د. محمد حسين حبيب
التقانة الرقمية اجتاحت فضاءاتنا المسرحية ايما اجتياح، لاسيما في السنوات الاخيرة من عمر التجريب في مسرحنا العربي نفسه.
توسعت ظاهرة استثمار التقانة الرقمية مؤخرا في الفنون المرئية والسمعية كافة, لدرجة انها اصبحت تشكل الركن الاساس في صناعتها وبلورة جمالياتها وزخرفة مديات انساقها ومنحوتاتها الشكلية والصورية, المرتكنة أصلا على منتجات وبرامجيات الحاسب الالكتروني بأوج مخترعات مبرمجيه التنافسية اللامحدودة في سوق التقانة العالمي وبكافة تخصصاته العلمية والأدبية والفنية، فكان الفن المسرحي من الفنون السباقة في استثمار التكنولوجيا المستحدثة ومنذ ما يزيد على القرن, بهدف اكتشاف الصورة المشهدية التجريبية والمنسجمة مع تحديات العصر وثورته الثقافية المعلوماتية التي جاءت أصلا لتعيد تأثيث الجماليات والأفكار المنبعثة عبرها وفي الفنون الإنسانية عالميا كافة.
بحسب موسوعة لالاند الفلسفية لاندريه لالاند، بوصفها المعجم المختص بالمصطلحات الفلسفية النقدية والتقنية، يعرف لالاند (تقانة) (تكنولوجيا): “هي دراسة الطرق التقنية من حيث عموميتها وعلاقاتها بنمو الحضارة، وتشتمل التكنولوجيا على ثلاثة أنواع من المسائل الناجمة عن ثلاث وجهات نظر يمكن من خلالها النظر في التقنيات: أولا، هناك مجال للقيام بالوصف التحليلي للفنون والصنائع، كما توجد في لحظة معينة في مجتمع معين.
ثانيا: ثمة مجال للبحث عن الظروف وعن القوانين التي بموجبها يجري تطبيق كل مجموعة قواعد. وعن الأسباب التي تعود اليها فعاليتها العلمية.
ثالثا: هناك مجال صيرورة هذه الاعضاء او الاجهزة عينها ،سواء دارت حول مولد وذروة وانحلال كل منها في مجتمع معين، أم دارت حول تطور سلسلة التقنيات في الانسانية جمعاء.
إن مجموع هذه الدراسات الثلاثة يشكل التقانة العامة “وان تقانة” بالمعنى الحقيقي هي نظرية تقنية واحدة وتأتي أحيانا بمعنى فلسفة التقنيات.”
هذه النظرية أو مجموع النظريات التقنية الفلسفية في (الفن والأدب) ترافقها دائما وعلى مسار خط التحولات التاريخية الناجمة عن انتاج أو تصدير خطابات فكرية نقدية فلسفية مختومة بآخر (موضات) المصطلح وصناعته الرائجة تجاريا في سوق الثقافة والكتاب او المطبوع الجديد.
حتى اصبح لدينا اليوم كم من المسميات / المصطلحات التي رافقتها مباشرة – ودونما فارق زمني معقول أو تحولا مقنعا – خطاباتها (الما بعدية) الناتجة عنها، منطقيا مرة وعنوة مرات كثيرة، بوصفها – أي خطابات المابعد – مشاريعا فلسفية وفدت الينا معدلة ومستنفدة عن الما قبل.
فمثلا قالوا قديما، ما ان ظهرت الواقعية في الأدب والفن حتى ظهر معارضوها, وهم أنفسهم ينتظرون ما بعدها. وهكذا دواليك مع كل المابعديات الكلاسيكية التقليدية. وكذا الحال حين ظهرت (الماركسية) التي آلت ومهدت لظهور (ما بعد الماركسية).
وهكذا توالت الخطابات الفلسفية النقدية الاخرى مثل: الكولونيالية / ما بعد الكولونيالية, والبنيوية / ما بعد البنيوية, والحداثة / ما بعد الحداثة, والدرامية / ما بعد الدرامية, والدراماتورغية / ما بعد الدراماتورغية, والعلمانية / ما بعد العلمانية. وصولا الى ما ظهر مؤخرا من مجال ومصطلح ارتبط بالثورة العلمية الثالثة والمرتبطة أيضا بالشبكة العنكبوتية الكبرى التي أنجحت الثورة الرقمية بامتياز وهو مصطلح (الافتراضية) والقصد منه عالم الانترنت, ليظهر لنا الباحث والمؤلف (فيليب ريجو) كتابه “مابعد الافتراضي – استكشاف اجتماعي للثقافة المعلوماتية” وكأننا هضمنا كل ما هو افتراضي وجديد لنغوص مباشرة سبر أعماق ما بعده.
يوجز كاتب السطور تحفظه على “الافتراضية” كمصطلح وموضحا الآتي: ان هذا العالم ليس افتراضيا بالمعنى الشائع للكلمة من منطلق ان الافتراضي لا وجود له ومرتبط بافتراض ما هو غير موجود, وان هذا فضاء الانترنت هو موجود فعلا ونتعامل ونتفاعل معه وعبر مجالات حياتنا اليومية والثقافية والعلمية, فهو فضاء رقمي له وجوده ومسوغات التفاعل معه ملموسة ومحسوسة لانها قد (رقمنت) حياتنا وأسهمت في تطور دوائر علاقاتها بكافة الأصعدة الحالية منها والمستقبلية.
وما أجمل الحديث عن المستقبل, لكن ليس دائما. الا ان الحديث عن (الما بعديات هنا ليس مجرد “لحوق زمني أو تجاوز مشاريعي أو اشكال التباسي أو رفض ومواجهة” كما يرى د. علي عبود المحمداوي في مقدمة كتابه “خطابات الما بعد”. بل هي كما نعتقد في الحديث عنها نكون عند منطقة القلق المستقبلي ازاء خطابنا المسرحي جماليا و فكريا.
إن التقانة الرقمية تسللت أو بالاحرى اجتاحت فضاءاتنا المسرحية ايما اجتياح، لاسيما في السنوات الاخيرة من عمر التجريب في مسرحنا العربي نفسه, بل يتسارع هذا الاجتياح والاستثمار الرقمي ويتوالد كلما هيمنت (الرقمية) أكثر على حياتنا وعلى مجالاتها العلمية والتجارية والثقافية والعلاقاتية بل وحتى هيمنتها هذه الرقمية نفسها على عالم الجريمة والسطو والعنف والقتل والحروب بأنواعها.
السؤال: ماذا يحتاج منا التلقي المسرحي؟ وما الذي ينبغي أن يحييه لنا المخرج بوصفه صانعا لفضائه الفكري والجمالي من عناصر جذب وإدهاش من شأنها إيقاظنا واستفزازنا وتثويرنا فكريا وحسيا وجدليا طيلة زمن العرض؟
لا اختلافات كبيرة في الإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها لدرجة انها اليوم من بديهيات الدرس الأكاديمي والوعي الثقافي المجتمعي الذي يؤمن بأن المسرح حاجة ينبغي التغذية منها بشكل تواصلي كي لا نبتعد كثيرا عن كوننا كائنات آدمية ترفض الهيمنة وتحلم بالحرية أبدا.
فالقلق ينحصر هنا بالتخمة الرقمية الزخرفية المهيمنة على فضاء وروح العرض المسرحي المعاصر. هذه التقانة الزخرفية الزائدة عن حاجتها الدرامية من شأنها تغييب الفعل الدرامي.
ولقد استفحلت هذه التخمة الزخرفية في الكثير من عروض مسرح الشباب الطليعية خاصة لدرجة أن يجد التلقي المسرحي نفسه اليوم مرهونا بربكة وتشوش فكري ولا جمالي ازاء هذا الكم العلاماتي اللوني الزخرفي الساكن منه والمتحرك في عوالم اللاجدوى في الكثير من مدياته الهشة وغير العارفة ببصيرة خطابها الغامض والمبهم.
على الدراما ان تبقى دراما, ومهما استثمرت او غالت في استثماراتها التقنية الرقمية لكن في النهاية ينبغي الانتباه الى انها باقية في دائرتها الدرامية حتى وان أوغلت أو بالغت بعض توجهات معالم (ما بعد الحداثة) التي يسعى الفكر الشبابي الطليعي للانتماء لها وهذه مشروعية ابداعية ايضا, شريطة ان لا نقصم ظهر (الدراما) الاصل وان كنا نموج في عناصر ما بعد حداثية كالذي يحددها (جون كوبان) في اربعة عناصر وهي: عدم اليقين, والتناقض, وغير المتوقع, والمستحدث.
إلا ان هذه العناصر مثلا, لا تمنع العقل المسرحي الاخراجي اليوم ان يكون فيها وان يكون مستثمرا عبرها للتقانة الرقمية البعيدة عن التجريد الزخرفي حسب, ليكون قريبا وغائصا في بحر (الدراما) الأصل, رغم كل الخطابات (الما بعدية) الحالية منها والمستقبلية.
————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ميدل ايست أونلاين