أربع وعشرون ساعة من المسرح دون انقطاع

 

 

الكاف (تونس) – متحدية التضاريس الوعرة على مرتفع تحيط به من جهاته الأربع السهول الخضراء، تتربّع مدينة الكاف التونسية ببناياتها القديمة وشوارعها المظللة بأشجار اليوكاليبتوس، تعلوها قلعة هي أحد الشواهد على التاريخ العريق لهذه المدينة، الذي يعود إلى ما يتجاوز الثلاثة آلاف عام، تلاقحت فيها أعرق حضارات المتوسط من النوميديين والقرطاجيين والرومان وصولا إلى العثمانيين، هذه القلعة كانت منذ أيام مسرحا لفعاليات مهرجان “سيكا جاز” هذا النمط الموسيقي العالمي الذي يستقطب جمهورا من مختلف أنحاء تونس ومن الخارج.

بعد مهرجان الجاز عرفت الكاف تظاهرة فريدة تقام للمرة الـ17، ألا وهي 24 ساعة من المسرح دون انقطاع، بين يومي الاثنين والثلاثاء 26 و27 مارس الجاري والليلة الفاصلة بينهما.

وقد سبقت التظاهرة فعاليات مختلفة منها الندوات النقدية مثل ندوات “خريف الربيع في مسرح ما بعد نهاية التاريخ العربي” أو “رهانات المسرح العربي اليوم وأهم أسئلته” وبعض العروض المسرحية مثل “الخوف” لفاضل الجعايبي أو “ثلاثين وأنا حاير فيك” لتوفيق الجبالي، كما تم تكريم عدد من الوجوه المسرحية التونسية البارزة على غرار رؤوف بن يغلان ولطيفة القفصي وكمال التواتي ومحمد توفيق الخلفاوي.

مسرح بلا انقطاع

24 ساعة بلا نوم قضاها جمهور المسرح من مختلف الشرائح، نساء ورجالا، من عرض مسرحي إلى آخر، علاوة على العروض الفرجوية والموسيقية.

رغم الحركية التي شهدها المهرجان، فإنه لم يخل من النقائص التي لم تنجح دسامة الأعمال في إخفائها

والجديد في دورة هذا العام هو انفتاح المهرجان على الفضاء المغاربي والعربي والمتوسطي، فقد حضرت عروض من الجزائر والمغرب وليبيا ومصر وإسبانيا، وكذلك البعد الأفريقي الذي مثله هذا العام السنغال، إضافة إلى العروض التونسية، كما يؤكد عماد المديوني مدير المهرجان لـ”العرب”.

وشارك في الدورة الـ17 ما يزيد عن الـخمسين عرضا، وهو ما مثل فرصة للقاء بين مختلف التجارب والحساسيات المسرحية.

وأغلب العروض شهدها فضاء مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف، وقد توزعت بين ساحته وقاعاته، حيث قدّمت التظاهرة ما معدله أربعة عروض كل ساعة، في زخم فرجوي تابعه الجمهور الذي لم تمنعه قساوة الطقس حيث تدنت درجة الحرارة إلى ما دون الخمس درجات، لكن يبقى الفن الرابع هو الدفء الذي وحّد جميع المتابعين والمسرحيين وحفّزهم على التنقل من عرض إلى آخر.

ولم تتوقف العروض عند المركز، بل انفتحت على فضاءات أخرى مثل المركب الثقافي الصحبي المسراطي، أو المركب الثقافي الدولي يوغرطة، حيث تنقل الجمهور إلى عروض مسرحية مختلفة التوجه، نذكر منها العروض الموجهة للكبار، ومنها من تونس مسرحيات “الآلة” و”فريدم هاوس″ و”الرهوط” و”وشياطين أخرى”، ومن المغرب “ميزاجور” و”قصة حديقة حيوان” والمونودراما الليبية “عفوا أبي” وغيرها.

كما قدّم المهرجان مسرحيات للأطفال، نذكر منها العمل المصري “العم أمين” و”البيت المشترك” من العراق ومن تونس “الجدار” و”صراع” وغيرها، علاوة على إنتاج ورشة المهرجان، أي مركز الفنون الركحية والدرامية بالكاف الذي جاء تحت عنوان “الأجنة”.

الجميع قاوم الليلة الماطرة بشغف لافت للفن المسرحي وللعروض الموسيقية وأهمها عرض “القناوة” الجزائري، وسط نقاشات حارة حول الأعمال المعروضة والمسرح والفن عموما، الأمر الذي يحقّق الفرادة لهذه التظاهرة في كل عام تزامنا مع اليوم العالمي للمسرح، ممّا ينعش مدينة الكاف في الشمال الغربي، والتي تعتبر الجزء المقصي والمهمش من البلاد، بطابعها الريفي وبطبيعتها الفلاحية، حيث تشترك قراها في الفقر وقسوة الحياة، وهذه القسوة لا تخفى حتى عن مدينة مثل الكاف، المتهالكة أغلب مرافقها وبناياتها، والمجرّحة شوارعها دون تهيئة.

تجاوز النقائص

 “فريدم هاوس” شدت انتباه الجمهور

رغم الحركية التي شهدها المهرجان، فإنه لم يخل من النقائص التي لم تنجح دسامة الأعمال في إخفائها. وأول النقائص التي يلاحظها المتابعون هو سوء التنظيم، وربما يعود ذلك إلى الزخم الكبير في عدد العروض، إضافة إلى طابع التظاهرة المستمرة كامل الليل، ما يدعو إلى بذل جهد أكبر لتسهيل تقديم العروض والفرجة.

هذا دون إغفال المسائل التنظيمية، علاوة على كون بعض العروض أتت هزيلة المستوى وسببت استياء كبيرا لدى الجمهور، ومن بينها العمل المغربي “ميزاجور” الذي قاطعه أغلب الجمهور مستاء من العمل الذي كان دون المستوى، وهو ما يطرح إشكالا في اختيار العروض من قبل القائمين على المهرجان.

كما أن هناك نقصا كبيرا في التجهيزات التي تعاني منها قاعات العرض، ممّا يجعلها لا تتجاوز عتبة أن تكون إلّا قاعات للتمارين.

كما كان هناك تداخل بين العروض التي تعرض في قاعات متجاورة، وقد تداخلت فيها الأصوات ما مثّل جهدا كبيرا للممثلين؛ حيث تأتيك موسيقى عرض آخر أو أصوات الجمهور من الخارج وأنت في قاعة تشاهد عرضا يتطلب تركيزا عميقا.

24 ساعة بلا نوم قضاها جمهور المسرح من مختلف الشرائح من عرض مسرحي إلى آخر

وهذا يمكن تجاوزه في المستقبل بالتزام المنظمين التركيز أكثر على هذه التظاهرة المميزة التي تكاتف لإنجاحها المسرحيون والإداريون والمكلفون بالإعلام وحتى عاملات التنظيم والحراس وقوات الأمن ورجال الحماية المدنية، ما جعلها فسحة أمل لمدينة منهكة ومنسية في أعلى الجبال، بينما هي تزخر بتراث ثقافي غاية في الثراء، ومَن مِن التونسيين لا يعرف ما قدّمته الكاف من كتاب وفنانين، ولعلّ أشهرهم عند التونسيين الفنانة الراحلة صليحة.

وتحيلنا التظاهرة العريقة والفريدة على نوع من الممارسات التي يأتيها بعض المسرحيين أنفسهم تجاه أعمال بعضهم، وربما تكون مناسبة لطرحها بعجالة رغم ما لها من عمق كبير في مختلف الفنون، حيث يبدي بعض المسرحيين نقدا لاذعا يصل حدّ التحقير تجاه عمل آخر مشارك في المهرجان، فيما يباركون لمخرجه إذا ما تلاقوا في البهو.

وهي مفارقة كبيرة تبرز تدهور حال النقد الذي لا يعتمد المصداقية ولا يحتكم إلى النقد البناء في شيء، بقدر ما هو ظاهرة سلبية تؤكد فقدان ملكة النقد والتحليل في غياب للرؤية الفنية وحضور لما هو انطباعي وشخصي لا غير. وتبقى أخيرا هذه التظاهرة مكسبا للمسرح التونسي، يجب العمل على تطويرها في كل دورة.

 

محمد ناصر المولهي

https://alarab.co.uk

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *