المسرحية دراما أخلاقية معاصرة، تتناول الحميمي والوجودي، وبناء الهوية وصعوبة تحرير القول، والصوت الرسمي المتسلط.
كم تحفل الحياة بأصنام تصنعها المؤسسات الرسمية وترفعها إلى مقام الآلهة، فإذا ما أمعنا النظر اكتشفنا أنها زائفة، عن الكذب والوهم والزيف تحوم مسرحية النمساوي ستيفان زفايغ “أسطورة حياة” التي تعرض لأول مرة في فرنسا على خشبة مسرح “مونبرناس” بباريس، وهي من إخراج كريستوف ليدون.
“أسطورة حياة” مسرحية في ثلاثة فصول ألفها النمساوي ستيفان زفايغ عام 1919، وكتب في مقدمتها أنه استعان في تأليفها بعناصر من سيَر فاغنر، ودستويفسكي، وفريدريخ هيبل، وإن كانت العقدة والشخوص متخيلين.
وتروي وقائع تحطيم أسطورة ساهمت أطراف عديدة في صنعها ونفخت فيها حتى أضحت رمزا وطنيا، ثم تنكشف الخيوط صدفة بعد رحيل ذلك الذي تقلد في حياته قلائد المجد.
في ديكور تذكر لوحاته وأعمدته بعشرينات القرن الماضي، تبدأ المسرحية التي تعرض لأول مرة في فرنسا على خشبة مسرح “مونبرناس” الباريسي، ومن إخراج كريستوف ليدون، بسهرة باذخة في بيت الشاعر الراحل كارل أماديوس فرانك، حيث لبت شخصيات من المجتمع الراقي دعوة أرملته ليونور فرانك إلى الاحتفاء بأول مجموعة شعرية أبدعها ابنها فريدريخ، سيرا على خطى أبيه الذي رفع إلى مقام الرمز الوطني، وبالأحرى استجابة لرغبة أمه في أن يصبح الابن في مقام والده.
ذلك أن هذا الصرح يعوق ابنه عن اتخاذ الطريق التي يرضاها لنفسه، حتى أنه كان يتمنى الزوال، بدل الوقوف أمام الملأ لإلقاء قصائده، وهو يعلم أنهم لم يأتوا إلاّ لكونه ابن فلان، فيما هو يريد أن يثبت ذاته بذاته، ويبني حياته بوسائله الخاصة، دون أن تسطر خطوطها أطراف أخرى، لا أمه، ولا اسم والده، فمأساته أنه منذور أن يكون نسخة من أبيه، ولكن ظهور ماريا فولكنهوف يغير كل شيء.
هذه المرأة الغامضة سوف يتضح أنها كانت تشارك الشاعر الراحل حياته، وتعرف عنه كل شيء، بل إنها لا تزال تحتفظ بمخطوطاته ورسائله، وإهداءاته التي تثبت العلاقة بينهما، فيحتد الجدل بين المرأتين اللتين عاشرهما فرانك، وتتجلى ملامح الشك والغيرة بين امرأتين تختلفان في كل شيء: ماريا العشيقة الفقيرة التي تعيش في الظل، وليونور الزوجة الثرية التي تبسط حضورا صارما في البيت وخارجه.
مسرحية تروي وقائع تحطيم أسطورة ساهمت أطراف عديدة في صنعها ونفخت فيها حتى أضحت رمزا وطنيا، ثم تنكشف الخيوط صدفة بعد رحيل ذلك الذي تقلد في حياته قلائد المجد
وبذلك يحدث شرخ في صورة كارل، ويتبدى شيئا فشيئا أن أسطورته صنعتها بصبر وأناة زوجته ليونور بالتعاون مع ناشره بورشتاين، وأن سيرته الذاتية التي دوّنتها كلاريسا فون فنغن مزيفة.
وسرعان ما يستبد بالبيت كله خوف من الماضي يدرك المتفرج أن ليونور حرصت دائما على ردمه، بالتعاون مع كاتبة السيرة، وباقتحام ماريا فضاء البيت، يدرك فريدريخ أنه كان طوال سنينه الماضية يعيش في الكذب. ويجد فيها منقذا من مصيره المحتوم، فيبادر بزيارتها في بيتها منذ اليوم التالي ليعرف الحقيقة التي طالما أخفتها الرواية الرسمية التي صنعتها أمه، ويرتاح كثيرا حين يعلم أن والده لا يختلف في سلوكه عن بقية البشر، يخطئ مثلهم ويصيب.
كان ثائرا على الصورة الأسطورية المغلوطة التي كانت تضطهده، حتى كره بسببها أباه، ثم صار يحبه بعد أن نزع عنه قناع البطولة الذي صنعته العائلة، وأقرّ بإنسانية الرجل التي لا تخلو من عيوب ونقائص، وكأن زفايغ يتساءل: هل يمكن أن نعيد كتابة حياة الآخر إلى الحدّ الذي نصنع منه أسطورة؟ وهل يمكن أن يصنع الإنسان نفسه في ظل أبطال؟
من هنا تختل الميكانيكا الرسمية المزوقة، فتمضي المسرحية إلى معالجة السؤال الحقيقي، وهو أن تحطيم أسطورة لا مفرّ منه لإظهار الحقيقة أولا، وترك المجال لبروز أسطورة أو أساطير أخرى، وفي الأقل فسح المجال لإمكانات أخرى، تعيشها الشخصيات على هواها، فهو يفتح أمام فريدريخ مثلا إمكانية بناء حياته بطريقة مختلفة، والحال أنه كان يتأهب لإعادة إنتاج المخطط الأبوي في حياته الخاصة، ويفتح أمام ماريا اعترافا لم تكن تتوقعه، وأمام بورشتاين إمكانية بناء حياة ثقافية وفكرية خالية من الزيف. أما ليونور فيفتح لها إمكانية أن تعيش حدادا مؤلما، كشرط لولادة جديدة.
في هذه المسرحية، كما في أدب زفايغ، تتجلى قدرة الكاتب النمساوي على سبر أغوار الذات، باستعمال كتابة بسيطة في ظاهرها عميقة في معناها، كتابة تنفذ إلى أغوار الشخصيات لتسبر نفسيتها وتصور مشاعر لا تني تتطور، كالأسى في حالة ماريا، ثم الإحساس بالانتقام، وعزة النفس، فكتابته غوص في طبيعة الإنسان وأسراره.
“أسطورة حياة” دراما أخلاقية معاصرة كما وصفها مؤلفها، تتناول الحميمي والوجودي، وبناء الهوية وصعوبة تحرير القول، كما تعالج ثيمات أوسع، كالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وتغذية بعض العائلات لمبدأ السرية، والصوت الرسمي المتسلط، كصدى للمعركة الطويلة التي خاضها ستيفان زفايغ ضد شتى أنواع الدكتاتوريات.
يقول كريستوف ليدون مخرج المسرحية “بعد ‘رسالة من مجهولة’ والمتعة التي غمرتني عند التعامل مع آثار ستيفان زفايغ، دفعتني رغبة العثور على نص غير معروف تماما لهذا المؤلف إلى إعادة قراءة مسرحه بدل تحويل قصصه مسرحيا، عند اكتشافي ‘أسطورة حياة’، انفتح أمام خيالي كمخرج عالم من الانفعال والتأثر والتأمل: في مناخ عائلي متوتر يذكر بإبسن وفوكنر مجتمعين، وجدت هوس تريبليف في ‘النورس” وقوة توماس برهارد”.
_______________
المصدر / العرب
موقع الخشبة