هنريك إبسن من الظلمة … للضوء

يعتبر الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن من أهم كتاب المسرح في أوربا… وربما في العالم، وذلك بما قدم من إرث أدبي مسرحي، ما زال شاهداً حياً على عبقرية إبسن وتحديداً ما بات يعرف (( بالمسرح الواقعي ، وذلك في القرن التاسع عشر وخصوصاً عندما كتب مسرحيتي ( بيت الدمية))و((الأشباح)) المسرحيتين اللتين جلبتا إليه الشهرة والعداوة في كل أنحاء أوربا.

-وفي هذه المقالة سأحاول أن أسلط الضوء على مسرحيتين له، كتبتا في في فترتين متباعدتين الأولى هي مسرحية ( أعمدة المجتمع)، ويعتبرها بعض النقاد من أروع ما كتبه إبسن ، إذ إنه يكشف ما خلف الستارة في المجتمع النرويجي من الفساد والعفونة والرياء والنفاق، لقد كان هنريك إبسن مثل الجراح الماهر الذي يفتح بمشرطه ويعرض بنية المجتمع وأمراضه ، وعالج إبسن موضوعه بواقعية وأسلوب درامي مثير على صعيد الشكل.

بطل المسرحية بيرنك يعيش على أكذوبة مثل أية أكذوبة يختلقها المرء ليعيش عليها سنوات طويلة، ودون أن يفتضح أمره أحد، وفي لحظة غير متوقعة ولم يحسب لها أبداً ينهار البنيان ويتهشم الصنم ويظهر بيرنك على حقيقته ودون ورقة توت تستر عريه، نعم هو منافق كذاب مخادع يحتقر نفسه قبل أن يحتقره الآخرون.

لقد كرس إبسن في أعمدة المجتمع جهده وعبقريته في كشف المستور في النفس البشرية وخصوصاً هؤلاء الأفراد الذين يضعون أيديهم على مقدرات بلدهم، نعم إنها شخصيات بنت مجدها على كذبة كبرى، بل هي تاجرت بمصائر أقرب الناس وفي لحظة صدق أو مكاشفة يتم التحول ويعترف بيرنك بكل خطاياه وجرائمه معلنا فتح صفحة أخرى من حياته تقوم على الصدق والحرية ومثلما قالت الآنسة هسل: إن روح الصدق وروح الحرية هما عمودا المجتمع.

قد لا أتفق مع الكاتب في هذه النهاية المثالية ، إنه حل طوباوي في ما يريد هنريك إبسن ، نعم قد تبدو هذه النهاية لا تمت بصلة للواقعية التي اشتغل عليها إبسن ، فثمة مجرم اقترف من الذنوب والخطايا ما لا يحصى ، وهكذا بكل بساطة يسامحه الجميع بل ويعفو عنه وأكثر من هذا يطلب منه أن يكون هو في مقدمة المستثمرين في البلدة .

المسرحية الثانية( أيولف الصغير) وهذه المسرحية تنتمي للمرحلة الرابعة لتطور إبسن الفني إذ إنه كتبها ضمن مسرحيات أربعة بعد عودته إلى وطنه وهي مسرحية ( البناء العظيم) 1892 ، ( أيولف الصغير) 1894 و( جون جبريل بوركمان) 1896، ثم ( عندما نبحث عن الموتى) 1896 وبعدها تدهورت حالته الصحية ومات عام 1906.

المسرحية تتألف من ثلاثة فصول ، والحدث الدرامي يبدأ بعد ظهور الساحرة ، إذ إنها تقدم للزوج والزوجة رؤيا سيئة نعم هو الموت، الموت سيخطف ابنها أيولف الصغير ، يصعق الزوجان لتبدأ بعدها رحلة من تبادل الاتهامات بينهما ، وطبعاً كان حضور الأخت (استا) في تعاطفها وانحيازها لأخيها (آلموز) الذي كان معتكفاً بالجبال يتم كتابه عن مسؤولية البشر، وفجأة يعود وهو يشعر بأنه استغرق في النظريات والأحلام وعزم أن يوجه اهتمامه لرعاية ابنه الكسيح أيولف ، وفي لحظة نقاشهما الحاد يسمعان ضجيجاً آتياً من الشاطئ وكأن عكازه عائماً على سطح الماء ، لقد غرق ابنهما الوحيد نعم هو خبر صاعق كاد أن يصرعهما .

في البداية يثور ويغضب كثيراً (آلموز) وزوجته (ريتا) وخصوصاً الزوج الذي يحمل الذنب للصبية الذين تركوا ابنه يغرق دون مساعدة منهم ، ولكن الزوجة (ريتا) تتدفق في عروقها مشاعر الأمومة من جديد فتؤنبه على قوله بأنه سينتقم من هؤلاء الصغار، ثم يحدث التسامي الذي وجد عزاء كافياً لما ارتكبه من أخطاء.

نعم كان أسيراً للنظريات والنوايا الطيبة وتفتحت عيناه على المسؤولية الجوهرية في حياة الإنسان وهي خدمة هؤلاء الصبية الصغار، هي الكارثة التي تصيبنا ثم تعجز فينا رؤيا للبشرية للتعاطف والرعاية لكل محتاج من هؤلاء الصغار.

هو إبسن يرصد التحولات داخل النفس البشرية ، وليضع دليلاً مشرقاً داخل كل نفس ضوءاً يرشدنا إلى هدف إنساني نعمل ونجاهد لتحقيقه.

 

http://fedaa.alwehda.gov.sy/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *