عين على المسرح -…تــــالفَــ حينما تمتزج الكوميديا بالتراجيديا تُصنع الفرجة ….-الجزائر

رفع الستار مساء اليوم عن العرض الأول لجمعية فنون العرض وسينما الشباب على مستوى المسرح الجهوي لسيدي بلعباس ، العرض الموسوم بــ” …تالفَــ” في أولى التجارب الإخراجية للفنان الشاب ” أبو بكر بن عيسى” وأولى التجارب التي يخوضها كذلك في مجال التأليف .
العرض المسرحي الذي تقاسم أدواره كل من ” أحمد سهلي ” ، ” بن سالم بشير ” رجدة مراح ” و” زوقاغ محمد ” .

العرض المسرحي الذي تناول غربة الذات بين المجهول ، مع البحث عن الوجود في ظل الشتات والضياع ، ليكون الثلاثي ” أحمد ” ، ” محمد ” و” بشير ” عرضة لكل ما هو غير متوقع ، في عصر قاحل من حيث المبادئ والأفكار ، يبحث كل طرف عن انتمائه الداخلي بين أنياب الضياع حيث لا مكان ولا زمان محدّد المعالم ، وفي رحلة البحث الشاقة تلكم تتصاعد الحوارات وتتنامى الفرجة التي حاكت من الكوميديا وسيلة لشدّ الجمهور مع طرح ذكي لأكثر من موضوع ، وبتلكم الرحلة يكتشف ” محمد” منبعا للحياة حيث لا حياة ، يقرّ بتواجد نبض حيث لا نبض ، ويكشف لصديقيه أنّه اكتشف شجرة ، تلكم الأخيرة التي تكون حبكة العرض ونقطة الصراع والتحول دراميا في أحداث المسرحية التي مثلت الصراع المتشعّب بالوجود ، بين بحث عن سلطة ، سعي إلى المجد وحرص على البقاء ضمن حيّز دائري محكوم بالتصدع والانفصام ، وبين مائدة التداول حول من سيترأس شركة وهمية تكون مادتها الخام تلكم الشجرة المجهولة في ذهن المتلقي ، القابعة بطرح المخرج والمؤلف أين نلفي العبث الممزوج بالكوميديا ذات الأبعاد الهادفة والتي تحمل المتلقي على التوقف للحظات عند محطة عرّاها المخرج متعمّدا ذلك بناء على رؤاه وطرحه الذي أراد منه أن يلامس المتفرّج بين تفاعل وانفعال ، وقد نلحظ لوهلة خاطفة كيف ركّز على الجانب النفسي لدى الممثل المهموم بواقعه والذي عكسه بشكل كوميديّ محض للتواصل والانصهار مع الآخر ، دونما التغاضي عن التوظيف الايجابي للسينوغرافيا ل” عايدي يوسف” والتي وظفها الممثلون بشكل يتناسب ولوحات العرض المسرحي .

بين فوضى الصراع والتكالب على من يعتلي سدّة الحكم ورئاسة الشركة الوهمية ، تضارب واضح في المصالح ، طرح جرئ لكذا موضوع بشكل هزليّ يمسّ الصميم والواقع المرير الذي تكابده المجتمعات مهما تباينت جغرافيتها وحدودها ، وبين تقسيم للمناصب وتركيز على كسب ثقة مدير موجّه ، تتعالى أصوات الخوف من الآخر في تحديد ضمير ” هــم ” ، ” هــم ” في عبث الاشارة لهم وفي تساؤل مستمر عن هويتهم التي تبثّ الرعب في النفوس ، ” هــم ” سيكونون شوكة في حلق العابثين بنعمة مغيّبة ، تقتحم مجالهم الركحي وفوضاهم ” رجدة ” الأنثى القادمة من المجهول ، الضائعة بزمن غير الزمن ، المقتحمة لمكان غير المكان ، تجد نفسها وسط فضاء ذكوريّ ، بحنكتها تتلمّس فيهم ذعرهم من ” هــم ” ، ترقص على حبل الغواية ، وتطوّق نفسها بحزام آمن ، تتلاعب على الأعصاب ، تنشر الرعب فيهم وبينهم ، لتغدو الأنثى الحكيمة ، الأنثى المتبصّرة والأنثى التي تتوق الى الحماية ، تستغلّ ورقة ابتهالهم بالشجرة ،كما تستغلّ ضعف آدم تّجاه كلّ أنثى ، ولأنها تعرف تماما من أين تؤكل الكتف ، تستهلّ خطّتها للظفر بتلكم الشجرة بالمدير الذي يسقط في شباكها وتضمن بذلك توقيعه للأوراق ، لتستمرّ خطتها مع ” بشير ” وبالتالي مع ” أحمد ” ولكل منهما كان ثمّة طرح وبُعد غلب عليه الجانب الكوميدي لتوصيل هدف معين الى المتلقيّ ، وتتحوّل تلكم الأنثى في الأخير الى مصدر قوّة بعدما اقتحمت عالمهم والرعب متمكّن منها .

واللعبة في عبثيها تكشف في آخر المطاف ، حيث لا شجرة ولا زمان ولا مكان ، مجرّد شتات وضياع في عالم محموم بالفجع ، في عالم تحكمه القوى الخفية ، في فضاء محكوم عليه بالسواد في خضمّ فوضى الوجود ، في حيّز شائك وملغّم بالهموم ، والضحك الهستيري من حياة قاهرة ، الشجرة فيها ذات فروع فاسدة مهما حاولنا تدارك عفنها لن نفلح ، لأنّه ببساطة الداء تمكّن من الجوانب الحيوية ، شجرة يابسة ذابلة أفقها عفن مهما سعيا لتطعيمه وتلقيمه سنصاب بعدوى لا مجال من تدارك علاجها أو استكشاف لقاح يُحبط مفعول التفشي بسرعة البرق ، هي شجرة الوهم ، شجرة السلطة العفنة ، شجرة تسمح لشتى أشكال وأنواع التجارب عليها بغية تحصيل ثمراتها ، وللأسف لا مجال ليد محليّة تعنى بها وتحرص على نمائها ، شجرة تعانق سماء الآمال وتتفرّع نحو المجهول القذر ، شجرة العبودية والتحكّم بالمصالح والسماح لتدخل الأيادي الغريبة ، شجرة ما تزال عرضة للاغتصاب الراهن لكلّ ورقة حيويّة بها ، شجرة لا تنتمي لزمان أو مكان ، هي شجرة تنتمي الى ” هــم ” …..في ظل غياب الأجدر برعايتها وهم ” نــحــن ” ، ” نــحــن ” المنوّمون مغناطيسيا ، المغيّبون قهرا ، الممتلئون حقدا وكراهية ، المجْبُولون على العنف علنا ، الناقمون على نعم السلام والأمان .

” …تـــالــفَـ ” في تناسقها السينوغرافي وتنفيذ الديكور لــ” بلال يعقوب ” مع التأليف الموسيقي لــ” عبد القادر صوفي ” مكنّت المتلقي من أن يضع اليد على جرح نازف ، على ألم دفين نداريه ولا نصرّح به ، على عبث نعيشه كل حين ونعوّضه ضحكا على مصائرنا الضائعة ، استهزاء بما نملك من قدرات وآفاق ، ضحكا على ما لنا وما علينا ، ويبقى العرض مفتوحا على أكثر من قراءة ، على أكثر من بعد يحمل بين جنباته التغريب المتوازي مع الكوميديا ، عرضا يعد بالكثير في ظلّ الرمزية المحاكة وفي خضمّ الفوضى التي نعايشها كلّ حين في زمن حيث اللازمن ، ومكان
أين اللامكان.

بقلم : عــبـاســيـة مـدوني – سـيـدي بـلـعـبـاس- الـجـزائـر

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *