المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة
المسرحية توظف صيغة بصرية تدمج بين السينما والمسرح، كأسلوبي سردٍ يحضران معا على الخشبة، وذلك للاستفادة من مميزات كل منهما لبناء الحكاية ومستوياتها.
كيف يمكن الحديث عن دونكيشوت في الألفية الجديدة، في ظل الفصام الرأسمالي، والسياسات القمعيّة، والخراب المتسارع للشروط الإنسانيّة، وكيف ستنتقل حكايته في عالم تطغى عليه التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعيّ، التي تتيح للفرد أن يكون بطلا أو أضحوكة في ثوان، التساؤلات السابقة تحضر في مسرحيّة “تحت جلد دونكيشوت”، التي تستضيفها خشبة مسرح المدينة في العاصمة الفرنسيّة باريس.
العرض من إخراج كل من ماتيلد وايرغانس وسامويل هرقل مؤسسي فرقة “لاكوردنيري”، التي توظف صيغة بصرية مميزة، تدمج بين السينما والمسرح، كأسلوبي سردٍ يحضران معا على الخشبة، وذلك للاستفادة من مميزات كل منهما لبناء الحكاية ومستوياتها؛ كأن نرى الممثلين على الخشبة يؤدون بأصواتهم ما يحصل على الشاشة، وأثناء سير العرض، نرى أن الممثلين يلعبون دورين مختلفين ومتزامنين، الأول آنيّ مسرحيّ أمام الجمهور، والثاني سينمائيّ خارج زمن العرض.
التقنية السابقة مرتبطة بطبيعة نص سيرفانتس، والعلاقة بين المتخيّل الهذياني الذي يعيشه دونكيشوت، وبين “حقيقته” كشخص، فالسينما بوابة نحو الأحلام وتحقيقها، في حين أن الخشبة، تختبر “الحقيقة” ومدى واقعيتها، فالعرض وليخلق الحس بالواقعيّة، يتبنى ذات التقنيّة الموجودة في النص الأصليّ؛ إذ يبدأ العرض بفريق العمل (الراوي) ومحاولتهم لإنجاز مشروع مسرحي جديد.
وأثناء ذلك، تخبرنا المخرجة أنهم وجدوا صدفة صندوقا قديما يحوي سيناريو فيلمٍ غير مكتمل، لمؤلف مجهول التاريخ اسمه سيدي حامد بن علي، ذات الشخصية الوهمية التي يشير إليها سيرفانتاس، بوصفها التي قامت بتأليف حكاية دونكيشوت، هذه “الصدفة” هي التي تدفع الفريق إلى إعادة بناء حكاية الفارس الشهير بوصفه بطلا عابرا للأزمان.
تقوم الفرقة المسرحيّة بإنتاج السيناريو الناقص، وتحويله إلى فيلم ونص مسرحيّ، حينها نتعرف على بلدة مجهولة في الريف الفرنسيّ، يسكنها ميشيل ألونزو، الذي يعمل في مكتبة البلدة العموميّة، كموظف مسؤول عن تحويل مؤلفات القرون الوسطى إلى نسخ رقميّة، إذ نراه يقضي ساعات يومه صامتا، يقرأ وينضد الكتب وينسخها على أقراص ليزرية، تحت إشراف العمدة الذي يرغب في مواكبة العصر والنهوض بالمكتبة.
لكن، وأثناء تأديته لعمله البيروقراطي والروتيني، يقع ألونزو في حب طبيبة نفسيّة ترتاد المكتبة، وتستعير دوما كتاب دونكيشوت، وفي ليلة رأس السنة، مطلع الألفية الثالثة، وإثر خطأ في الكمبيوتر، تبتلع الشاشة ألونزو، ليتحول إلى دونكيشوت، لنراه في أرض الخيال السينمائيّة، باحثا عن معشوقته، مرافقا إياه سانشو (عامل في المكتبة) الذي يساعده في مغامراته، وفي الدفاع عن شرف الفرسان والتصدي للبرجوازيين الصغار.
تتجلى أمامنا مأساة دونكيشوت تدريجيا، إذ يبدأ جنونه وأوهامه السينمائيّة بالتلاشي، ويبقى حبيس الواقع/ الخشبة، حيث ينعته الناس بالجنون، أما معشوقته، فغافلة عن مشاعره، ولا تعلم سوى أنه مريض نفسي، تحول إلى أضحوكة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وحين انتهى به الأمر في المستشفى النفسي، يقرر الأطباء أنه مصاب بكل الأمراض الهذيانية والفصاميّة التي يمكن أن تحضر في معاجم التحليل النفسيّ، مع ذلك فهو قريب من حبيبته التي تشرف على علاجه، ولا تدري أنه فارس من العصور الوسطى وأسير عشقها، تناوله الأدويّة يوميا، كي يعود إلى “عقله”، وممارسة حياته كميشيل ألونزو موظف المكتبة المسحوق، أسير اسمها وكلمات سيرفانتس.
الألفية الثالثة جعلت دونكيشوت أضحوكة عالميّة، مأساته الذاتيّة وفصامه العرضيّ ملك للشاشات، في إحالة إلى سياسات الاستعراض، التي تستهدف مختلف أشكال النشاط البشريّ، مرضيا كان أم صحيا، هلوسة أم إبداعا، وتحوله إلى بيكسلات ونقاط ضوئيّة.
فما يهم هو الأسلوب العلنيّ، والسلوك الذي يجعل الفرد متاحا ليكون منتجا جديرا بالتبادل والمونتاج وإعادة التبادل، فالمسرحيّة تنتقد مفاهيم الصور واستنساخها اللامتناهي حد فقدانها لأصلها، فألونزو يحضر على شاشة السينما وخشبة المسرح ثم شاشات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بوصفه عارضا لواقع متخيّل ووليد عطل في الكمبيوتر، خطأ تقنيّ يتكرر ويتحول إلى “حقيقة” لا أثر لها إلا على الشاشة، وكأنه تجلّ مادي للنوستالجيا المرتبطة بالألفية الجديدة، والحنين إلى زمن وعلاقات ماضية ولّدتها المخيلة ذات السيناريوهات غير المكتملة.