man-show الذي يتوسل بالنكتة الهادفة .
وربما تحديد “عرض مبدع واحد un créateur en solo : يكون أنسبَ لهذا النوع حتى وإن كانت مساهمة عناصر أخرى في العرض كما تم في عرض “كدت أره” التي استعان فيها الزروالي بمبدعين آخرين .
فالرجل يكتب ويقوم بالإخراج وبالسينوغرافيا وقد حصل على جوائز فيهم جميعا.
شرعية المسرح الفردي والموندراما
الذين اعترضوا على أن المسرح الفردي والمونودراما ليسا مسرحا لخلوهما من الصراع فهو لبس مضاعف من أوجه عديدة لا أقلها أن مبدع التراجيديا الإغريقية تيبيس كان يمثل لوحده تساعده الجوقة.
يتساءل محمد أبو العباس قائلا رغم امتداد جذور هذا النوع من المسرح في التاريخ إلى أن العودة إليه حديثا أثار ردود فعل متباينة، فمن رافض له تحت ذريعة التحديد المتداول للدراما التي تقوم على الفعل والصراع. “لأن فن المسرح يختلف عن الفنون الأخرى بجماعيته”
إذ “لقي اعتراضا باعتبار أن المسرحية (المونودرامية) لا تدخل ضمن تقسيم ومسميات الأدب المسرحي لأن البناء التقليدي للدراما يعتمد الصراع عنصرا أساسا بين قوتين أو نقيضتين “[2]
فأين الصراع في الشخصية الواحدة وهي تجسيد أفكار من وجهة نظر واحدة؟ [3] مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الآراء التي لا تسوغ إدراج هذا النوع من المسرح أو التجسيد الدرامي في محور الأدب المسرحي أو العروض المسرحية وهو ما يستوجب “دراسة متأنية للنماذج المنتقاة. ومن ثم معرفة الجذر التاريخي لمثل هذه الدراما[4]
فالتشكيك في جدواها والوقوف ضدها نتيجة سوء الفهم. ولا يخفى أن هذا النوع من المسرح يحتاج إلى أسلوب غير تقليدي في الكتابة. وبسبب هذا التضارب في الآراء ظل يراوح مكانه بين الرفض والاستجابة.
أما ذريعة غياب الصراع. فهذا فهم سطحي لقضية الصراع. ذلك أن الصراع له أشكال وقد تطور عبر العصور، واتخذ أشكالا مختلفة بحسب تطور المعرفة وتغير الوضعيات الثقافية والفكرية والاجتماعية. من ذلك الصراع الداخلي الفكري كما الذي تعيشه شخصيات مسرحيات سارتر وكامو، وصراع نفسي سيكولوجي، ذهني، كما هو حال مسرح شكسبير الذي كان ينظر إلى ضعف حبكاته أمام علو كعبه في المونولوغات الطويلة. فشخصياته تحمل صراعها في ذاتها وتعيش مشكلاتها النفسية كما هو شأن هاملت وماكبث وعطيل والملك لير. وهو ما جعل الصراع في ذات الشخصية فشبح أب هاملت مقابل العم كلاوديوس والأم هما وجهان لرغبتين متصادمتين في ذاتيته. حيث تجسد اللغز في شخصية هاملت التي نظر إليها تارةً وكأنها شخصية حقيقية، وتارة كأنها تجسيد فعلي لحقائق نفسية لشخصية غير عادية هي شخصية شكسبير نفسه. شكسبير المضاعف في التضعيف الذي تعيشه شخصياته الإشكالية الرومانسية الشفافة كما شخصية عطيل الذي يجسد ياجو وساوسه، وظنونه، وبؤر الضعف فيه. أو شخصياته المعقدة التي تغرق في أتون الشيزوفرينيا والسوداوية كما ماكبث وزوجته. أو هاملت بتردده الذي لا يشكل شبح الأب غير وجه وصورة من استيهاماته التي أودت به في مهاوي التردد والجنون، وجنون شخصيات: الملك لير” من أصحاب الحق الذين وجدوا في واقع موبوء بالخيانة والدسائس، فاحتموا بالجنون ليدفنوا فيه عذابهم الديونيزيوسي أو يتخذوه قناعاً كروتيسكياً يخفون تعقلهم وراء زيغ نظراته.
فأمام الرغبة الجامحة في الانتقام، وما يفرضه الواجب من شخصية نبيلة مثل هاملت التي يتوقع أن تأتي منها أفعال توافق أحكام المتلقي، هناك بالمقابل تقاعس، وتردد غير مبرر. من وجهة نظر المتلقي، وتبعاً لانتظاراته. فالمسرحية تخرق قواعد نوعها لأن فيها استطالة المونولوغات التي تبين أن هاملت يلجأ إلى الكلام بدل الفعل، وهو ما يبين أن هناك تعطيلا مقصوداً في إيقاع الحبكة، وانزياحاً يحدث انقطاعات في الخط السردي. وفي الوقت الذي تأتيه الفرصة مواتية من أجل تنفيذ انتقامه من كلاوديوس لا يقوم بذلك بحجة أن هذا الأخير في صلاة. فلا ينبغي قتله حتى لا تصعد روحه إلى الفردوس .
وعليه لا يتعلق الصراع فقط بتعدد الشخوص بل بأبعاد الشخصية وظروفها والمآزق التي تعيشها.
فهل نقيس المسرح على مقاس الإرث النظري الغربي الكلاسيكي الذي يمنح الأسبقية للنص على التمثيل، والأدبية على الفرجة، والخطاب على الإنجاز، والحكاية على الجسد. وتعاد مساءلة قلعة نُحتت من مفاهيم ومنظورات ساهمت فيها السرود الكلاسيكية، ويصبح الخطاب الكلاسيكي وامتداداته محلّ تشكيك وتفكيك. ويعوض عن مفهوم ” المسرح ” ـ هذا البنيان المصوغ بإرث من التوجيهات الأرسطية، وتأويلات القرون الوسطى عبر هوراس، وتقعيدات الكلاسيكية من خلال بوالو، وإبداعات راسين وكورني وموليير ـ بمفهوم بديل يسمح باختراق المساحات المغلقة، عبر الفضاء الخالي من خلال “المسرحة” التي تصبح مدخلاً لعبور المسرح من الأدبية إلى العمل الفضائي. هذا العمل الذي حدّدته جوزيت فيرال في كونه “سيرورة إنتاج يقوم، قبل كلّ شيء، على النظرةregard التي تفترض، وتخلق فضاءً للآخر. فاسحة المجال لغيرية altérité الذوات ولانبثاق الخيال “[5]
أصبح التمسرح وسيلة مطلوبة لتحرير الفعل المسرحي من أسر الأدبي، ومن انغلاق النوع، ما دام بالإمكان مسرحة كلّ شيء. وهذا يعني أن الفعل المسرحي لم يعد حصراً مقصوراً على الصياغة اليونانية التي تمّت حيازتها من قبل الغرب بقانون انتقال الإرث. كما لم تعد الصياغة اليونانية للمسرح الشكل الأرقى والمكتمل الذي يجب أن يبقى ثابتاً على مر الأزمان. هذا بعدما غدا بالإمكان أن يتبلور المسرح في أية لحظة نكون فيها إزاء مُمثّلٍ ومتفرّج بتعبير بيتير بروك.
وهو ما وسع من مفهوم المسرح، وراجعه مراجعة جذرياً. ويعبر عن ذلك بوضوح قول خالد أمين: “يحتاج تاريخ المسرح، إذن، إلى المراجعة وإعادة التأويل، والكتابة باستمرار، وبالتالي إلى التحرّر من الوحدة المتمركزة المتضمنة بين سطور وصفحات تاريخ المسرح الغربي وهوامشه. ويستلزم أي نقد جدّي للتقاليد الفرجوية للتابعSubaltern ، إذن أن يعوِّض السرد الموجود بسرد جديد أو سرود”[6]، وهو رهان صعب غير أن المحاولة تبدو مغرية ومطلوبة لتحرير نظرتنا من سلطة النموذج وقوة حضوره في رؤيتنا الجمالية. وهو ما يفصح عنه قول خالد أمين: “على الرغم من الصعوبة الكبيرة الحافة بمهمة إبستيمولوجية من هذا القبيل. وبتعبير آخر، فإنه لا ينبغي للمسرح الغربي أن يتمثل باعتباره أصلا للمسرح الإنساني، بحكم أن الوقت قد حان لإعادة اعتبار الأشكال الأخرى للتقاليد الفرجوية/المسرحية التي وجدت قبلا خارج إسار المركزية الأوربية. وعلى أفضل تقدير في الحدود الفاصلة بين الدراما واللادراما والمسرح وما قبل المسرح (مع مراعاة خصوصيات التجنيس).”[7].
وعليه فمبرر غياب الفرجة التي تنتفي بوجود ممثل واحد جهل بحقيقة المسرح وأشكاله المختلفة. ذلك أن فن الممثل الصيني مي لان فانج “البلورة غير المنتظرة لانتظار الأساتذة المجتمعين في موسكو.”[8] هو الذي ألهم بريخت نظرية التغريب بحركاته في أحد عروضه ذات ليلة بموسكو كما ألهم مايرهولد وغيره. وقد كان يقوم بعرض مسرحي كامل لوحده. فمدار الأمر ليس هو حضور ممثل واحد على الركح في كل العرض بل بطريقة هذا الحضور وقدرته على ملء الفضاء الفارغ، وتأثيثه بفرجة مشبعة تحقق انتظارات التمسرح.
وهم الأصول
هناك من يرجع أصول المونودراما إلى ثيبيس في بداية القرن السادس ومنهم علي الراعي الذي يقول:
“على ما يسجل المهتمون بالتاريخ للمسرح فإن المظاهر الأولىة لقيامة مسرح المونودراما سواء كان ذاك عالميا أو محليا. كانت قد بدأت مع الرجال من المسرحيين وذلك في كل تفاصيل المشهد المسرحي المونودرامي، أي من النص والتمثيل، مرورا بالإخراج والديكور وغير ذلك من متممات الفرجة المسرحية.
وعلى ما يروى مؤرخو المسرح فإن الشاعر ثسبيس الإيكاري الذي عاش قبل الميلاد بعدة مئات من السنين كان هو الممثل الأول للمونودراما في التاريخ.[9]
وكذلك محمد أبو العباس.” إن المسرح منذ النشأة الأولى قد اعتمد على المونودراما ومن يقرأ تاريخ المسرح لا يغفل ( عربة ثسبس).[10]
يرى ماري كلودهوبرMarie-Claude Hubert أن المسرح بدأ فرديا على يد شاعرThespisالذي كان يلقي قصائده المكتوبة مصحوبة بالرقص، “وكان ذلك حوالي 505 قبل الميلاد،
لكن هذا ربما فيه لبس ويستوجب معاودة التأمل، وكما يقال المسألة فيها نظر.
صحيح أن كل المشيرات تذهب إلى أن ثيبس أوجد الممثل إلى جانب الجوقة فتحولت بمقتضاه الأغنية الديثورامبية إلى دراما.تمثيلية حيث كانت أول مرة تقف الشخصية نفسها ” أمام الجمهور وتمثل وقائع الحدث التي تريد أن تطلع الناس عليها. وهذا هو أساس الفكرة الدرامية ككل من حيث كونها محاكاة فعل عن طريق تمثيله فكان يتخذ هيئتهم بالتنكر ويقمص شخصيتهم بالحركة والكلمة ويعبر عن مشاعرهم. فلا غرو إذن أن يعتبر ثيسبيس لدى القدامى والمحدثين خالق فن التراجيديا”[11].
وكان مسرحه بسيطا يقدمه ببرولوغ يحتوى على شرح تمهيدي للحبكة يتلوه الممثل على الجمهور واقفا في مقدمة المنصة يتلوه حديث فردي (مونولوج) بعض أغاني الجوقة التي تؤديها أمام المنصة مصحوبة بالرقصات المناسبة. وفيما بين الأغنية والأغنية يظهر الممثل من جديد بعد أن يكون قد غير ملابسه وقناعه.[12].
غير أن القول بأن ذلك أصل المونودراما فهذا القول فيه شيء من اللبس الذي يجب أن يوضح من ذلك أن كلمة ممثل في اللغة اليونانية hypokrites)) كانت حينئذ تعني المجيب ” لأن عمل الممثل الأصلي كان آنذاك يتمثل في أن يدخل في حوار مع أفراد الجوقة بأن يجيب على أسئلتهم. ومن الواضح أن هذا التعديل يهدف أساسا إلى زيادة الأجزاء الحوارية التي كان قد أوجدها آريون-أو غيره”.[13] ونحن نعلم أن الجوقة أو قائدها كانت أشبه بالممثل ، وكان على عاتقها السرد والتعليق على الأحداث وشرحها للجمهور وإعطاء إفادات والحوار مع الممثل. كانت بشكل أو آخر ممثل في أجزاء كثيرة من العرض على الأقل من خلال الحوار.
إلا أن مسرح ثيبيس كان أشبه بالمسرح الفردي لأنه كان يقوم بكل المهمات من تأليف وتمثيل واعداد مستلزمات العرض المسرحي فثيبيس كان يقوم بدور » الممثل «في مسرحياته إذ ظهر ليلعب أدوار الشخصيات العديدة التي قدمها على التوالي. واستطاع أن يفعل ذلك بفضل لجوئه إلى تغيير ملابسه كما كان يغطي وجهه إما بالرصاص الأبيض أو بنبات الرجلة. ولكنه لم يلبث أن اخترع القناع الكتاني.” [14] وهذا تقليد سار عليه من تبعه مع استثناءات منها سوفوكليس بالنظر إلى صوته الرخيم الذي لا يستطيع أن يوصله إلى الجمهور فلم يكن قادرا على التمثيل بسبب ذلك.
المسرح الفردي من وجهة نظر صاحبه الذي يقر بصعوبة هذه التجربة
يقر عبد الحق الزروالي بصعوبة هذا النوع المسرحي . ولهذا السبب لم تنتشر تجربة المسرح الفردي، لأنه قد نجد ممثلا جيدا بيد أنه يحتاج إلى من يكتب له، وقد تجد ممثلا جيدا يحتاج إلى من يكتب له: وقد تجد كاتبا جيدا ليد أنه يحتاج إلى من يخرج له، وقد تجد مخرجا جيدا يحتاج لمن يؤدي الدور المسند له.
يتعين على تجربة المسرح الفردي أن تقوم على التكامل، بمعنى أن مفهوم المبدع الشامل في الغرب هو القمين بإنجاحها. فالعملية الابداعية في المسرح الفردي تولد متكاملة، إذ لا يمكن أن نكتب نصا في فترة زمنية ما، ليتم إخراجه أو تمثيله في فترة زمنية أخرى. فهي إما أن تولد بكل مكوناتها وعناصرها أو ستظل تجربة مفككة في جوهرها.” كما يورد في أحد حواراته في برنامج “مشارف” الذي يقدمه على الأديب عدنان ياسين..
وفي هذا البرنامج يقر الزروالي بأن الذي ينتج المسرح هو العمل المتكامل يقول: ” أنا لا أعترف بوجود كاتب ومخرج وممثل ومصمم أزياء وغيرها من مكونات العرض المسرحي، ما يهمني هو أن نصل بالمبدع المسرحي إلى الإلمام بكل هذه المكونات حتى يعطينا مسرحا تتكامل غيه العنصر بشكل إجرائي يهدف إلى تخفيف العبء عن التخصصات”
انطلقت مغامرة الزروالي رائد المونودراما في الوطن العربي منذ سنة 1976 بمسرحية الوجه والمرآة، وجنائزية الأعراس ورحلة العطش، وعكاز الطريق وبرج النور، وسرحان المنسي، وزكروم الأدب، ونشوة البوح. وإن سبقتها مسرحية “ماجدولين” سنة 1967 مع أنه لا يعتبر محاولته تلك تدخل في هذا الإطار، ويقر بأن “التأريخ لتجربة المسرح الفردي أو مسرح الممثل الواحد بدأ سنة 76-77 مع المهرجان الوطني الأول للمسرح الفردي” ويشير إلى المسرحيات التي أفرزتها الممارسة خلال الثلاث سنوات السابقة عن المهرجان هي “الزغننة” لمحمد تيمد، “شريشماتوري” لنبيل لحلو، “الزيارة” لعبدالكريم السداتي، “الحرباء” لحوري الحسين، و”الوجه والمرآة” لعبد الحق الروالي. ويذهب محمد أسليم إلى اعتبار أعمال أحمد السنوسي وبنياز تدخل في هذا الإطار . كما أن هناك إشارات إلى تأثره بمن سبقوه، أمثال محمد تيمد في “الزغننة” وعبدالكريم برشيد في “الناس والحجارة” والمرحوم حوري الحسين في”الحرباء” و”السباق” ومحمد قاوتي في “اندحار الأوثان” وقد تخلى العديد من هؤلاء عن التجربة ليتركوا المجال لعبدالحق الزروالي ليواصل المسير ويحقق تراكما كميا جعل اسمه يقترن بالمسرح الفردي بدون منازع. وما يمكن استنتاجه عموما، من الكثير مما قيل، حول مسرح الممثل الواحد، في المغرب، إنه خرج من رحم مسرح الهواة، في سنوات الستين، فهل كانت ولادته ناتجة عن تطور طبيعي لهذا المسرح في المغرب ؟ وهل يمكن تناوله باعتباره ظاهرة ؟ أو تيارا أو اتجاها مسرحيا ؟[15]
أو تجربة ممتدة على نسق واحد على شكل حلقات مسلسل واحد بمقاسات وأبعاد واحدة. يحضر فيها الزروالي بشكل الذي لم يغير الزمن من ملامحه الوجودية والفكرية. وبأسلوبه في الأداء، ومقاماته الصوتية والأسلوبية المؤسلبة.
يلخص رجل واحد لمدة أربعين سنة تجربة طويلة ومستمرة في العمل المسرحي الفردي مع انفتاح على العمل المشترك بالاشتغال مثلا مع السينوغرافي المتميز يوسف العرقوب، وعبد المجيد هوس، والمرحوم بوعود، والمخرج عبد الكريم شداتي.
ويبقى السؤال هل استطاع الزروالي من خلال مسيرته مع هذه التجربة اختراق النمطية والاجترار في الكتابة والأداء. وهو تحدي وصعب؟ هل استطاع أن لا يكرر نفسه.؟ ولا نتحدث عن اختلاف الموضوعات التي لا يمكن وحدها أن تصنع مسرحا من خلال أبجديات العرض والأداء؟
لقد عرفت تجربته نقاشا منذ السبعينيات كما طرحت قضية التسمية المونودراما، أو المسرح الفردي أو مسرح الممثل الفردي أو مسرح شخص واحد بإلحاح..
يمكن أن تصنف تجربة ممتدة في مسرح الممثل الواحد باعتبار أن هناك كاتب وهناك مخرج وهناك ممثل. إطار هذا التقسيم أنسب تسمية هي مسرح الممثل الواحد يقدم مجموعة من الأشخاص لوحده.
تردد الزروالي بخصوص التسمية في برنامج مشارف أن أنسب تسمية تناسب تجربته هي المسرح الفردي على اعتبار أن التجربة لديه تولد متكاملة فهو يكتب تمثيله بإحساس المخرج والممثل الساكن فيه ولا يمثل إلا تجربته وقد انكتبت بكامل تفاصيلها لديه. وفي برنامجFBM . من إنتاج MED1 يصرح لمحاوره بلال مرميد بأن تسمية المسرح الفردي هي تسمية وليدة خطأ البداية حين أطلقها عليها عام 1976. وينعتها بمسلسل تجربة المونودراما عند عبد الحق الزروالي. في كونها تسير على الوتيرة ذاتها وتساير إيقاعات المقام الخطابي نفسه.
الاعتراض
قوبلت تجربة الزروالي بالرفض كما يصرح من البعض لأن هناك من يرفض تسمية المسرح الفردي انطلاقا من فهم المسرح بكونه عملا جماعيا. وهذا من منطلق دعوة للتمسك بالعمل الجماعي
وهناك من رأى فيها ظاهرة مرضية في السبعينيات. لكونها تجربة تخرق مجال العمل الجماعي ويستجيب أصحاب هذا الحكم . لأصداء المسرح الطليعي الذي تفجر بعد ثورة ماي 1968. في مسارح عالمية مثل المسرح الحي Leving Theatre الذي ناهض مسرح برودواي. واعتمد على الارتجال وإشهار التمسرح والتأليف والإخراج الجماعي وتوحيد المسرح بالشعر، إذ شكل ذلك روح العصر حينها في بحر السبعينيات L’air du temps.
غياب الدعم هزالة المنح وغياب العمل الجماعي.
استمرت هذه التجربة رغم كل التحديات وأوجدت لها جمهورا في مناطق مختلفة محليا وعربيا. ولم تمت. بما تحمله من قيمة فكرية وفنية وأيديولوجية. رحلة العطش عرضت 84 مرة.
وبعضها حصد جوائز مثل “كدت أراه” التي فازت في المهرجان الوطني للمسرح الاحترافي بمكناس 2003 بجائزة أحسن نص، وأحسن سينوغرافيا، وأحسن ممثل. وتمثل نضجا فنيا في نسق هذه التجربة المتواصل.
ملامح بارزة في تجربة المونودراما عند عبد الحق الزروالي وهو التحديد الذي ارتضاه
ما يميز هذه التجربة هو القيام بمختلف المهمات من كتابة النص والإخراج والتمثيل عدا بعض العروض المتأخرة ومنها ” كدت أراه” الذي استعان فيها كما أشرنا إلى أغاني وموسيقى الدرهم. إخراج محمد الغرملي، ومصمم الديكور ومهندس الإنارة..
هذا في الوقت الذي يمكن أن تتعدد أطرافها بوجود كاتب، ومخرج، وممثل، وسينوغرافي.
ـ السرد: من الملامح البارزة طاقة الممثل في الحكي وفي الاسترسال والقدرة على إحداث مفارقات كلامية في الخطاب والانسيابية في السرد، مع استغلال طاقة الكلام والحكي ومقامات الحوار، والسرد، والكلام الذي ينفتح على آفاق متعددة اجتماعية سياسية ونفسية، وطنية وقومية. وهو ما يؤشر للطابع الأدبي للعروض.
ـ البعد السمعي ( الخطابة والإغراق في السرد): أغلب التجارب العربية التأصيلية ركزت على الحكي، والسرد من خلال اعتماد صيغ تراثية: من سمر، وحلقة، ومداح، وحكواتي، وتوظيف الأغاني، وحلقات الذكر، وفنون القول مثل الاستطراد الذي لجأ إليه المبدع عز الدين المدني. وهذا يتماشى مع خصوصية الذاكرة العربية. فإذا كان للغربيين ذاكرة النص الدرامي المتبنين على إرث عظيم من النصوص الدرامية التي يقوم عليها مسرحهم على امتداد التاريخ، وللشرقيين ذاكرة الجسد الذي استهوت لغته الهيروغليفية أبرز رواد المسرح من طليعيين وتجريبيين بدءاً من أرتو إلى باربا ومنوشكين، فإن للعربي ذاكرة الحكي والقص والسماع. وهذا ما يجعل هذا النوع من العروض يلقى استجابة من الجمهور. لأنه يخاطب ذاكرتهم
ـ حضور التراث.: يمتح الزروالي من التراث الشعري والحكائي والصوفي. يمسرحه كما مسرحيته “كدت أراه” التي فيها انفتاح على العمل الجماعي ساهم فيه يوسف العرقوبي السينوغرافيا وأغاني وموسيقى الدرهم. إخراج محمد الغرملي، ومصمم الديكور ومهندس الإنارة. إذ يلجأ فيها الزروالي إلى مسرحة كتاب المواقف والمخاطبات لمحمد عبد الجبار النفري الذي عاش سائحا طوافا مجهولا لا تستقر به أرض ولا يهدأ له قدم أو حال أو مقام. وفي هذا المقام يمسرح المقام الصوفي إلى أعمال منها شعرنة النفري في شعر أدونيس، ومسرحية الحلاج مع صلاح عبد الصبور، ومسرحية أبو حيان التوحيدي. للصديقي. يحاول فيها التعبير من خلال رمزية النفري عن الغربة المضاعفة غربة مكانية وغربة زمانية وغربة ناتجة من إيغاله الرمزي في أعماق التجربة الصوفية والوجد. وربطها بالواقع.
ـ طاقة التصوير: كما يمتاز بطاقة التصوير من خلال الصورة المجسدة بأوضاع الجسد الذي يشغر لوحده مساحات الركح، وأبعاده مستعينا ببعض الأشياء المسرحية، وسينوغرافيا ثابتة، ولباس يتخذ أشكالا مختلفة حسب طبيعة الشخصية ومقام الكلام.
ـ اللغة المقعرة: يعمد الزروالي في تجربته إلى تطويع اللغة الفصحى وشعريتها التي يخرقها بالعامية المغربية محدثا نوعا من التقعير الذي يقصد خلخلة سياق النص من خلال إدماجه في المعيش ووضع قنوات الاتصال بينه وبين الجمهور من أجل تقريب رمزية النفري الفلسفية الصوفية وتوجيهها نحو مقاصد متعلقة بالمعيش. مزاوجا بين بلاغة الخطاب الصوفي ومن خلال الاستعارات، والرمز والالتفات. وبلاغة العرض، والأداء الفردي. الذي يطعمه بأجواء رمزية إيحائية. مع اللجوء إلى السخرية والتهكم والمفارقات الذي تثير الجمهور. ويقوم من خلالها إلى توجيه الخطاب في أنحاء ومقاصد مختلفة جماعية وشخصية. ذاتية وغيرية.
ـ تنويع المقامات الخطابية يلجأ الزروالي إلى التنويع في المقامات الخطابية من الجمل القصيرة الموحية إلى السرد الطويل، ومن المناجاة إلى مخاطبة الجمهور. والحوار الذي يقوم به من خلال المحاورات، والغناء.
ـ الصوت الفردي المتقمص الذي يلخص العام ويتقمص هموم المجموع في كل مكان ولا مكان وفي كل زمان ولازمان محدد أكثر من الخاص من هنا يحدث نوعا من القطيعة مع الصوت المنفرد الذي يُؤدرم dramatisé يقوم على استدعاء إشكاليات الإنسان والواقع.
ـ السينوغرافيا الرمزية التي تؤثث الركح، وتساهم في وضع المتفرج في جو غريبي بعيد عن استنساخ الواقع.
ـ الموثرات الصوتية ، والإنارة اللباس والأشياء المسرحية. التي تعمل على إضفاء طابع التمسرح على العرض.
ـ القدرة على الحركة من خلال ملء الفضاء، وصناعة تمثيل .بواسطة الأداء النمطي.
ـ المزج بين طاقة الكاتب والمخرج وطاقة الممثل والسينوغراف إلا في تجارب معينة مثل ” كدت أراه ” حيث تم الاستعانة بآخرين في السينوغرافيا التي أنجزها يوسف العرقوبي . فالمونودراما تجد جماليتها وإثارتها على الركح من خلال شخصية الممثل . حيث لا يوجد فيه إلى نفس واحد هو نفس الممثل الواحد. الذي يقوم بالسرد والتحرك على الخشبة من خلال مهمات إنجازية يحتاج فيها إلى تنفيذ مفردات العرض بشكل يضمن تفاعل الجمهور وبقاءه أمام العرض.
خلاصة
تحتاج لهذه التجربة التي إلى معاودة التأمل. لما تمتلكه من قدرة على صناعة العرض والفكر والأداء بالدرجة التي تقدم ذاتها في صورة أدبية لا يخطئها الفهم.
[1]ـ عبد الحق الزروالي : تجربة مسرحية بين صرختين. شهادة ضمن الثقافة المغربية .ملف المسرح المغربي. ع8. ماي 1999.ص149
[2]ـ ـ المونودراما مسرحية الممثل الواحد . تجارب المونودراما في المشهد المسرحي العربي. محمد أبو العباس. .الناشر. العبيكان .ط1 1431ه/2010. ص 10 عباس
[3]ــ نفسه ص11
[4]. ص11 نفسه ـ
[5] ـ الشخصية في المسرح المغربي بنيات وتجلّيات. عزالدين بونيت. منشورات كلية الآداب جامعة ابن زهر الرسائل والأطروحات 2/1992
[6] ـ الفن المسرحي وأسطورة الأصل خالد أمين الطوبريس. ط1/2002.ص57
[7]ـ الفن المسرحي وأسطورة الأصل ص 57
[8] ـ نفسه ص 119
[9]ـ المونودراما ومبدعات المسرح السوري. علي الراعي. من مجلة ” الحياة المسرحية ” التي تصدر عن وزارة الثقافة -مديرية المسارح والموسيقا. سوريا العدد 88/89.
[10]ـ المونودراما مسرحية الممثل الواحد. سبق. ص11.
[11][11]ـ الشعر الأغريقي تراثا إنسانيا وعالميا.. أحمد عثمان. عالم المعرفة ع 77. مايو 1984. الكويت.
[12]ـ نفسه 187/188.
[13] ـ كتاب الشعر الإغريقي. 186
[14]ـ نفسه.
[15]المسرح الفردي في المغرب عبد الواحد عرجوني . مجلة أقلام الثقافية.
الربط
http://archive.libya-al-mostakbal.org/Thaqafa/july2008/abdulwahed_arjoni_160708.htm
..