أخفت سارة برنار ترهلاتها بجيوب كبيرة فصار فستانها موضة تقلدها النساء
الشرق الأوسط – مجلة الفنون المسرحية
ينظم المركز الوطني الفرنسي للأزياء المسرحية حدثاً فريداً من نوعه يجمع بين ثلاث نظرات، فنية واجتماعية وتاريخية. إنه معرض يقدم لزواره مجموعة شاملة من أزياء المسرح والعروض الفنية، شارحاً علاقاتها بمصممي الموضة وتياراتها، وذلك لفترة طويلة تتخطى الثلاثة قرون: بين عامي 1700 و2015.
لأول مرة، يتناول حدث فني العلاقة بين ثوب المدينة وزي المسرح. وهو رهان المركز الوطني للأزياء المسرحية في مدينة مولان، وسط فرنسا، حيث يثبت المقولة الشهيرة «المظاهر خداعة». فاللباس لا يصنع الإنسان إنما الإنسان يتصنع به. وهو ما يستشفه الزائر الذي يتابع، بالصور، العلاقة بين المجتمع والمسرح والموضة وتأثيراتها المتبادلة، الواحد في الآخر، من خلال الألبسة والموضة والخياطة الراقية «هوت كوتور»، وذلك على فترات تمتد على 315 عاماً.
في السابق، كان هناك لكل عرض مسرحي مسؤول عن الملابس والإكسسوارات. ولاحقاً، راح عدد كبير من المسارح يلجأ إلى مصممين عالميين معروفين لإبداع أزياء خاصة لمسرحية معينة أو عرض فني أو أوبرالي. وهو ما يشكل تمريناً صعباً للمصمم، لا يكفي فيه بأن يترك لخياله العنان، إنما أن يأخذ اعتبارات عديدة في الحسبان. فالزي ينبغي أن يراعي حرية حركة الممثلين والراقصين والممثلات والراقصات، وألا يعيقها، بل على العكس يجعلها أيسر ويضفي عليها بعداً تشكيلياً يكون له مفعوله الإيجابي على الأداء المسرحي أو العرض الراقص. كما يفترض أن يتفاعل الزي بالشكل المطلوب مع الإضاءة لكي ينتج مزيجاً جميلاً يعزز المشهد. ويمضي المعرض لكي يشرح للزائر تفاصيل مهمة المصمم الذي يتحتم عليه اختيار القماش واللون بدقة، فضلاً عن إتقان التصميم في حد ذاته.
تقول كاترين جوان دييتيرل، مفتشة المعرض، إن القرن العشرين شهد تحالفاً جديداً بين خشبة المسرح وخشبة عروض الأزياء. وتضيف أن «العلاقة الشائكة والبديعة، في الوقت نفسه، بين عالمي المسرح والموضة هي ما استدعى عامين اثنين من البحث والتقصي قبل إقامة هذه المعرض. وقد تولى كل من الفنانين ألان باتيفولييه وسيمون توفار رسم فضاءات العرض والواجهات الممتدة على طول الصالات، وأغنياها بإيضاحات وتعليقات تتيح متابعة التفاعل الدائم بين عالمي الموضة والمسرح».
ولا تخفي مفتشة المعرض دهشتها إزاء كل ما أتى به المسرح من إثراء للموضة، مؤكدة أن مخرجي المسرح التزموا، لفترة طويلة، بتقديم شخصيات المسرحيات القديمة وهم يرتدون أزياء تناسب فترات تأليفها وعرضها. وتضيف: «كان المخرج يصر على مطالبة الممثلات بارتداء ملابس البلاط، حتى ولو لتأدية دور خادمة، وعليه كانت الأزياء على المسرح تشبه ما ترتديه في المدينة النساء البرجوازيات والأرستقراطيات». لكن علينا أن نتذكر أن من بين 30 مليون نسمة في فرنسا، آنذاك، لم يزد عدد من يرتدون تلك الأزياء الممسرحة على 300 ألف شخص. وقد كانت ثياباً مقتصرة على الفئات الميسورة. والمدهش أن تلك الفئات كانت، بدورها، تتصرف في الحياة الحقيقية اليومية وكأنها تلعب أدواراً مسرحية، وذلك للتباهي والتباري، لا سيما في مظاهر اتباع الموضة واستعراض الأناقة».
من المنظور التاريخي، يشير المتخصصون في تاريخ المسرح الفرنسي إلى أن جوستين فافار (التي عاشت بين سنتي 1727 و1772) كانت السبّاقة إلى إرساء مفهوم الزي المناسب للدور المناسب، بحيث انتعلت قبقاباً متواضعاً من الخشب لأداء دور فلاحة، وتنازلت عن الحذاء الجلدي الفاخر الذي كانت ستصرّ عليه أي ممثلة أخرى في تلك الفترة العائدة إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وهنا، تعود كاترين جوان دييتيرل لتؤكد على التأثيرات بين المسرح والموضة والإعلانات، رغم أن هذه الأخيرة كانت بدائية في تلك الأيام، وبالتالي تداخل الفن مع التجارة والبيع والأعمال الحرفية. وتوضح: «كان يكفي أن تربط الممثلة شعرها بشريط وردي حتى تبادر النساء إلى تقليدها وإضافة شريط مماثل لتسريحاتهن. وهو أمر كان يساهم في إنعاش عمل الحلاقين وصناع الشرائط القماشية، وذلك مجرد مثال». ومن الأمثلة الأخرى، تقليعة الشعر القصير للنساء بخصلات لاصقة على الجبين. وهي موضة بدأت سنة 1792 في أوائل الحكم الجمهوري، وسميت «قَصّة تيتوس»، نسبة إلى الإمبراطور الروماني تيتو مثلما يبدو في التماثيل النصفية الكثيرة التي أنجزت له في أيام حكمه. هنا أيضاً، كان المسرح وراء شيوع الموضة، وبالتالي نرى جلياً أن العلاقة بين المسرح والمدينة متشعبة ومتبادلة وأشبه بحلقة مترابطة يؤثر فيها كل عنصر بالآخر، ويتأثر به بشكل متواصل.
ثم ظهرت سارة برنار، وما أدراك ما سارة. فبدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبتأثير من تلك الممثلة النجمة ذات المتطلبات الخاصة والنهج الفني المميز، بدأ المخرجون يلجأون إلى أزياء تناسب العصور التي يفترض أن أحداث المسرحية تدور فيها. وتقول مفتشة المعرض، وهي المديرة السابقة لمتحف الأزياء لمدينة باريس، إنها سعت إلى دراسة تطور العلاقة بين زي المسرح وزي المدينة، فاستنتجت أن الحالات الشخصية تؤثر أيضاً في تطور تلك العلاقة. فقد حدث أن فقدت سارة برنار رشاقتها بسبب مرض معين. وللتحايل على ترهلات جسدها، استنبطت زياً جديداً ذا حزام منخفض وجيوب عريضة في مستوى الصدر، لتمويه بروز بطنها. وسرعان ما شاع ذلك الزي كموضة للنساء استمرت لبضع سنوات.
يقدم المعرض سلسلة من الأزياء البديعة التي يحمل كل منها تاريخه مسجلاً بجواره، مع سرد مشوق لقصصها وطرائف دارت حولها. فمثلاً، هناك أزياء أبدعتها المصممة المعروفة كوكو شانيل سنة 1924 لباليه «القطار الأزرق»، الذي عُرض على «مسرح الشانزيليزيه» في باريس. لكن تلك الأزياء، على روعتها، لم تعتمد للعرض بتاتاً لكونها كانت ثقيلة تعيق حركة الراقصين والراقصات. وتمّ التخلي عنها وظلت «جديدة» لم تلمس جسد أي ممثلة. ويضم المعرض، أيضاً، ثوباً من الساتان والـموسلين، من إبداع المصمم بول بواريه (1879 – 1944)، تولى خياطته لزوجته الممثلة، مع تنورة أسطوانية الشكل حملت اسم «التنورة المنارة» بسبب هيئتها الهندسية. وهناك أزياء مسرحية لمصممين معروفين آخرين، منهم كريستيان لاكروا، وإيف سان لوران، وتييري موغلر، وكريستيان ديور، وجان بول غوتييه، إضافة إلى المصممين المتخصصين أصلاً في أزياء المسرح، من أمثال باتريس كوشتييه ويانيس كوكوس. ومن بين عشرات الفساتين المعروضة، لا بد أن يتوقف الزائر متأملاً ثوباً مدهشاً باللونين الأسود والأحمر القاني من توقيع ديور، كبير المصممين الفرنسيين عبر التاريخ، ارتدته الممثلة إيزابيل هوبير على خشبة مسرح «أوديون» الباريسي سنة 2011 لأداء دور في مسرحية «ترامواي» لكريستوف فارليكوفسكي.