مازالت العاصمة الفرنسيّة باريس حاضنة ثقافية لأهم العروض المسرحيّة سواء العالميّة منها أو تلك المنتجة محليا، لتشكّل فضاء مسرحيا غنيا يستقطب الفنانين والمؤدين من كل مكان، إذ تنتقل الفرق المسرحيّة بعروضها بين أنحاء العالم لتحط في مسارح باريس التي تستقبل مختلف أنواع الفنون المسرحية والأدائية، وهذا العام كان الحضور العربي مميّزا ومتنوعا، خصوصا السوري منه، لتكون المسارح خشبات للصراع واكتشاف التناقضات والأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية، خاصة بعد سبع سنوات من بداية الربيع العربي.
و‘زيغ زاغ’ عرض يضيء على جريمة استعمارية نسيت منذ مئة عام، و’في عدالة الأسماك’ يعالج العلاقة بين المذنبين والضحايا على الصعيد العالمي.
شهد “المسرح الجديد” في مونتروي عرض “زيغ زاغ” للمصرية ليلى سليمان، فالعرض الذي ينتمي إلى الصيغة الوثائقية يعتمد على وثائق وجدتها سليمان في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية والتي تعود إلى عام 1919 أثناء الثورة على الاحتلال الإنكليزي، هذه الوثائق تحكي كيف قام الجنود الإنكليز باغتصاب النساء في قرية قرب الجيزة في مصر، وفي العرض نرى أربع ممثلات يؤدين أدوار النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب ليحكين قصصهنّ ويطالبن بالعدالة من أولئك الذين انتهكوا أجسادهنّ، فالعرض يضيء على جريمة استعمارية نسيت منذ مئة عام، ويشير إلى ما حدث في مصر وما تعرضت له النساء أثناء الثورة المصرية.
كما شهد مسرح “التارماك” عرض “في عدالة الأسماك” من تأليف وإخراج الفرنسي هنري جولز جوليان وأداء كل من الممثلة السورية ناندا محمد والموسيقيّ دايفيد تشايسا، وفيه تطرح أمامنا محمد تساؤلات عن الضحايا والقتلة، ومن يمكن أن نلومه على ما يحدث من حولنا من مآس، فالعرض يسائل سكان الدول الأوروبية أو دول اللجوء بوصفهم مذنبين نوعا ما، كونهم جزءا من أنظمة تحميهم وتوّفر سلمهم وحاجاتهم، وفي ذات الوقت هذه الأنظمة تسلب الآخرين حقوقهم وتهجرّهم عن بيوتهم.
عرض “ما يهمنا” يطرح إشكالية الحجاب ودلالاتها الثقافية والسياسية في محاولة لكسر الصورة المرتبطة به كوسيلة للهيمنة على جسد المرأة
ولا يزال التوأمان السوريان محمد وأحمد ملص يتنقلان بعرضهما “اللاجئان” في أنحاء فرنسا، العرض الذي حضر في باريس في مسرح “بيكسل” مستوحى من نص “المهاجران” للبولندي سلافوي مروجيك، حيث يتناول الأخوان الصعوبات التي يواجهها اللاجئون في فرنسا سواء على صعيد اللغة أو على صعيد الحياة اليومية والمؤسسات البيروقراطيّة، إلى جانب معاناتهما الشخصية المرتبطة بإيجاد الحب وتدبّر أمرهما في ظل مدينة مُتسارعة كباريس يمكن أن تدهس المرء عند أي زلّة.
أما مسرح “الإيشانجور” فقد شهد عرض “ما يهمنا” للمخرجة الفرانكوفونية مريم المرزوقي، وفيه تعتمد على نصوص لعدد من المؤلفين في سبيل طرح إشكالية الحجاب ودلالاتها الثقافية والسياسية في محاولة لكسر الصورة المرتبطة به كوسيلة للهيمنة على جسد المرأة، عبر طرح أمثلة أخرى ترى فيه وسيلة للمقاومة كما حصل في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، إذ تحاول نزع الحجاب من السياق التقليدي وإضفاء دلالات مختلفة لا ترتبط فقط بالدين الإسلامي، وتدعو إلى تحرير الأنثى من القيود الاستهلاكية والدينية والنظر إلى جسدها بعيدا عن مفاهيم العيب والحرام.
أما مسرح المدينة فشهد العرض الراقص “ديسبلاسم“ الذي صمم رقصاته السوريّ مثقال الزغيّر، وفيه نشاهد ثلاثة راقصين على الخشبة يختبرون وضعيات الجسد السوري ضمن سياقات الحرب والهجرة والثورة، لنرى تكوينات جسدية مستمدّة من التراث الشعبي السوري ومن الاحتجاجات التي بدأت عام 2011، إلى جانب اختبار الجسد في وضعيات القيد وكيف يمكن له الانفكاك منه.
كما شهد مسرح “بليجني” في ضواحي باريس عرض “فوق الصفر” أداء فرقة كون المسرحية، والذي صمم رقصاته وأخرجه السوري أسامة حلال، وفيه نشاهد لوحات يتداخل فيها الأداء المسرحي مع الرقص لرسم فضاءات الحرب والثورة والقمع الجسدي، فالعرض يتناول مفاهيم العنف والخوف وتأثيرها المباشر على الحميمي واليومي، لا فقط ما يدور في الفضاء العام وما نراه في الساحات العامة.
من زواية أخرى يحضر الحدث السوري بصورة خصوصية ضمن البعض من العروض، وهذا ما حدث في مسرح “الأوديون” ضمن عرضين يستندان إلى نصوص تشيخوف، وهما “النورس” العام الماضي للألماني أوستر ماير والثاني هذا العام في عرض “الشقيات الثلاث” لسايمون ستون، إذ تحضر موضوعة اللاجئين السوريين ومساعدتهم في المخيمات على ألسنة الشخصيات التي تثرثر والتي تحاول أن تجد معنى لحياتها، إذ ترى هذه الشخصيات في المأساة التي تحدث “بعيدا” وسيلة لتقطيع الوقت وكسر الصمت.
والبعض منهم يتورط أكثر ويقرّر الذهاب كما في عرض “ستون”، وكأن كل من يحاول أن يغسل ذنوبه يتّجه إلى المخيمات، ليقضي بضعة أسابيع تتخلّلها صور ومنظمات وتوزيع مساعدات، ثم عودة لمساحات الأمان الأوروبية، وكأن هذه المخيمات هي مطهر للإنسان الأبيض من ذنوبه، ووهم بأن الخروج من مساحات الأمان نحو جغرافيات اللامكان تلك، دليل على التورّط في ما يحدث في العالم، ليعود هذا “المتورّط” إلى مساحاته، إلى بيته الريفي وهمومه وثرثرته ليروي لمن حوله ما رآه هناك كما في “الشقيات الثلاث”، وكأنه يمتلك وساما إنسانويّا، إذ تحضر “المخيمات” بوصفها فضاءات لـ”غسل” الذنوب يدخله ا “الآمنون” للقضاء على القلق الذي تزرعه وسائل الإعلام والقوى السياسية.
عمار المأمون – العرب – مجلة الفنون المسرحية