واقع المسرح العراقي مناقشة محاور النشاط المسرحي العراقي فنيا وجماليا، وبسلسلة من المقالات بقصد خلق حوار جدلي، هدفه الإصلاح المسرحي…                                                                                    

 

 

 

 واقع المسرح العراقي مناقشة محاور النشاط المسرحي العراقي فنيا وجماليا، وبسلسلة من المقالات بقصد خلق حوار جدلي، هدفه الإصلاح المسرحي…

المحور الثاني

(2-7) أمراض التأليف المسرحي

      بقلم: د.عماد هادي الخفاجي

 

يعاني النص المسرحي العراقي في العقد الأخير من محنة حقيقية، عصفت بالمنطلقات الفنية والجمالية التي يتأسس في إطارها النص المسرحي، وقد تمثلت هذه المحنة على أكثر من وجه، فتنوعت بذلك أمراض التأليف المسرحي، فلو استعرضنا أنطولوجيا التأليف المسرحي العراقي، منذ بدايات الكتابة الدرامية الناضجة فنيا وجماليا، بطابعها الاحترافي، نجد التنوع الثيمي، والأسلوبي، بما يملأ فضاءات التلقي بإشباع جمالي إلى حد الغنى، الذي ينعكس على انفتاح وتوسع آفاق التوقع للمتلقي، وترصين تجاربه الجمالية، وإحكام شبكة قراءاته الثقافية وتوسعتها، إلى حد الاكتناز ، وهذا ما يمثل عاملا ايجابيا على مستويين: الأول هو مستوى المتلقي نفسه، حيث تتم التربية الجمالية لذائقة المتلقي وتنميتها. والمستوى الثاني، هو عامل التحفيز والتحدي للمؤلفين، الذي يصعد جدليا مستوى النص المسرحي العراقي فنيا وجماليا، إلى حدود وآفاق جديدة، بغية الاستمرار، مابين المؤلفين أنفسهم، وتراكميا الذي يوجد حتما تطورا نوعيا في النص للمؤلف ذاته، وهو ما كان متحققا في تراث التأليف المسرحي العراقي، في نصوص يوسف العاني، ونور الدين فارس، وطه سالم، ومحي الدين زنكنة، وجليل القيسي، وعادل كاظم، وخالد الشواف، وقاسم محمد، وسعدون العبيدي فعلى الرغم من الملامح اليسارية الاجتماعية في ذلك التراث، إلا أن هنالك تنوعا جماليا باذخا بتنوع أساليب هؤلاء المؤلفين، فيما بينهم، وحتى تنوعا أسلوبيا مابين نتاجات المؤلف الواحد منهم، بما يرسم خارطة مسار تطوري للمؤلف ذاته، ناهيك عن المسار التطوري لجملة نتاج التأليف المسرحي. والتساؤل الذي يطرح نفسه اليوم، هو لما تلك المشابهة والتكرار الثيمي والاسلوبي في النص المسرحي العراقي؟ ولم هذا البتر والضيق في أفق النص، ومحدودية فضاءه، وهو يطرح بتركيز مجهري موضوعته، في عملية بتر لامتداداتها، ونزع متعسف عن فضاءها التداولي، فأين تكمن محنة النص المسرحي العراقي هذه؟ أهي في تحويل النص المسرحي بخطابه إلى وثيقة منشور محلي؟ أم إحالته إلى نشرة أخبار رسمية؟ أم أن هنالك عوامل من التجريد والتسطيح الثقافي لملائمة المعطى البيئي للواقع في أدنى صوره العشوائية؟

إن تلك المتسلسلة من علامات الاستفهام، والتساؤلات المعلقة، تحتاج إلى الدرس العلمي الأكاديمي، في فك مغاليقها، وشرح مسبباتها بغية التشخيص والعلاج. نحاول هنا عمل مقاربة تحليلية في مسعى ذلك التشخيص، وهو ما سنقوم به، بغية الاقتراب من الموضوع المشكل أعلاه، وهو محنة النص المسرحي العراقي المعاصر في العقد الأخير، ومحاولة التعرف الأولي لأبعاد تلك المحنة ومسبباتها.

لو أحصينا نتاج التأليف المسرحي في عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، لوجدنا أن الجهد الإبداعي للمؤلف المسرحي، قد اتخذ من السعة في الموضوع، والتنوع في وسائط المعالجة، وتقنيات البناء، دالات للتجويد الفني والإحكام في البناء، وبلاغة الأثر الجمالي في فعالية التلقي، وذلك للوفرة في الجمهور، وارتقاء ذائقته الجمالية، نتيجة تربية جادة ومخلصة طوال العقود السابقة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وفي الثمانينيات كان النص المسرحي قد قطع شوطا واسعا في التجويد الفني مع بروز مؤلفين جدد شباب، قد وعوا الظرف التاريخي، والواقع الاجتماعي، مثلما أدركوا بوعي عميق التحولات الجمالية الناتجة عن مدخلات الحضارة العالمية المعاصرة، وفي مقدمتهم خزعل الماجدي، الذي أنتج العديد من النصوص التي امتازت بالجرأة الجمالية، وحينما توافر لها عقل إبداعي جريء، هو المخرج صلاح القصب، فكانت أعمالا مهمة في مسيرة المسرح العراقي، مثل حفلة الماس، عكاز رامبو، رغم أن الأخير لم يعرض على نطاق الجمهور وظل بروفة مسرحية مفتوحة!! ولم يكن خزعل الماجدي الاتجاه الوحيد في التأليف في الثمانينيات والتسعينيات، حيث بزغ اتجاه أصيل في التأليف المسرحي، مع نتاج المؤلف فلاح شاكر، والذي اشتغل على معطى الجماليات التعبيرية، ومعالجة ثيمة الحرب، وهي مُدخل واقعي مهيمن في تلك الحقبة، ليشكل بذلك خرقا للتابو الايديولوجي، من خلال الطرح الشاعري لتلك الثيمة بفتح جوانبها الإنسانية على موضوعات وجودية كبرى، من مثل الحب والحرب والمرأة والانتظار، والحياة والموت، وقيمة الإنسان ومفهوم التضحية والاستلاب الإنساني بفعل القيمة الأخلاقية، وما يرافق ذلك من تشويش للمسلمات الأخلاقية ، حيث يضعها بمواجهة الثيمة الواقعية المرحلة من واقعة الحرب الأخلاقية ، وهو ما توافق مع فلسفة الحياة للمخرج فاضل خليل، ليقدم للمسرح العراقي، عروضا مسرحية مهمة في تاريخ المسرح العراقي، مثل مئة عام من المحبة، في أعالي الحب، ويبقى في تلك المرحلة الحضور الإبداعي المميز لهذين الاتجاهين مؤثرا كبيرا ، وبالذات على الجيل التالي والذي خرج متلمسا بتجاربه تلك النماذج الفنية، ومحاكاتها، بالتقليد غير المقصود، ولكن بفعل هيمنة المدخلات الواقعية، وعدم توافر القدرة على خلق وسائط معالجة مغايرة، وإيجاد اساليب فنية خاصة بالمؤلفين الشباب الذين ظهروا في نهايات التسعينيات ، فلكل منهم مقولة يريد أن يصرخ بها والسلام!!! فأتت نصوصهم المسرحية بوحا خطابيا مباشرا موجها للجمهور المسكين، الذي أصابه الفزع، وأصبحت لديه قاعة المسرح، وكرسي المتفرج، أشبه بكرسي الإعدام، حيث يتلقى جرعة مميتة من المعطى الواقعي، وهو ما يصيبه بالتبلد الجمالي، ويجعله متوجسا من الحضور للمسرح مرة اخرى!!! ولأن المسرح ضرورة وحاجة اجتماعية، كان إغراء القفشات الهابطة، والنكات البذيئة، في عروض المسرح التجاري، هي البديل، لسبب مهم نجده في ما يقدمه للجمهور من إطار منحط ومخزي، معه تتفكك حتمية الواقع المؤلم الذي يعيشه الجمهور يوميا وخارج صالة العرض، حيث مثل ذلك أسلوبا سيكودراميا، في تعزيز قدرة الاحتمال لظروف اهون ما يقال عنها أنها غير إنسانية، فساهم اولئك المؤلفون المسرحيون، بدون قصد في إحداث نكسة عميقة في المسرح العراقي، بإرهاب الجمهور، وإبعاده عن المسرح، وإفقار المسرح فنيا وجماليا ، بخمولهم، واعتمادهم المحاكاة والتقليد لأساليب الآخرين، دون الاجتهاد المبدع في خلق أسلوب خاص، وكذلك استسهال الاعداد عن نصوص مغايرة تجنيسيا، رواية او قصة او قصيدة شعرية، بل وصل الحال الى نظم خواطر أو مقطوعات ادبية مترجمة، لخلق بنية لغوية لحوار يلقى على خشبة المسرح، مهملين القوانين الجمالية التي يتطلبها الاطار المسرحي!!! ومع تلك الفوضى، والبؤس ، وبالمقابل نجد نتاجا مسرحيا مبدعا على مستوى التأليف من خلال الاجتهاد وتجارب ابداعية مميزة ، نذكر منها تجربة التأليف بالتناص والحذف للفنانة عواطف نعيم، التي انتجت العديد من النصوص المسرحية التي اقرت وسائط معالجة ادبية عميقة في تناولها، هي نتاج بحث علمي أكاديمي، ساهمت الدراسة الاكاديمية في صقله، ووضعه في اطار التأثير الجمالي وفي فضاء التداول الفني، بما قدمته من نصوص مسرحية مثل بيت الاحزان، نساء لوركا، برلمان النساء، فمثلت تلك النصوص الصوت النسوي اليتيم في فضاء التأليف المسرحي العراقي، وهو بحد ذاته اضافة مهمة للمسرح العراقي، وعلى مستوى التأليف والإخراج. وكذلك نجد تجارب التأليف المميزة لمثال غازي، واجتهاده في خلق نص عراقي عالمي، وهي محاولات جادة وواعية اعتمدت البحث العلمي والدرس الأكاديمي في تطويرها وصقلها، فكانت معالجاته لموضوعات وجودية كبرى، من خلال الرؤية بالمنظور الواقعي، والمحلي، وبمعادلات جمالية تستحضر التراث العالمي، في فضاء النص المسرحي، دون تشويه اصالة النص، أو احداث خلخلة في بنيته الفنية، مثل مسرحية كومودوس، وعودة اشيلوس، ومسرحية بيادق وغيرها الكثير. وتتصل كذلك المحاولات الجادة والتجارب في انتاج نص مسرحي عراقي مجود فنيا وجماليا، مع نتاج المؤلف عبد النبي الزيدي، المترع بالفنتازيا الغرائبية وهو يناقش موضوعات محلية واقعية، حيث كانت معالجاته الغرائبية الى حد التجديف وخلق معادل موضوعي لثيمات وجودية كبرى. وبنسق متصل كانت تجارب المؤلف ثابت الليثي، حيث عمد الى معالجة موضوعات واقعية داهمة، مثل الحرب والاحتلال، والعنف، والإرهاب، واللجوء، بجمع المتناقضات وخلق الصدمة الجمالية وتفريغ الثيمات من يقينيتها وإحالة الموضوع الى متسلسلة من الاحتمال البعيد والمقلق بنفس الوقت، بإطار من الفكاهة الوحشية، والغروتسك السريالي، مثل مسرحية تحت الصفر، والتي اخرجها عماد محمد، ومسرحية ليلة هادئة ، ونيكروفيليا، وسجناء المرايا.

ان قراءة المقاربة هذه ليست إلغاءا للجهد الإبداعي، ولكن هي محاولة في تشخيص أمراض التأليف، فكل نشاط إبداعي لابد أن يعتريه خلل ما في مسيرة عمله ، في مرحلة ما، أو في جانب ما، ويبقى الجهد المخلص هو محك المعالجة لأجل مسرح معافى، هو خيمة تضمنا، نحن الحالمين بالجمال، تتسع بها رقعة الجمال والخير والمحبة في العالم.

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *