“بين.. بين” لفرقة نحن نلعب الفنون القادمة من المغرب، من تأليف طارق ربح ومحمود شاهدي، وتمثيل عادل أبا تراب وهاجر الشركي ومالك اخميس واخراج محمود شاهدي.
اسم المسرحية. ليس عبثا هنا، وهو معنى مفتوح على التأويل. هذا الباب الذي بقي مفتوحا على عقل ووجدان المتلقي الذي هو شريك بشكل أو بآخر في العرض منذ البداية، أبطال العرض وبملابس المضيفين يستقبلون الجمهور على المدخل، في إشارة إلى رحلة بالطائرة لمرافقة الشخصيات، ومن خلال الموسيقى يتضح أن الرحلة متجهة إلى الشمال “أوروبا”، لكنها ليست رحلة للاسترخاء إنما مطلوب من المشاهد أن يتخيل بكل ما تعني المفردة من فتح أبواب الحلم الذي ينقلنا فيه العرض من العالم الواقعي، إلى عالم متخيل.
العرض لا يعترف بقداسة النص، ولا يلتزم بشروطه التقليدية، إنما واحدة من مفردات العرض التي تساهم في إنجاز عرض متكامل، فهو يعطي المتلقي الفكرة الأساسية التي تتمحور حول لقاء الشمال والجنوب على ضفاف البحر المتوسط، ولقاء الثقافات واشكالياتها، والهجرة، وتلك المسافة من الاغتراب، فيما بين الشخصيات والمساحة المحدودة التي يتحرك بها مفهوم التسامح وقبول الآخر.
في أداء الممثلين فإن هذا الأداء المدهش الذي شاهدناه كان أحد هواجس فريق العمل ليكون هذا الإبهار والاحترافية العالية، وذلك التناغم ما بين دواخل الشخصية وسلوكها الخارجي وعلاقاتها مع بقية الشخصيات والالتزام بقوانين الأداء العالي، حيث الممثلين يمتلكون أدواتهم باقتدار وموهبة استثنائية، فكان الأداء عنصرا أساسيا حمل العمل، ولذلك لم تكن اللهجة عائقا في الوصول إلى المتلقي لأن الأداء العالي يقدم محمولات العرض.
شكلت الموسيقى جزءا رئيسيا من العرض، حيث الدرامز والغيتار الكهربائي على طرفي المسرح في مستوى مخصص لهما، وهي مزيج ما بين إيقاعات شعبية مغربية والروك في حوارات وسجالات موسيقية بين الآلات تضيف إحساسا للمتلقي، فالموسيقى والغناء الموظفة بشكل ذكي لا يمكن إقصاؤها عن المسرح، وهنا في “بين.. بين” مقطوعات موسيقية محسوبة بشكل دقيق، وتتناوب على مدار العرض بتناغم بين الموسيقى واللعب المسرحي، والاستهلال بأغنية “حمودة”، وعلى الإيقاعات الغربية له دلالات لها أولا علاقة بالاسم، وثانيا أن هذه الأغنية قادمة من عمق المغرب “كناوه”، ويتم أداؤها بالآلات الغربية في ملامسة لمفهوم الآخر وثقافته والاشتباك ايجابيا معه.
الملاحظة الأساسية على الإضاءة أنها كانت قادمة من الأسفل، وهذه الزاوية تحمل دلالة تعظيم الشخصية أو إعطاءها حجما أكبر، أو كيانا قويا متماسكا، وهذا يحيلنا إلى مسألة تمسك كل شخصية بمواقفها وموروثها وصعوبة قبولها للآخر، أو البناء على ما هو مشترك، بالإضافة إلى الإضاءة الثابتة المقصود منها الإظهار على جانبي المسرح.
خرج العمل عن القوالب المألوفة والأشكال المتعارف عليها بإعادة تكوين عناصر العرض المسرحي بتغييب بعضها جزئيا والتركيز على عناصر أخرى. والمخرج شاهدي وبذكاء شديد يمزج بين السينوغرافيا والممثل، ويترك باب التأويل مفتوحا، ومعتمدا على قدرة المتلقي في التقاط الأفكار التي يطرحها العرض والتي تتمحور حول “حمودة” بكل ما تمثله هذه المفردة من عنوان للارتداد للخلف، فكل هؤلاء الذاهبون إلى الشمال هم “حمودة”، وأي شخص خارج وطنه وخارج حدوده هو “حموده” ، ولإيصال الفكرة فإن العرض لم يحدد نهايات الشخصيات، ولم يحدد مسارا لها، إنما هناك مواقف مرتبطة بها تتعلق بثقافتها وتسامحها وارثها الاجتماعي وسيكولوجيتها، وهذه المواقف هي التي تحدد هويتها.
الدعوة للتخيل في بداية العرض اقتربت من القصص المختلفة التي بعضها أخذ مساحة أكبر، خاصة مسألة الحب والدين، فهذا الحب والعشق لم يصمد أمام التمترس في خندق الاختلاف، والخطورة أن تأثر التفاصيل اليومية والإنسانية بهذا الأمر سيؤدي إلى التصادم والرجوع إلى المربع الأول.
المسرحية تبعث برسائل مضمرة إلى كل من الشمال والجنوب بإعادة النظر في النظرة والتعامل والتسامح والقبول .
ويتجرأ العرض على الموروث بإظهاره بعض المفردات الفلكلورية المغربية مثل الجلباب الذي ارتدته هاجر وانعكس الضوء عليه وكأنه كرة معلقة في كباريه، في دلالة على أن هناك تحولا وتغييرا في المجتمع المغربي وان كانت هذه المقاربة قد تجد معارضين لها.
ومن أجل إيصال الفكرة الأساسية بالتناوب والتناغم بين الموسيقى والغناء من جهة والأداء التمثيلي من جهة أخرى عبر لوحات تناولت تلك الأفكار المسبقة التي تعطل التواصل والحب والدين وجواز السفر الأحمر وتلك الرسالة إلى الأم التي ختم بها العرض. قبل زراعة الورود على الخشبة، بكل ما تحمله من دلالات.
من الملحوظات، ان المكان ربما، وحسب مفردات الديكور الدالة، ان الحدث يدور في ناد ليلي، وهو الامر الذي ربما لا يتفق كثيرا مع باب التخيل والتأويل الذي انتهجه المخرج
رسمي محاسنة
http://alarabalyawm.net/