المصدر / محمد سامي موقع الخشبة
أنجذب الشاعر “صلاح عبد الصبور” ، ضمن من انجذبوا من الأدباء والصحفيين ، لعالم المسرح فى النصف الثانى من الستينيات ، ليترك لنا خمس لآلئ مسرحية تؤسس نفسها بأرض الدراما ، وتهفو لسماوات الشعر ، وتثير عقل المخرج النابه لتقديمها برؤى متجددة ، وحققت مسرحياته ما يعرف بالدراما الشعرية ، مكثفة الفعل ، مقطرة الكلمة ، ومشحونة بشحنة موسيقية راقية ، وواعية بالفرق بين الحوار الدرامي والقصيدة متعددة الأصوات ، فضلا عن إدراكه لأهمية الصورة المرئية على المسرح وتعادلها مع الصورة الجمالية التى يخلقها الشعر ، وأحيانا تتولد عنها ، ولذا يصبح للمكان أهميته في بناء العرض المسرحي ، تاركا الزمان يفلت قصدا من بين يديه ، خاصة فى مسرحيتيه القصيرتين (الأميرة تنتظر) و(مسافر ليل) ، فبالرغم أنهما ذات صلة وثيقة بسياقهما المجتمعي الزمنى ، ألا أنهما ينفتحان على عوالم رحبة ، ويفتحان آفاقا أوسع للتفسير والتقديم .
لذا يحسب للمخرج ومصمم السينوجرافيا الشاب “محمود فؤاد صدقي” اختياره فى تجربته الاحترافية الأولي خارج معهده العالى للفنون المسرحية لنص مسرحية (مسافر ليل) الشعرية ، والناطق باللغة الفصحى ، ليقدمه برؤية حداثية فى سياق مجتمعي لم يعد أغلب جمهوره المسرحى يعرف تراثه الدرامي الزاخر بالنصوص الراقية ، بل صار يرفضه دون قراءة معمقة له ، ولم يعد يقبل على المسرح الشعرى ، ولا يجيد الكلام والاستماع للغة العربية الفصحى ، بعد أن أفسد التعليم والإعلام أجيالا كاملة لا تتكلم ولا تتحاور ولا تستمع ألا باللغة الهابطة .
ألتقط المخرج هذا النص المنشور لأول مرة بمجلة المسرح عام 1969 ، ومازال مثيرا للدهشة ، وعصى فى نفس الوقت على إخضاعه للإعداد باسم الدراماتورجية ، فهو نص شديد التكثيف ، لا يستطيع أحدا أن يضيف إليه كلمة ، أو يحذف منه كلمة ، وأن تم تحريف كلمة واحدة فيه فى أكثر من عرض مسرحي يخشى التصريح بها ، وهو نص غير واقعي يمزج التعبيرية بالرمزية فى بنية عبثية ، تنبثق فيها الصور مستدعاة من ذاكرة الشخصية الرئيسية ومتجسدة بصورة قاسية أمام عينيه ، ومن ثم يجرى حدث المسرحية فى أجواء فنتازية قاتمة ، داخل قطار مسرع يشير برمزيته إلى الحياة المتحركة دوما للأمام ، منغلقا على شخصياته غير القادرة على الفرار منه ، صاغه المخرج فى صورة عربة قطار واقعية ، وجسد وقائع حدثه بوسط العربة ، تاركا جمهوره يجلس فى جناحيها الأيمن والأيسر ، لكى يشاهد العرض من زاويتين متقابلتين ، محققا لأول مرة بعد تجربة “كرم مطاوع” الإخراجية منذ عقدين من الزمان لمسرحية (ديوان البقر) فى مسرح الهناجر ليشاهده جمهور العرض من زاويتين متقابلتين ، قبل فصل جزء منه وتحويله لقاعة سينما ، وها هو جمهور اليوم يشاهد ما يحدث أمامه ، منفعلا أحيانا ، ضاحكا أحيانا ، ولكنه صامت غالبا لأنه أراد أن ينأى بنفسه عما يحدث ، مشكلا الكتلة الصامتة فى المجتمع ، يرى ويخشى أن يتورط فيما يحدث ، حتى ولو تم اغتيال راكب بسيط مثله .
المهرج المهزوم
من تقنيات الدراما الحديثة يستخدم الكاتب تقنية الراوى الذى عايش الحدث الدموى ، فهو شاهد عيان رأى من قبل ما حدث داخل عربة القطار ، وهو واقف بإحدى زواياها ، ليخرج منها ساردا لجمهور المسرح ما حدث قبلا ، وكأنه سارد للتاريخ ذاته وحكاياته ، ومنها حكاية الليلة ، مما يخرجه فى البدء خارج زمانية الحدث المسرود ، ويفصله عن الجمهور المشاهد ، ويجعله يتحدث فى الزمن الحاضر الذى يعيشه الجمهور الآن عن فعل وقع فى الماضى ، فهو يعرف بطل مسرحيتنا المهزوم ، ويصفه بالمهرج ، ويعرفه بأنه بلا اسم أو صنعة أو حتى هدف له داخل هذا القطار الذى ينهب الأرض ليلا دونما معرفة لوجهته ، وأن كنا سنعرف فيما بعد من الراكب نفسه أن أسمه “عبده” وأسرته تحمل أسماء مشتقة من العبودية ، وهو يعمل حرفي دونما تحديد لنوعية هذه الحرفة ، غير أن هذا الاسم وهذا العمل لا يمنحانه هوية اجتماعية محددة ، هو مجرد نموذج للإنسان البسيط المغترب في مجتمعه ، نكرة من أحاد الناس وجد نفسه وحيدا فى هذه العربة الكونية ليلا ، فراح يواجه ملل الرحلة بعد أعمدة الطريق ، فلا تلهيه ، ويهم باللعب فى ذاكرته الشخصية ، فلا يستخرج منها سوى تذكرات مطفأة كأيامه التى مرت دون ثمار ، مكتشفا أن ماضيه ليس غير عدم ، تركه وحيدا فى حاضر سفرة ليلية غامضة ، وبجيبه مسبحة يعد عليها زمنه الضائع ، سرعان ما تنفرط منه ضائعة بدورها بين مقاعد العربة ، فاقدا بالتالي سنده الدينى ، ويجد نفسه معلقا فى فضاء الحاضر ، فيلجأ للتاريخ المسطور على جلد غزال مخبوء بمعطفه ، أخر ما يملكه بعقله ، مستدعيا منه ما يريد استدعائه بإرادته .
إتكاء على هذا الاستدعاء يتحول العرض من السرد الماضوى للتجسيد الآنى ، حيث يغادر الراوى منطقة الوسط ليجلس بين الجمهور المشاهد ، متخليا لبعض الوقت عن دور السارد ، وتاركا للراكب حرية تجسيد ما حدث له ، فيبدأ فى النطق متكلما ومختارا من التاريخ الذى يريد أن يختاره ، منطلقا من الطغاة الذين وقف عندهم التاريخ وسطر أعمالهم وهم عنده : من التاريخ القديم الإمبراطور الرومانى الغازي “الأسكندر الأكبر” ، والقائد القرطاجي الجامح “هانيبال” ، ومن التاريخ الوسيط الحاكم الأوزبكي المدمر “تيمور لنك” ، ومن التاريخ الحديث الفوهرر الألماني “أدولف هتلر” والأمريكى القبيح “ليندون جونسون” رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب على مصر عام 1967 ، والتى قادتها إسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة ، وهو ما يدفع الراكب للعودة إلى اسم الإسكندر مرة أخرى ، فكلاهما كان له دوره فى غزو مصر ، مما يجذب مسافرنا الليلي من سماء الدلالة الإنسانية العامة ، إلى واقع الدلالة المصرية الخاصة ، كما يغرس النص فى سياق المجتمع المصرى ومعاداته لأمريكا ، ويجعل لاسم “جونسون” وقع خاص على عقل الجمهور المشاهد للعرض زمنذاك ، ويتم السخرية منه باختراع اسم على نفس الوزن “مونسون” لا وجود له ، ولا دور غير السخرية ممن دعم هزيمة الجيش المصري وقتذاك ، بينما لا يستحضر جمهور اليوم هذا الاسم بدوره المقيت لكى يستوعب وجوده ويسخر منه ، والأمر ذاته مع الزعيم النازي “هتلر” الذى يليه اسم وهمي هو “متلر” سخرية أيضا منه .
وبينما يعاود الراوى الحديث منبها الجمهور إلى خطورة العودة للتاريخ ، حتى لا يخدعنا ويعود مكررا نفسه ، وعلينا أن ننطلق من حاضرنا نحو المستقبل ، لا ينتبه الراكب لهذا الدرس ويروح يستعيد الماضى ، ككثيرين ممن عاشوا أواخر الستينيات وواجهوا الهزيمة بالارتداد للماضى وتقديسه ، تحطيما للحاضر غير المتسق مع أفكارهم ، وعجزا عن رؤية المستقبل الكائن برحم الغيب ، والمتحقق بعقول تؤمن بالعلم ، وككثيرين اليوم ممن اضطرب الحاضر أمام أعينهم ، وغُم المستقبل ، وبدلا من مواجهة الحاضر تعلقا بالمستقبل يتقهقرون للخلف ليلعنوا الإنسان على تقدمه ، ويعلنوا القتال على كل من أختلف معهم ، بعد أن تم تزييف وعي المجتمع خلال عقود خلت ، لذا غاص المسافر فى مسرحيتنا بأعماق تاريخ البشرية ، ليس بحثا عن علمائه ومفكريه ، بل عن طغاته ، فشخصيته المقهورة سلفا لا تستدعي من التاريخ غير قاهريها ، فتتجسد له رموزه فى صورة عامل تذاكر يفتش بطبيعة مهنته عمن تسلل لقطار الحياة دون أن يمتلك تذكرة تبيح له ركوبه ، متجاوزا هذا للتفتيش فى عقل وضمير من يلقاه فى عمله ، متسلحا بكافة أدوات الموت التاريخية .
أحلام وكوابيس
يمثل وجود الراوي فى المسرحية تحديا أمام مخرجها ، فهو ينقل إلينا بالكلمات ما يجيش بوجدان الشخصية ، وما تقوم به من سلوك ، وعلينا بالتالي أن نرى أمامنا ما نسمعه من كلمات ، ولذا قام المخرج بتحرير حركته فى فضاء القطار ، يتحرك فيه بحرية ، وجسد هذا الشخصية “صفوت الغندور” بحرفية وتنقل صوتى ووجدانى من حياد السارد لمشاركة الراكب فى جمع حبات مسبحته ، للرعب من التورط فى جريمة لم يقترفها ، محررا بدوره هذه الشخصية من كونها معبرا عن صوت الأغلبية الصامتة ، إلى أن تكون أقرب بعقلها المثقف لقارئ التاريخ وسارده ، والذى لا يملك غير كلماته فى واقع دموى .
ينحاز النص بطبيعته العبثية ذات العمق التعبيرى للشخصية المتفردة وأحلامها وكوابيسها ورعبها من العالم ، فضلا عن فقدان المعنى والإله معا ، عبر تفكك البناء وتفتت الشخصية الدرامية ، وهو توجه يحتاج من أى عرض مسرحي يقدم نصا من هذا النوع أن يقدمه بصورة ساتيرية تسخر من شخصياته التى تعيش عالما غير ممنطق ، وهو ما أدركه “صلاح عبد الصبور” نفسه ، وصرح ذات مرة أنه لو أخرج مسرحيته هذه لأخرجها بصورة كوميدية ، وقد أدرك د. “علاء قوقة” بدوره مع المخرج هذا التوجه فى العرض ، فجسد شخصية المفتش المتجبر بصورة تثير السخرية منه ، واعيا بأن تعدد ستراته يجسد التعدد الوظيفي المتدرج من الأدنى للأعلي فى المجتمع الإداري ، دون أن ينزع عنه سمة التجبر ، وبان الأسماء التى يظهر بها هذا المفتش تحمل دلالاتها للراكب والجمهور معا ، فهو “زهوان” الزاهي بنفسه وعمله ، وهو “علوان” المتعالي على الأرض ، والمنتسب للسلطان ، ويرتدى سترة عشرية الطبقات ، صفراء اللون ، بكافة دلالات اللون الأصفر المتناقضة بين الإشراق والذبول ، فيتنقل بسلاسة بين الإيهام بالتعاطف والوهن لدرجة البكاء الميلودرامى وممارسة العنف المادى بصورة سادية ، متجليا فى أول ظهور له في صورة “الاسكندر” الذى استدعاه الراكب وتخاذل أمامه ، ثم سرعان ما يكشف عن أسمه المتعدد وهويته الباطشة ، ويطلب من الراكب المذعور تذكرته ، فيمنحه إياها فتبدو له خضراء وطازجة فيأكلها مهدرا حقه فى ركوب القطار ، ومن ثم تبدأ سلسلة الاضطهادات له ، بعد أن سلبت حريته وصار مغتربا داخل قطار حياته ، فيستكمل المفتش صور التجلي ، بتجسيد شخصية مأمور أمريكى ، بزعمه بأنه المسئول عن الأمن فى هذه المنطقة من الأرض زمنذاك ، وعن كل الأرض اليوم ، يفتش عن الأسلحة فى الأبنية وعن الأسرار فى الضمائر ، واصلا لاتهام الراكب المذعور بأنه قتل الله وسرق بطاقته أي أفقده وجوده على الأرض وانتحل هويته ، ومن ثم فقد كفر به وألحد ، وهى التهمة التى اعتادت السلطة فى مجتمعاتنا المتدينة أن تصف وتصفى بها المختلفين معها ، وتجند لها البسطاء ليحملوا دمه فى رقبتهم ، كما حدث مع “الحسين بن المنصور” فى مسرحية “عبد الصبور” الأولى (مأساة الحلاج) ، وكما يحدث اليوم أن تصدر الفتوى بتكفير المفكرين وأصحاب الرأى المخالف ، ويترك للعامة أمر تنفيذ الحكم عمليا .
اغتيال مسافر
بعد أن وصل المفتش لقمة السلطة بسترته العاشرة ، أقام للراكب ، الذي جسده بحرفية غير مصطنعة “مصطفي حمزة” محافظا على انكساره طوال الوقت ، أقام له محاكمة صورية هو القاضى وممثل النيابة والجلاد فيها ، شرح له فيها أسباب بحثه عمن قتل الرب ، والذى تجلي غيابه عن هذه الناحية من الأرض فى هذا الكم من الهزائم والإنكسارات والاضطهادات والانحرافات التى منيت بها المنطقة ، وبدلا من مواجهتها بعقلية علمية ، فسرت شريحة من المثقفين للعامة الأمر بغياب الرب عن أرضها ، ودعمت السلطة هذا التفسير ، فصلى من صلي للرب الذى غاب عن المجتمع فمنى بالهزيمة ، وخرجت الفتاوى التى تكفر الشرائح المؤمنة بالعقل فى المجتمع وتطالب بإعدامهم ، صحيح أن مسافرنا لم يكن من هذه الشرائح ، ولكن المفتش الطاغية قام بإعدامه كعشرات نفذ فيهم حكم الموت قبله ، بعد اعترافهم تحت سطوة العنف ، وذلك بزعم المحافظة على نظام الوادى ، وأن كشف الطاغية للمسافر المغتال ولجمهور المسرحية أنه هو نفسه سارق بطاقة الرب البيضاء ، وسالب قدراته ، ليقود بها هذا المجتمع ويسيره وفق ما يريد .
ولم يكتف بكل هذا بل طالب الراوى بمساعدته فى حمل الجثة معه ، وهو الذى آثر الحياد طوال الحدث ، فيلجأ لجمهور المسرحية ، ركاب القطار ، الذي آثر بدوره الحياد طوال العرض ، وإذا كان الجمهور يشاهد هذا الحدث الجلل لأول مرة ، فالراوى شاهده مرارا من قبل ، وربما وقف هذه الموقف الأخير أيضا قبلا ، دون أن نعرف ماذا فعل وقتها ، فرغم صمته ألا أنه لا يمثل جمهور العرض الصامت ، بقدر ما يمثل التاريخ الذى يدعى الحياد ، أو كما يدعي بعض كتابه من المؤرخين ، والذى أرخ لأحداث الماضي بعيون الطغاة والمنتصرين ، وترك للمسرح وغيره من الفنون مهمة الحديث عن البسطاء والمقهورين ، فجاء هنا ليستخرج من صفحاته حكاية الجلاد والضحية المتجددة على مر الزمن ، ألا أن الجلاد العصرى لم يرد أن يجعله محايدا ، بل أراد توريطه فيما يحدث ، ويحمل عنه ومعه دم الضحية برقبته .
عرض رائع تبهرك صياغته المكانية ، وتبدو لمسات “أبو بكر الشريف” واضحة فى وضع الشخصيات داخل حزم ضوئية تساعدها على الكشف عما بداخلها ، وتعمم الإضاءة فى القطار بأكمله فى لحظات المكاشفة والتوريط ، كما أستطاع المخرج توظيف موسيقي “زاكو” وصوت حركة القطار كمؤثر صوتى يظهر عاليا فى المواقف التى تبدو واقعية ، وتخفت حينما تتحول لمواقف لعبثية ، فتشارك الصورة المرئية دورها فى التنقل بالجمهور بين ما يظن أنه واقعي وما يدفع به نحوه لإدراك العبثية الكامنة بأعماقه .
اختيار موفق من المخرج لواحد من نصوص المكتبة المصرية الزاخرة بالمسرحيات القادرة على مخاطبة جمهور اليوم بجديتها وجمالياتها ولغتها الراقية .