الصديق الصادقي العماري
تقديم
إن التجريب استمرارية في البحث عن مواطن بكر كما أنه عمل مستمر لتجاوز ما استقر وجمد، و.. تجسيد لإرادة التغيير، ورمز للإيمان بالإنسان وقدرته غير المحدودة على صنع المستقبل، لا وفقا لحاجاته وحسب، بل وفقا لرغباته أيضا. والتجريب من جهة أخرى معادلة متوازنة للتواصل الدائم بين المبدع وحركة التغيير المثمرة، ذلك أن التجريبية لا تنهض وفقاً لما هو راهن، وإنما تنهض كتجاوز له، من أجل الكشف عن بديل أشمل وأعمق وأغنى.
ومن منطلق أن مذهب التجريب هو الاكتشاف والبحث عن بدائل تفي بالغرض الفني والإبداعي والفكري على صعيد آخر، فإن اكتشاف ما لا يعرف يفترض أشكالا جديدة. ومن هنا كان دأب المبدعين المجددين في مجال المسرح، وذلك بالبحث عن أشكال جديدة تستوعب المضامين الحديثة، ولا يتم ذلك إلا بهدم لأجل بناء جديد لا يضيق فيه كل عنصر من عناصر الفعل المسرحي بالآخر، وذلك إيمانا من المبدعين بأن الكتابة الإبداعية هي التي تمارس تهديما شاملا للنظام السائد وعلاقاته، أعني نظام الأفكار، وكذا نظام الأشكال، والبناء على أنقاض كل هذا وذاك ما يليق بفكر المبدع وعصره، آخذا في الاعتبار كل ما من شأنه أن يعضد فكره ويبرز قدراته على التجاوز والإتيان بالبديل الناجع الذي ينسينا ما سبق، ويبهرنا بما توصل إليه من إنجاز إبداعي وما اعتمده من تقنيات جديدة لها دورها الفعلي.
الطليعة في المسرح
إن الحديث عن الطليعة في المسرح يقودنا للحديث عن المسرح الطليعي، إذ يعرف ″بيرناردورت‟ الطليعة كمصطلح فني بقوله: “كل طليعة هي أولا الانقطاع عن باقي الجيش، وهى كذلك رفض للنظام والسلوك المشترك”. فالأساس من هذا التعريف هو الانقطاع، الانقطاع عن الماضي والحاضر وعن كل المكونات التي صنعت هذا الحاضر بكل سلبياته المختلفة، الانقطاع عن شروط الهزيمة، وهي شروط لها وجود في الإنسان وفي الرؤية المتخلفة للوجود وفي الفكر والمؤسسات والعلاقات والسلوك واللغة والفنون والآداب.
و المسرح الطليعي في مفهوم السيد حافظ “هو فن تأسيس فكر العصر والتاريخ الذى نحياه، فالمسرح الطليعي هو ماضي وحاضر ومستقبل في آن واحد، والكاتب الطليعي في رأيه يجب أن يكون معاصرا لعصره لا مسجونا فيه مندمجا في الواقع الحاضر كل الاندماج حتى يتكلم باسمه ويكون روح عصره وهو مثل الجندي في إحدى حروب العصابات مهما كانت عقيدة المؤلف السياسية فإن فيه ليس تعبيرا عن حالة روحية كامنة في وعيه”.
وبالتالي المسرح الطليعي يعتبر ضرورة لمنح الإنسان فرصة المواجهة مع الذات الواقع، ومع الذات المجتمع، ومع الذات الإنسان، والمسرح الطليعي له رواد في الساحة العالمية والعربية. فحين نذكر المسرح الطليعي العالمي يتبادر إلى ذهننا مباشرة كتابات كل من “صمويل بيكيت” و”يونسكو” و “آداموف” و”جينه” كأعضاء بارزين في المسرح الطليعي. أما حينما نتحدث عن المسرح الطليعي العربي يأتي في مقدمة كتاب المسرح الطليعيون العرب السيد حافظ، و محمد الماغوط، وعز الدين المدني، وعبد الكريم برشيد، وسعد الله ونوس،وقاسم محمد، و روجيه عساف، وسمير العيادي، ومحمود الزيودي. و كلهم رواد انتقد الواقع وتمردوا على أوضاعه المزرية التي أهملت الإنسان وقيمه الثقافية والاجتماعية بل جردته من إنسانيته من جراء الحروب وممارسة السلطة التعسفية، وقد كان لهم السبق وغيرهم في حمل شعار الحركة الطليعية في المسرح من أجل السعي إلى تغيير الواقع وفق ما يستجيب لحاجات الإنسان الذي فقد الثقة في كل شيء.
وبالتالي المسرح الطليعي يهتم اهتماما بالغا بمعنى وجود الإنسان وبالدور الذى يقوم به في المجتمع كما أنه يعمل على إيقاظ المتلقي ليشعر بأن هناك ما هو عجيب وما هو مألوف وما هو خارق للعادة ثمن الحياة اليومية وهذه هي وظيفة المسرح الطليعي. يقول “الفريد جاري” : “إن وظيفة مسرح الطليعة الآن هو إيقاظ المتفرج حتى يحس بما هو خارق للعادة وغير مألوف”.
ويرى الكاتب المسرحي “عبد الكريم برشيد” أن الطليعي هو “هذا المناضل أبدا، أي ذلك الإنسان الذى لا يعرف ما يسمى باستراحة المحارب، وذلك لأن الاستراحة لا تعني في النهاية غير الموت والفناء وسيادة الظلم والجهل والفقر وكل معوقات الحياة، فهو يناضل حتى الموت أو ما بعد الموت إن كان ذلك ممكنا عن طريق الإبداع الخالد الذى يحمل رسالة نضالية. أما الكاتب المسرحي التونسي “عز الدين المدني” فيقول إن “كتاب الطليعة اتجهوا للطليعة لأنها غزو للجمهور لا الاكتفاء بما هو موجود والاقتصاد على ما هو في متناول اليد” .
إذ أن الكاتب المسرحي الطليعي عليه أن يكون يقظا فطنا لتحولات عصره، مواكبا لكل التغيرات والمستجدات، بل وأن تكون له تنبؤات لما يمكن أن يقع مستقبلا، لذلك تم تشبيهه بالمحارب الذي لا يعرف الراحة وذلك من أجل السعي وراء راحة الآخرين. ناقد للماضي ومحدث للقطيعة التاريخية معه، مساير للحاضر ومتابع له وضابط لمجمل صوره، و راسم لخطوط ومعالم المستقبل من أجل طرح البديل المفيد في غنا عن ما هو موجود ومخالف.
وأخيرا يمكن القول أن الطليعة في شكلها العام حركة نقدية للواقع، نقد لما كانت تعيشه الشعوب العربية من قهر و تعسف، من أجل استيراد حريتها وكرامتها وعدالتها الاجتماعية في استقلالية تامة عن التبعية الغربية والسيطرة الأجنبية.
التجريب في المسرح
إن تاريخ المسرح هو تاريخ التجريب والتجريب المعاد، و إذا كانت الدراما الأرسطية قد خيمت بظلالها على الفن المسرحي في جل الحقب والعصور، فإن هذه الهيمنة سرعان ما سيتم الإعلان عن غروب شمسها مع بروز مجموعة من الجماليات المسرحية التجريبية المعاصرة، والتي حاولت الخروج من العلبة الأرسطية وطرح بدائل أعادة الاعتبار للفن المسرحي ورفعت من قيمة وفعالية الظاهرة المسرحية.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم أجمع، ويذهب بعض النقاد والدارسين للفن المسرحي إلى إمكانية الفصل التامة بين مفهوم الحداثة الذي ظهر بمختلف أنواع وأشكال الفنون عن التجريب المسرحي، وبشكل خاص بعد أن تلاشت جميع المدارس الجمالية والفنية التي تفرض بالضرورة قواعد ثابتة، لذلك جاء التجريب المسرحي كحركة تهدف بشكل أساسي للبحث ومحاولة بغية إيجاد أشكال عرض وكتابة مسرحية مختلفة عن جميع القواعد المسرحية السائدة.
وهناك من يعتبر أيضا أن التجريب لا يمكن ربطه بنوع أو تيار أو بمرحلة زمنية أو حركة مسرحية محددة، لذا يمكننا اعتبار التجريب الدافع الأساسي للإبداع في الفن المسرحي منذ ولادته إلى يومنا هذا، لم يتوقف إلا بالمراحل التي فرضت فيها بعض المدارس والتيارات أو الجهات الرسمية قواعد وأنظمة صارمة على هيكلية الكتابة المسرحية وشكل العرض وبنيته وفصوله وأسلوبه، هذا ما تسبب في إيقاف إمكانية التجديد والتجريب.
وقد استطاعت بعض حركات التجريب في المسرح إيجاد مسميات وصفات عديدة تناولت النص وعناصر العرض كافة، لكن بقي القاسم المشترك فيما بينها هو رغبة أصحابها في تطوير العملية المسرحية بشكل جذري ومختلف تماما عن جميع التقاليد والأعراف والقوانين المسرحية التي آلت إلى الجمود والركود مع تقدم الزمن، لذا يمكننا أطلاق تسمية المسرح التجريبي على كافة المحاولات المعارضة والمختلفة بطروحاتها وطرقها وشكلها لمفاهيم المسرح التقليدي «الأرسطوي»، هذا ما أكده الكاتب والمخرج المسرحي الألماني ″برتولدبرخت″ في محاضرته التي عنونها «في المسرح التجريبي» عندما قال: «كل مسرح غير أرسططالي هو مسرح تجريبي»، لكن التجريب المسرحي انحصر بداية بشكل العرض الذي ساعد في تطويره وتجديده الانفتاح على باقي أنواع الفنون الأخرى من أجل خلق علاقة جديدة مع الجمهور.
إن فكرة التجريب في المسرح تقوم على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة المسرحية من حيث الشكل و الرؤية، من أجل تقديم صورة حقيقية عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث، وهذا الربط يفصل بين الأصل و الجديد. و بالتالي أن نجرب يعني أن نرحل في المجهول، إنه ذلك الشيئ الذي لا يمكن توضيحه إلا بعد الحدث، و أن تكون طليعيا يعني أن تخرج خروجا فعليا وحقيقيا على المألوف لتكون في طليعة أي مقدمة.
فالتجريب بالنسبة إلى ″ستانيسلافسكي″ يعني أهمية الممثل و إعداده للدور، في حين اعتقد ″جوردونكريج‟، على نقيض ذلك، أن الممثل يمكن الاستغناء عنه تقريبا وتعويضه بالدمية، إذ ركز في إمكانيات السينوغرافيا على المسرح، وركز كل من ″مايرهولد‟ و ‟راينهارت″ على أهمية المخرج، أما ″آبيا appia‟ركز على استخدام الضوء، وبينما ‟برتولدبريخت‟ فقد عني شأنه شأن معلمه ″بيسكاتورPiscator‟باستكشاف طبيعة المسرح التعليمية. أما ″أنتونان أرطو‟ ركز على موت المؤلف ليحل محله المخرج، من خلال تحطيم النص ونسقه، كما اعتقد أرطو كما هو الحال بالنسبة ل ستانيسلافسكي أن المسرح ينبغي أن يعكس واقع الحياة اليومية، بل تلك الأشياء الجوهرية التي تعجزالكلمات عن التعبير عنها.
و في الثلاثينيات أعلن أنتونان أرتو: لن يجد المسرح نفسه مرة أخرى إلا من خلال تزويد المتفرج بالرواسب الحقيقية للأحلام ……أقول أن هناك شعر الحواس، مثلما هناك شعر اللغة، و أن هذه اللغة الملموسة، اللغة المادية، لا تكون لغة مسرحية حقيقية إلا عند الدرجة التي تتجاوز فيها الأفكار التي تعبر عنها حدود اللغة المحكية.
الهوامش
[1]مجموعة من المؤلفين – “دراسات قي مسرح السيد حافظ” – مكتبة مدبولى-الجزءالأول-ص:80. [2]مجموعةمن المؤلفين – “مسرح الطفل في الكويت” – دارالمطبوعات الجديدة – مصر-ص:64. [3]المرجع السابق،ص :62. [4]المرجع السابق،ص 15. [5]المرجع نفسه – ص : 64 [6] المرجع نفسه – ص : 64 [7]ا المسرح التجريبي من ستانيسلافسكي إلى بيتر برووك، دار المأمون للترجمة والنشر، العراق-بغدار، 2006، ص 6. [8] المرجع نفسه،ص 8.———————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – الصديق الصادقي العماري