العرض المسرحي «زي الناس»… عبثية البحث عن العدالة المفقودة

محمد عبد الرحيم: لم تزل أجواء الأزمات السياسية، وبالضرورة تبعات الإنتاج الأدبي الغربي ــ الذي عكس بعضا من ملامحها ــ صالحة في مجتمعاتنا لاستلهامها وإعادة تقديمها المرّة تلو الأخرى، فلم نغادر بعد تلك المرحلة، وبالتالي تجد هذه الأعمال الكثير من الصدى والتفاعل الجماهيري.
لم نزل أسرى هذه المعضلات، فرغم كلاسيكية النصوص المسرحية، التي إن استلهمها المسرح الغربي الآن ــ وقد تخطاها بمراحل ــ فإنه يعبّر من خلالها عن مواقف وجودية أكثر منها أزمات سياسية واجتماعية. وعن النص المسرحي «الاستثناء والقاعدة» لبرتولت بريخت، الذي كتبه في العام 1930، يأتي العرض المسرحي «زي الناس»، الذي تم تقديمه على مسرح مركز الإبداع الفنى في دار الأوبرا المصرية في القاهرة. العرض أداء هشام إسماعيل، أحمد السلكاوي، شادي عبد السلام، ماهر محمود، كريم يحيى، سارة عادل، وسارة هريدي. أزياء مروة عودة، ديكور ورسومات سمية أبو العز، إخراج هاني عفيفي.

الحكاية

يدور النص حول أحد التجار الذي يقوم برحلة شاقة إلى مدينة بعيدة، بهدف الحصول على امتياز استخراج البترول، فيستأجر لذلك دليلاً وحمالاً. وفي ظل المنافسين له، كان عليه أن يصل قبلهم، فما كان منه إلا التصرف مع مرافقيه بكل قسوة. وبما أن الدليل يتبع ما يشبه النقابة، فله بعض من حقوق، وبالتالي يتعامل معه التاجر ببعض من الحرص، أما الحمّال فلا يمتلك شيئاً ولا ينتسب إلى أي نقابة أو رابطة عمالية، فأصبح هو محل سخط وقلق التاجر على مشروعه. ولخشية تآمر الدليل مع الحمّال ضد التاجر، يسرّح التاجر الدليل، فلا يتبقى معه سوى الحمّال، الذي يدفع حياته في النهاية ثمناً لصمته وتحمّله كل أشكال المهانة والتعذيب. ووفق منطق بريخت، تتم تبرئة التاجر، لأنه وفق قاعدة التفكير والسلوك، حتى إن قتل الحمّال بطريق الخطأ، لديه من الحق أن يفكر في غدر الحمّال ومحاولة التخلص من التاجر، فما كان من الأخير إلا الدفاع عن نفسه، حتى لو عن طريق الظن. هذا هو المبدأ الذي يكشفه النص، فالقاعدة أن تكون المعاملة بالمثل، وقد لاقى الحمّال الكثير من التعذيب على يد التاجر، فكان من الطبيعي أن يحاول قتله، وعلى هذا الأساس جاء رد فعل التاجر وقتل الحمّال. مشكلة الحمّال أنه تعامل وفق مبدأ التسامح، وهو مبدأ يدخل في نطاق الاستثناء لا القاعدة، وبالتالي استحق مصيره بأن فقد حياته.

مصيرهم الذي يستحقون

التحالف ما بين السلطة السياسية ورأس المال يعد سمة بارزة في العمل، فالجميع في تواطؤ ضد الفئة الدنيا، وتعزز السلطة والمتمثلة في جهاز الشرطة هذا الوضع الطبقي، فهؤلاء الشغيلة مجرد مخلوقات أو آلات، ودائماً تنتفي عنهم الصفة الإنسانية. هكذا يراهم التاجر في نظرته الاستعلائية ما الذي يدعوهم إلى الحرص على أنفسهم، إنهم ناقصون بطبيعتهم». ووفق هذه النظرة يتشكك التاجر في هؤلاء، ويرى أنهم حمقى يستحقون مصيرهم «الأحمق مَن لا يحتاط لنفسه والثقة في الناس هي الحمق بعينه، لقد قضيت على هذا الرجل، ولعلي قد حطمته مدى الحياة، وإذا بدا له أن يعاملني بالمثل فلن يكون ذلك إلا تصرفا عادلاً من جانبه، القوي إذا أغمض جفنه فهو ضعيف». ومن حال الضعف هذه يدفع الحمّال حياته ثمناً مقابل خنوعه، لأنه لم يتعامل بالمثل.

العرض المسرحي

حاول العرض تبسيط المعنى الذي يحمله النص، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى حاول أن يتماشى وأسلوب بريخت في نصوصه، الإصرار الدائم على كسر الإيهام، وخلق حالة دائمة لدى المشاهد من المشاركة والتفكير في ما يحدث أمامه. يبدو هذا الكسر الإيهامي من مزج الفصحى بالعامية، وافتعال بعض الارتجال ــ المحسوب ــ لعالم الممثلين الحقيقي، الممثل الذي قوم بدور القاضي، ونسيانه الدائم لدوره الذي يؤديـــــه، وخلطه بينه وبين العديد من الأدوار الأخــــرى، كذلك إعادة بعض العبارات واختلاف طــرق الأداء، وكأننا نحضر بروفات للعرض. وتأتي التقنية والحركة المسرحية.. كرسم تفاصــــيل المكان في لوحة خلفية/شاشة عرض، عن طريق الخطوط، وقطــــع الديكور بالمثل تشبه خطوط الرسم هذه (الحقيبة، العصا، المقــــعد، الطاولة وكل القطع المستخدمة مشغـــولة بالأسلاك بشــــكل يدوي، وكأنها أشبه بالاسكتشات. كذلك هـــناك مســـاحة على جانبي المسرح نرى من خلالها الممثلين يبدلون ملابسهم أثناء العرض، ويجلس الممثل حتى يأتي دوره، وكأنه يشارك الجمهور في عمليه التلقي. وفي الأخير تأتي مونولوجات الممثلين، موجهة للجمهور باللغة العامية تشرح فيها كل شخصية مشاعرها ومخاوفها وأفكارها.

حكاية التاجر والحمّال

بما أننا لم نزل نحيا ما يشبه الأجواء التي كتب خلالها بريخت نصه المسرحي، فلنا أن نضفي بعض من التأويل.. ماذا لو تعامل المحكوم مع الحاكم وفق القواعد الثابتة؟ فالخسارة دوماً في الاستثناء، لو تعامل بالمثل لما فقد حياته، خاصة وقد تمت تبرئة التاجر لأن الطبيعي أن تتم المعاملة بالمثل، وعلى هذا الأساس نال الحكم بالبراءة. وما البراءة إلا الاعتراف بشرعية ما حدث. ففي اللحظة التي تسبق مقتل الحمّال يحادث نفسه قائلاً «من واجبي أن أعطيه الزمزمية التي سلمها لي الدليل في المحطة… فلو أنهم عثروا علينا ووجدوا معي زمزمية ملأى بالماء بينما هو يكاد يموت من العطش لقدموني إلى المحكمة». لحظة الخوف من العقاب هذه هي التي قضت عليه فعلياً في النهاية، لكنه في الأصل مقضي عليه لنسيانه إنسانيته وقدرته على الفعل.

المصدر/ القدس العربي

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *