هالة صلاح الدين
المخرجة ييل فاربر تنطلق من موقع النسوية لتنزع الستار عن أسطورة قاتلة الأنبياء وتتفحص موضعَ هذه المرأة في التاريخ في إطار سرديات قهر نون النسوة.
ندعوها “سالومي” رغم أن الكتاب المقدس ترفَّع عن ذكر اسمها، إنها أسوأ امرأة سمعةً في تاريخ الأديان. وقطْع رأس يوحنا المعمدان بطلب منها، وهو النبي الذي بشَّر بالمسيح وعمَّده، هو أشد اللحظات قسوةً ووحشيةً في الكتاب المقدس. لطالما صورته الآداب الغربية فيما انكمشت عن تصويره الآداب العربية هيبةً وتبجيلاً.
في الملحمة التراجيدية “سالومي” على خشبة لورانس أوليفيه بالمسرح القومي بلندن نشْهد على مدار ساعة وخمس وأربعين دقيقة عرضاً لا يتقيد بقواعد المسرح المألوفة مخلخلاً ما درج عليه المسرحيون من مواضيع وتقنيات دراماتوروجية.
المسرحية ناطقة بالعربية والآرامية والعبرية والإنكليزية، وتحوي سطوراً من سفر نشيد الإنشاد بالكتاب المقدس ومونولوجات وغناء باللغة العربية. استعانت فيه المخرجة اليهودية الجنوب أفريقية ييل فاربر بممثلين من مختلف الجنسيات، منهم مغنية الأوبرا السورية الأولى لبانة القنطار التي تشدو بأعذب الأصوات، وعلى رأسهم مؤدي دور يوحنا المخرج والممثل السوري رمزي شقير الفائز بجائزة أفضل ممثل عن دوره في هذه المسرحية بمدينة واشنطن.
مكيدة سياسية
تروي امرأة بلا اسم في العرض الأزمةَ التاريخية على طريقة الفلاش باك. لا توثِّق نزاعاً بين رجل دين وفاسقة، بل تعيد ابتكار شابة أوعزت إليها أمها الملكة هيروديا بطلب رأس يوحنا كمكافأة على الرقص عاريةً في حفل أقامه الملك الداعر هيرودوس أنتيباس وسمعناه فيه متلعثم اللسان من فرط الخمر.
في البداية تظهر الفتاة، وتقوم بدورها إيزابيلا نيفار، بعينين محملقتين وشعر هائج. كما نرى علية القوم يتجمعون حول مائدة طويلة بما يوحي بعشاء المسيح الأخير. وعلى المائدة المشؤومة ذاتها تقف سالومي حافية بالية الملابس كما الشبح وهالات الضوء تتشتت حولها هنا وهناك.
تُبْطن مفارقات طنانة لا تفصح عنها إلا في الوقت المناسب. تحجب وتكشف كيفما بدت وتشي بما لا تستوعبه أذهاننا وهي تخطب فينا أنها “لم الشمل وانفضاض الجمع″. تعلن كذلك أن الخرس سوف يحط علينا على حين يصدح صوتها جهاراً. وبين الحين والآخر نستمتع بالشعائر والطقوس، فالمسرحية تشدد على الروحانيات في لوحات إنسانية حية تُردد أصداء شكسبيرية. وفي الوقت ذاته يداخلها الكثير من النحيب الأوبرالي وستائر الرمال الذهبية تنسدل من السماء كناية عن الجفاف والقحط.
حلم استراتيجي
تتجاوز هذه القصة بصبغتها الثورية تلك النصوص التي تناولت مقتل يوحنا في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ففي معرض مكيدتها ضد “المتعصّب” كما تطلق على يوحنا، تضمر الملكة التاريخية حلماً استراتيجياً. إذ تعتقد أن يوحنا يدمر الدولة ويحرّض الشعب على هدر أخلاقي واقتصادي مستحدث يناصره الملك هيرودوس.
ليس بمقدورها قتله حين تشاء. فالأمة صحراوية لا تملك من أمرها شيئاً غير أنها تبجّل الأنبياء. ويوحنا من سلالة داوود التي أرسلت للبشرية الأنبياء. ولو قتلته لانطلقت الشرارة لرفع السلاح وتقوضت الإمبراطورية على رؤوس الرومان المحتلين.
وفي سياق متصل، لا يكفّ يوحنا عن تأليب الشعب على قبوع الرومان في المملكة. وقد كانوا أكثر حنكة وأدرى بدهاليز السياسية فطلبوا من الملك ألا يقتله كيلا يصنع منه بطلاً وشهيداً وتنشب ثورة بين القوم، ولكن أن يعتقله خارجاً عن القانون فيغيب عن الأذهان.
ناسك الشعب
على حين يطالعنا الرومان في ملابس ملحمية ترفل في الترف، يبدو يوحنّا ناسكاً مرآةً لشعبه وهو يتجوّل شبه عار في أجواء عتيقة موحلة في الشظف. وبالمثل يرتدي العامة ملابس حائلة جديرة بمن لا تسعفهم الحياة بسف التراب.
وهذا الراديكالي ساكن البرية يضرب عن الطعام في محبسه كي ينهي حياته بيديه. وعندما تزوره سالومي، يشير عليها بقتله. تهمس إليه بأنها تسمع صوت الموت بالقصر فينهي إليها بأن الموت قادم من أجله. فيوحنا -رمز الدين في الضواحي والقرى- يدري أن العالم سوف ينتفض احتجاجاً مع أنفاسه الأخيرة. ترُد كلماته إليها عنفوانها بعدما خفق قلبها بحبه غير أن قلب سالومي ملك للأرض، غايته تشييد مفاهيم تبلي أسس البطريركية وتُحرر الشعب من الأغلال.
العسل والجراد
تلعب اللغة العربية دوراً رئيسياً في الفضاء الدرامي لهذا العمل. يقول يوحنا في مونولوج مهيب بلغة الضاد وقد شكَّل حروفها تشكيلاً سليماً ليخلق إيقاعاً جميلاً، “أنا لا آكل أبداً طالما أن قومي يتضوّرون جوعاً. العسل والجراد سيكفيني. لن أتطهر إلا بالمياه الحية العذبة. ولن أدفع لأحد كي أعرف ربي. الأرض حرة عندما تكون موحدة. فماذا ينفع الإنسان إن جنى العالم كله وعانى من خسران روحه”.
ثمة دلالة لكون يوحنا هو الوحيد الذي لا يتحدث الإنكليزية. ربما تعتبرها المخرجة مرادفاً للكولونيالية أو لأنه الوحيد الذي لم ينحن للرومان في مقابل منافع سياسية أو مادية. كانت اللغتان العبرية والآرامية هما السائدتان في عهد يوحنا المعمدان ودخول العربية إلى النص خلَق من العرض توليفةً كوزموبوليتانية لعل مصدرها إدراك المخرجة لأهمية تضحيات المرأة العربية ووجودها الخلاق. كما جاء صوت الرجل العربي في النضال حتى لو بذل رأسه في سبيل تحرر المرأة وقيادة هذا التمرد.
إرث السلطة
سوف يتوقف القارئ قطعاً أمام كلمة “الاحتلال” الرامزة إلى السيطرة بكافة أشكالها. ويحوي العمل إشارة مباشرة إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين حين يشرع اليهود في التلويح بالأسلحة. ولكن الكلمة لا تعني بالضرورة احتلال الأرض، بل تتعداه إلى احتلال القويّ للضعيف أياً كان. وأيضاً جميع السمات والنُسُق التي تنم عن كلمة “هيمنة”، ومنها سيطرة الذكر على مصير المرأة وهويتها أو تعدي دين على دين آخر. أو الاحتلال الروحي، وهو أبشع من المادي وأذل.
لم تسْلم سالومي من عذاب نفسي بعد تعرضها للاغتصاب على يد زوج أمها الملك فصار جسدها رمزاً لدولتها المحتلة. وقد تعمدت أن ترتدي ثوباً أبيض بعد عريها كناية عن نقاء الثورة. ومن موقعها على هامش السلطة، ودت أن تجدد روحها وتنفُض عن وجهها إرث الاحتلال النجس.
أسطورة القاتلة
هكذا تنطلق المخرجة من موقع النسوية لتنزع الستار عن أسطورة قاتلة الأنبياء وتتفحص موضعَ هذه المرأة في التاريخ في إطار سرديات قهر نون النسوة. تسجِّل استنكارها للكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد الذي أبرز النساء في مسرحيته “سالومي” على نحو شهواني أو خانع متآمر. لا تجلب إلينا سالومي طيفاً مغوياً يرهبه الرجال، وإنما تنبذ التاريخ لتستعير من الخيال إحالات متتابعة على قوة المرأة وترسمها طامحة في مستقبل يستفزّ انشغالات وأسئلة حول صورة المرأة المتمردة من جانب والمرأة الضحية من جانب آخر.
ولأول مرة لا نراها مجرمة، وإنما رصاصة الرحمة يسددها يوحنا إلى صدره. سالومي هي مثال الأرض التي لا تدجّنها السلطة. ومن امرأة لا تستحق اسماً في النص المقدس إلى أميرة لسفك الدماء في مسرحية وايلد، ظلت المرأة مقموعة الصوت في التراث الديني والفني حتى هذه اللحظة التي غدت فيها عاملاً فعالاً على الحراك المجتمعي.
ولا ريب أنها لا تخذل يوحنا المؤمن بأن كل خير نابع من المرأة وكل خير ينبغي أن يعود إليها. يتغنى بسالومي قائلاً، “أنت السهول والحقول الواسعة المتصلة. أنت المنحدرات، أنت الوديان”. ومقصده أن تستعيد الأرض كرامتها. لا يودّ أن يتواصل احتلال سالومي أو استغلالها “ارجعي تملكِين نفسك”.
وحين يجري السيف على رقبة يوحنا في مِئزره، نتذكر أن شقير الذي ينعتونه بالفنان “العتيق” هو نفسه من زوار السجون السورية. يعتقد أن الثورة السورية كانت في أشهرها الأولى من أنبل ما مرّ على تاريخ سوريا الحديث. وكان قد ذكر أنه استلهم تفاصيل شخصية يوحنا من صور شهداء التعذيب السوريين العراة، والتي سربها المصور القيصر -عسكري منشق عن النظام السوري- إلى الإعلام.
وهذا يعيدنا من جديد إلى سياق غزو الرومان لمنطقة يهودا الفلسطينية، فالمسرحية تقلب الحكاية الشائنة رأساً على عقب لتتمركز سالومي في قلب المقاومة الحرة. ها هو ذكرٌ يبذل رأسه طواعية في سبيل رفعة المجتمع ونصرته. وها هي أنثى تشق عالم الذكورة السلطوي مغتصب الأرض والمرأة والدين تحت دعوى الحماية. وفكرة القتل ذاتها تسمو سالومي بها وتؤطرها في قالب جمالي مرجعيته المثلى هي الثورة.
————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – العرب