(( هنريـك أبسـن )) الأب الشرعي للحداثة في المسرح المعاصر/سعدي عبد الكريم

نشر/ محمد سامي موقع الخشبة

إن مكنونات المعرفة التجريبية ، هي جل الركائز والدعائم الفكرية والعلمية والفلسفية التي قامت عليها الحضارة الغربية ، وهي بالتالي التي أدت إلى انبثاق وتطور اهم النظريات التجاربية العلمية التطبيقية ، وازدياد حجوم التواتر المجدي والنفعي الكلي في حقول الاختراعات والاكتشافات الكبيرة ، التي ما زالت تنعش الحيثيات اليومية المعاشة في رحم الجدوى الانسانية بالكلية ، والتي ما زالت تتعاقب وفق تأسيساتها التنظيرية المتواترة ، في تجديد وتنشيط منظومة العقل البشري ، وهي المصدر المهم والملهم للعديـد من الباحثيين والمنظرين المجددين ، الحداثويين ، ويبدو من خلال استقراء سريع للواقع الغربي ، ووفق التطور التصنيفي الموثق في علومة وثقافاتة وفلسفاته المختلفة ، انه لم يصل الى هذا النوع من المعرفة الا بعد مخاضات عسيرة ، على كافة الاصعدة والمستويات ، الاجتماعية ، و العلمية ، و الثقافية ، والفلسفية ، ومن الجدير بالاشارة اليه هنا ، ان من أوائل الذين اسسوا ركائز ودعائم هذا النوع الجديد من المعرفة هو ( فرانسيس بيكون ) Francis Bacon ) ) 1561 – 1626 الذي صاغ وأسس المواطن الاصيلة العامة لطروحات فلسفته الفكرية في نهاية القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر ، اي في تلك الفترة الخطرة من التحولات التروطراقية والفكرية والفلسفية القلقة التي شهدتها الساحة الاجتماعية والسياسية الاوروبية ، في رحم ِ عصر ٍ انتعشت فيه فلسفـة الشك عنـد ( رينيه ديكارت ) ( René Descartes ) (1596 – 1650 ) الذي كان يعرف أيضا بـ( بكارتيسيوس ) ( Cartesius ) الفيلسوف الفرنسي ، الرياضاتي ، الذي يعتبر ايضا من مؤسسي الفلسفة الحديثة ومؤسس الرياضيات الحديثة ، من أوائل الذين مجدوا العقل ، ونادوا بتأييد الاتجاه العقلي ، حتى اطلق عليه ( ابو الفلسفة الحديثة ) وقد نادت الفلسفة الديكارتية بالحق الذي برهنت عليه في وضوح الذهن ونوازع بداهيته الاصلية ، ومجّدت العقل ايما تمجيد واعتبرته سيد المؤسسين للظواهر الفلسفية ومفسرها المنتج ، وفي معرض حديث ديكارت عن العقل يؤكـد قائلا ً :-

* العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقتنعوا بحظهم من شيء غيره ، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة على ما لديهم منه * ( 1 ) .

وربما سياخذنا هذا الشكل من الطروح العقلية الغربية لاستنباط واستخلاص ما يفكر به العقل العربي على مستوى ميدان ذات الفلسفة في النزعة المظاهرية في تمجيد العقل وبداهته واستظهار قيم الشك لاثبات الحقائق الفوقية على اتفاقها الاصيل الناجز الغير قابل للتاويل ، او المساس بقدسية الذات العليا ، حيث يصرح الامام الغزالي في مدونته ( المنقذ من الضلال ) قائلا : –

لقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غزيرة وفطرة من الله ( 2 ) .

وهنا عليّ التأكيد ، بان الذهاب الى مستوى هذا الاستدلال العميق في الرؤية الاستنباطية المبنية للحقائق ، وفق قواعد فلسفية حاضرة جادة ، انما يدل دلالة واضحة على ان العقل العربي الفلسفي يرتاد فكرة ادراك الحقائق المجردة الناتجة عن خصائص المنتج الاشيائي ، والانساني المستتر الباطني ، او الظاهراتي العام ، عبر تفكيهها واعادة ترميمها , وانشاء النص المُنجز عبرها ، ومن ثم اعتبار العقل مصدرا من مصادر الاستنتاج وجوهر الاستنباط ، والمجس الانموذجي لادراك غرائز الفطرة والسلوكيات الفردية والجمعية الابتدائية للحقيقية المستقرئة .

وفيما اذا انتقلنا الى جوهر التطور الحاصل على مستوى العلوم الفلكية ونهضة الاكتشافات الكبرى في اوربا ، والتي تحققت على يد العالم الايطالي ( غاليليو غاليليه ) ، بإعادة إحياء معرفة حقائق الشكوك الكبرى ، بذات عصر الإصلاح الديني والذي تحدى فيه السلطات المعرفية والدينية التقليدية ، والذي كما هو معروف آل مصيره الى ما آل اليه على يد رجال الكنيسة ، والى جانب الانفصال الروحي والديني في انجلترا عن الكنيسة الاصيلة في روما ، وما تبع ذلك من متغييرات اجتماعية ، ودينية ، واقتصادية ، وسياسية ، حيث كانت أوروبا في حاجة الى رؤية وتبيان أ طر جديدة ، تساعدها على مواجهة جل هذه التحولات وعلى كافة الاصعدة ، والتي نشأ عنها ذلك التطور الصناعي الهائل في ابتكار آلة الطباعة ، والبوصلة ، واستخدام البارود كسلاح لمواجة التحديات ، ومن جانب اخر فقد مكنت الطباعة الناس البسطـاء ( العامة ) ، من غير طبقات النبلاء وحاشية البلاط ورجالات الاديرة والرهبان ، من الاطلاع على المستجدات الفكرية والعلمية والفلسفية ، من خلال قراءة مجمل التصانيف من الاصدارات الجديدة للكتب ، كما مكنت البوصلة الملاحين من اكتشاف العالم والوصول الى فضاء عالم آخر جديد ، ومنظومة اخرى من الثقافات والشعائر الانسانية المختلفة .

ورغم ذلك ظلت الفلسفة كما هي ، تدور في فلك ارسطو والثوابت التي كان قد قررهـا ( المدرسيين ) ، الذين اصطلــح على تسميتهــم بالمفكرين والفلاسفة ( الكلاسيكيين ) .

وعند عودتنا الى الرواد الاوائل الذين إنتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمــد على القيــاس ، نجد ان الفيلسوف الانكليـزي ( فرانسيس بيكــون ) ( Francis Bacon ) رجل الدولة ، والفيلسوف المعروف بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة ، التي يؤكد فيها على مبدأيين اصليين هما :-

•1- الملاحظـة .

•2- التجـريب .

حيث اعُتبرَ ( بيكون ) من اوائل المنظرين لحركة التنوير الاوربية والتي شهد فيها القرن السابع عشر تغييرات هامة ، في طريقة التفكير والتناول والبحث ، جعلته بمثابة ثورة ، الا أنها لم تكن بالغة الأثر وذلك راجع بالتاكيد الى جملة من الضغوط المستفحلة القوية المستحدثة التي أثرت على بناء الفكر وتلاحمه ، وقد جاءت تلك الضغوط من عدة اتجاهات أهمها الأفكار العلمية التي فجرها عصر النهضة على يد كل من ( غاليليو ) في اثباته العلمي لكروية الارض ، والتي على ضوءها انتعش عصر الاكتشافات الكبرى الما ورائية ، التي سخرت منه الكنيسة في حينها واعدمته ، و ( نيوتن ) صاحب الاحداثية العظمى ( الجاذبية ) وما لحق بهذا الاكتشاف الثر من تاسيسات علمية خارقة وفتحت ملاحق وابواب علمية عديدة ، في اكتساح الفضاء فيما بعد ،.

وهذا الاستعراض الاستهلالي التاريخي الموجز السريع في دراسة مبحث اصل الحداثة على يد رائد الحداثة ( فرانسيس بيكون ) سيخذنا بالضرورة لاسقاط موضوعة بحثنا هذا ضمن سياق عنوانها الدراسي والبحثي ، فمن الملفت لنظر الباحث والمهتم والمعني باصل الحداثة في ادب المسرح بالعموم ، وتاريخ المسرح بالخصوص ، بانه قد يكتشف بوقت غير مبكر ، بإن هناك ثمة حيزا كبيرا من التغييب ، والاغفال ، بل وحتى التقصير التاريخي القصدي ، الذي مارسه الترتيب التقويمي الزمني ، او على صعيد السياق البيلوغرافي التوثيقي ، او ربما حتى على مستوى الحركة النقدية المسرحية والادبية بالعموم ، إزاء الشاعر والكاتب المسرحي النرويجي المبدع الكبير ( هنريك ابسن ) (ibsen henrik ) ( 1828 – 1906 ) الذي عُـدَ بحق سيد وشيخ الحداثة في المسرح العالمي ، وهذا الاجحاف جاء مبكرا بالرغم من ان اعماله المسرحية المدونة قد تناولها العديد من المخرجين الكبار ، وتم اخضاعها لفرضية العرض المسرحي ، ضمن الموضوعية المنهجية التراتبية ، ابتداءا من الاستقراء الابتدائي ، ومرورا بالنقد التحليلي ، ومن ثم لاحالتها لمنصة التفسير ، والتاويل ، والاستنباط المدارسي والاسلوبي ، ووفق الخريطة المسرحية التنظيرية العربية والعالمية ، وانتهاءا بالمحفل السمعبصري للمتخيل الصوري المرئي الجمالي للعرض المسرحي .

وربما ما يعزز هذا الايراد الذي ذهبنا اليه ، ما دونته ( توريل موي ) في كتابها النقدي المثير للجدل والمقروء على مستوى النخبة الوعيوية الاكاديمية المتخصصة المعنية بالحركة المسرحية ، بجل تصانيفها المهمة الغنية ، كتاب موي الموسوم ( هنريك ابسن ومولد الحداثة ) الصادر مؤخرا عن جامعة أكسفورد حيث تؤكد فيه : –

كان ( ابسن ) الكاتب المسرحي الأكثر اهمية بعد شكسبير، كما وتشير ايضا ، الى انه قد حضى باهتمام نقدي ضئيل لا يتناسب وأهميته المهارية الإبداعية ، بشكل يثير الاستغراب وذلك من قبل المنظرين للحداثة وما بعد الحداثة ، وعلى ضوء ملاحظة موي الحاذقة النقدية التحليلية الثاقبة تلك ، ساحاول من خلال هذا البحث تسليط الضوء على جملة من التفاصيل داخل الرحلة الفنية المضنية لـ( هنريك ابسن ) استهلالا من بواكير اعماله الشعرية والنصية المسرحية ومرورا بهجرته المبكرة داخل وطنه وخارجه ، وانتهاءا بمحاولة استقراء سريعة لمجمل اعماله وتاثيرها على الحركة المسرحية العالمية بالعموم ، والاثبات العلمي الناجع لفرضية ان ( ابسن ) كان يستحق لقب شيخ الحداثيين في ادب المسرح .

ومن اجل الولوج لباحة ابسن المسرحية الخصبة الواسعة عليّ ان أؤسس ابتدءا لمدخل تراتبي زمني ، كي استطيع بالاجمال ان الملم ولو بملامح واجهية سريعة ، او الاحاطة التقريرية والامساك بتلابيب الحالة الاستقرائية الموضوعية لمسيرة هذا الكاتب المسرحي العظيم ، وربما سيكون المدخل من وجهة غرائبية بعض الشيء ، حيث ان من غير المتداول والمعروف نسيبا لدى الكثير من المعنيين والمهتمين بادب المسرح بان ( هنريك ابسن ) (ibsen henrik ) قبل ان يكون كاتبا مسرحيا عبقريا لامعا وصاحب امتياز في تثوير مواطن الحبكة المسرحية الجديدة وصياغة خطاب ادبي مسرحي ملهـم وجديد، اطلق علية ( الواقعية الاجتماعية ) او ( الدراما النفسية ) انه كان شاعرا مجيدا حيث اصدر عام ( 1871م ) مجموعة شعرية رائعة ، وكان ملتزما ايما التزام بثوابت ترسيخ المفاهيم والقيم المجتمعية الناهضة ، حيث كابد الاهوال ، من اجل ان يصل الى هذه الشهرة العالمية الواسعة ليصبح في مصاف الكتاب المسرحيين الكبار امثال ( وليم شكسبير ) على الاقل من حيث تناول مسرحياته نصا ، ونقدا ، وتفسيرا ، وعرضا او ربما الاختلاف علية بين معارض لطروحاته الفكرية ، وبين مغال في مناصرته ، بقياس المنتج النصي المدون الثر ، ومن ثم المنتج العرضي الخصب من نتاج مسرحياته عالميا ، وايضا من ناحية عمق افكاره الانسانية النبيلة ، ومن المفارق ان ( ابسن ) قد عرف الغربة مبكرا فقد سافر وهو ابن السادسة والثلاثين الى بريطانيا ، والمانيا ، ولكن المفارقة الاكثر ايلاما ، انه لم يعد البته الى وطنه الاصيل ( النرويج ) الا عندما بلغ الثالثة والستين من عمره ليقضي ما تبقى من ايام عمره المترعة بالمنجز المسرحي الابداعي ، حيث وافاه الاجـل وهو ما زال مترعا بسمو الكتابة في مدينة ( كرستينا ) عن عمر يناهز الثمانية والسبعون عاما ، حافلة بالرقي والاخصاب المسرحي .

هو هنريك يوهان ابسن ( henrik johan ibsen ) 20 / مارس 1828 – 23 مابو 1906 ، شاعر نرويجي الاصل أُعِـدَ من أعظم كتاب الدراما المسرحية واعتبره النقاد المسرحيين ، والمهتمين والمتتبعين الاكاديميين ( ابي الدراما الحديثة ) وذلك للاثر الكبير الذي احدثه في عموم فن المسرح شكلا ومضمونا ، وتناولا ، فقد استطاع ان يهضم الاساليب الكتابية المسرحية السالفة وبخاصة فيما يتعلق في بناء المسرحية الفائقة الجودة في الصناعة الحرفية والاسلوبية ، والتي ارتبطت ايما ارتبـاط باعمـال الكاتب المسرحي الكبيـــر الفرنسـي ( يوجين سكريب ) ( yugen Scribe) رائد المسرحية القوية والجيدة الحبك ، من حيث الاحتفاظ ، والتاكيد على تمتين عنصري :-

•1- التشويق .

•2- والمفاجأه .

كما وتعكس كتابات ( ابسن ) المسرحية مدى تاثره المباشر في صياغته للمسرحية الواقعية الاجتماعية العالية الجـودة ، والمتانة التاسيسية في صنع وصياغة الحبكة ، وانتخاب الموضوعات الاجتماعية الباعثة على الجدل ، في اسقاطها المباشر على ارضية الواقع الاجتماعي اليومي المعاش بالكاتب الألماني ( فردريك شيلر ) ( ( Friedrich Schiller (1759-1805) وبخاصة في احداث المسرحيات التي تدور ملامح جذورها الثيمية في اجواء الكفاح الانثوي الناتج عن مخاض نضالي بحت ، واللمسات الشعرية الراقية ، وان اختلفت طرائق التناول الحكائي والمعالجاتي بين الاثنين ، ولكنهما اتفقا بالاجمال في طريقة الدفاع عن المشاغل التي تهم المجتمع برمته ، والمرأة بالخصوص ، والخلاص الى التاثير المباشر على المتلقي ، ومن هذه المسرحيات ( الشيليرية ) التي اتسمت بالقرب الشديد من ملامح مسرحيات ( هنريك ابسن ) مسرحيـة ( حـب ودسيسة ) ومسرحيـة ( اللصوص ) ومسرحيــة ( فيلهلم تـل ) ومسرحبة ( ماريا ستيوارت ) ومسرحية ( مؤامرة فيسكو في جنوه ) .

اما فيما يخص عملية المقاربة الدرامية ، والمتانة في الحبكة الدرامية الاجتماعية في تأثر ( هنريك ابسن ) بأدب وشاعرية وصياغة النص المسرحي لـ( فردريك شلير ) فيبدو ان المثال الاقرب لذلك الاسقاط ، هي المسرحية التي اعتبرت من اهم التراجيديات المأساوية الناهضة في صياغة حبكتها الدرامية ، ومتانة قيمتها التفاعلية في التناول ، ومثنلوجيتها مرجعيتها ، وبكونها مكتوبة بلغة متقنة عالية اخاذة ، وبقوام انثوي موقفي صارم شجاع ، بذات اللحظة التي يتزاوج فيها الشعر الرومانسي مع ثبات الموقف ذو التجذير الانثوي ، والتي كان قد كتبها الشاعر والكاتب المسرحي ( فردريش شيلر ) عام 1801 ، تحت مسمـــى ( عذراء أورليانز ) والتي كان قد اقتبس حكايتها عن قصة الفرنسيـة ( جان دارك ) التي تم بيعها إلى الإنجليز بعد أن الصقوا بها تهمة السحر والشعوذة وقُدمت إلى المحكمة الكنيسية ، واعتبرت ملحـدة ومرتدة ، وهو ما ترتب عليه حرقها حية في عام 1431 ، وبعد تسعة عشر عاما على حرقها وتحديدا في عام 1450 أقيمت محكمة لتبرئتها وتكريمها , وبعد مرور اكثر من اربعة قرون ونيف ، وتحديدا في عام 1909 جرى تقديرها وتبجيلها كفتاة مسيحية , ولقبت ( جان داراك ) بـ( القديسة ) .

وظلت على الدوام ( جان داراك ) مصدرا هاما ومهما لاستلهام فكرة البطلة الانثوية ، ومبعث الهام للكثير من المبدعين ، وخرجت للنور العديد من الأعمال الأدبية التي تحكي قصتها.

كان الألماني ( فردريش شيلر ) من أكثر الذين عرفوا كيف ينصفون البطلة الفرنسية دون أن تفوته , بين الحين والآخر بعض سهام النقد اللاذع من بعض الاقلام النقدية ، و( عذراء اورليانز ) هي الاخرى كنصا مسرحيا مكتنزا ، كانت وما زالت ، مصدر إلهام واكبار وتقديس بكونها محط تبجيل للشعب الفرنسي كله ، ومدعاة للحزن والاسى بمصيرها البائس التي آلت اليه على ايدي الإنجليز ، ولكن ( دارك ) لم تنل عند الاوربيين بالعموم وبخاصة الإنجليز والألمان منهم ، الحظوة الفائقة ذاتها التي نالتها من لدن الفرنسيين ، فهي لدى الفرنسيين اشبه ما تكون قديسة أما عند الطرف الاخر ، فانها تزاوج ما بين الجنــون والتعصب والمغامرة والشطح الفكري والمغالاة والشعوذة والسحر .

حتى عندما تناولها الالماني ( برتولد بريشت ) بنص مسرحيته التي تدور أحداثها في العصور الحديثة ووصف بطلة المسرحية بالمهيمنة على المسالخ ، لم يكن تقديره لها بالمرة تقديرا شفيفا .

ويمكن القول بان ( برنارد شو ) هو الاخر ايضا لم ينصف ( دارك ) فقد سخر منها بشكل لاذع .

وبالاجمال فقد كان الألماني ( فردريش شيلر ) هو الاكثر انصافا لهذه البطلة التاريخية الفرنسية ، بالرغم من انه لم يتخلص البتة كما اسلفنا من طروحات النقاد اللاذعة بحقه .

ومن هنا يجيء ذلك التاثر الواضح من قبل ( ابسن ) بـ( شيلر ) لانهما اهتما بذات القدر بالقضايا والمحاور الاجتماعية الواقعية وكتبوا الدراما الانثوية ، فقد استطاع ابسن من صياغة نصوص مسرحياته الحديثة ، من استلهام جل العناصر الابداعية المرتكزة على الفهم التراتبي البنائي ، لاخصاب التوافر العضوي الدرامي ، من (سوفوكلس) في القــرن الخامس ق_م الـى ( سكريب ) في القرن التاسع عشر ، ولكنه مع استلهامه وفهمه العميق لتلك الاطاريح المسرحية الفنية التي سبقته فقد خلق لنفسه اسلوبا دراميـا متميزا خاصا ومتفــردا عرف بـ( المنهج الانقلابي ) Retrospective ) Method ).

ويتبى هذا المنهج في مواطن تراتبياته الاجتماعية الاصيلة وجوهر صيرورته الواقعية ، في ان يبدأ الخطاب المسرحي ( النص ) المدون ، بموقف ابتدائي استهلالي في ابان اللحظة المتقدة في خاصرة الزمكانية الآنية الحاضرة ، لتتوالى الاحداث المتراتبة مستحضرا اياها من جلابيب الماضي ، ومن ثم العودة لنسج النهاية المأساوية لابطال نصوصه المسرحية ، ومن الجدير بالذكر ان ما يميز ( ابسن ) عن اقرانه ومعاصريه من كتاب الدراما ، هو انحيازه البائن وانعطافه الواضح صوب الواقعية المحضة ، والذي اعطى لاعماله المسرحية قيمة مضافة لقيمة المضامين الاجتماعية الجديدة ، حتى اصبحت باحة المسرح في عصره اكثر من ( حضور ترفهي ) ومشاهدة بصرية ممتعة لـ( فرجة عاطفية ) مغرية ومثالية او حتى جسدية ، والتي لا تخلو من مثالب ، لتنحو بالمسرح الحديث لمناحي ليست من مهامه الاصيلة في عملية التغيير المجتمعي الذي كان يعتقده ، بل راح منتشيا يعرض الحقائق ، كما هي ، بل بتوقيعاتها على ارضية الواقع ، والاهم من ذلك انه استطاع ان يحيل المسرح الى باحة يمكن من خلالها اكتشاف الحقيقة الواقعية الاجتماعية المرة ، في دواخل الذات البشرية المنعسكة على جملة احداث الواقع المعاش ، بل كانت الصالة المسرحية مكانا تعرض علية الوقائع الخطيرة والمفاجئة ، التي كان يعاني منها الجسد المجتمعي الاوربي ، بالرغم من ان مدوناته النصية المسرحية لم تخلو من طروحات انسانية وفكرية مهمة وعميقة ، حيث تعرض ( ابسن ) وبدقة اسلوبية خارقة وبلغة شعرية فائقة لقضية ماهية الحقيقة ، والفرق بين الحقيقة ، والواقع ، والصراع ما بين :-

•1- الواقعـي .

•2- المثالــي .

وهذا يتضح جليا عير الاستعراض الدايلوجي والتوقيعي بين سلوكيات معظم شخصياته داخل المنظمومة الفنيـة للنص المسرحي ، وبين ابطاله ، كما جاء في مسرحيــة ( برانـد ) ( Brand ) ( 1866 ) في عرض القيمـــة الجوهريــة الاساسية المثاليــة .

* ( إما ان تحصل على كل شيء ، او لا شيء ) *

ولد هنريك ابسن في مدينة ( سكيين ) 1828 بالنرويج ، وفي العام 1844 عمل صيدلانيا مساعدا في مدينة ( غريمستاد ) ذاعت شهرته مع بداية بواكير كتاباته المسرحية ، وتحديدا عند كتابتـه لثاني نص مسرحي له ( عربة المحارب ) عام 1850 عمل في السنوات اللاحقة بصفة مدير تحرري لصالـح المسرح النرويجـي فـي مدينـــــــــــة ( برغن ) ، الــف ما يقــارب ( 26 ) نصــا مسرحيــا .

لقد انتشرت اعمال إبسن المسرحية المدونه ، على مستوى الاوساط الاكاديمية الفنية ، والنخبوية في ارجاء العالم بوقت مبكر ، والتي اتسمت بخصائص غنية وراقية داخل ثنايا مفاتن موضوعاتها الاجتماعية الواقعية ، وبالاتكاء على الركائز الجمالية والخصائص الفنية البنائية الراقية ، والسمات اللغوية الشعرية ، والمقرونة بالتطورات الكبرى في القرنين العشرين والحادي والعشرين ، فصورت مشاعر اغتراب الفرد داخل رحم مجتمعه ، وشخصت جملة الأغلال التي تكبل فرديته ، والتي ربما كان يزهو بها ، وكشف بالتالي ، عن الضغوط الحياتية الخطيرة التي تتعرض لها الذات البشرية ، والمجتمع على حد سواء ، ازاء ذلك التطور الصناعي السريع المهول في العصور الحديثة ، حيث راح يصور بدقة متناهية ملامح تلك الصراعات الداخلية التي تحيط بالفرد ، وتؤدي بالانابة الى تدميره وسحقه ، وربما ثمة مقاربة وتوقعية واضحة ، بين ما تصوره ابسن في كتاباته المسرحية ، وبين ما يحدث بذات العلة والنزعة ، او البرهة الانية الذاتية المحطمة ، والمشكلات والامراض السيكولوجية الفردية المعقدة التي تغلف انسان هذا العصر ، ولعل هذا التمازج بين الخيال الخصب الذي يمتلك لواعج ابسن ويكتنفها ، وما بين المتوقع الحقيقي الافتراضي القادم ، هذا التوارد والتنبوء الفكري المبكر ، ربما هو الذي كان يميز عقل ابسن الابداعي عن عقول سالفيه .

ولعل من اهم ما آمن به ابسن من جملة المفاهيم الفكرية العقائدية التي اعتنقها ونظر لها بل ودونها ضمن اطار طروحاته الفنية النصية ، هي قيمة الحرية التي كان يعتقد بأنها ضرورة من ضرورات التواصل صوب المنجز او المنتج الذاتي الابداعي ، وقد كان يميز وعلى نحو خاص ، بين المتناقضات في القابلية ، والرغبة ، والارادة ، والظروف ، والمزج بين التراجيديا ، والكوميديا البشرية بالاجمال والفردية ، في آن واحد ، في ظروف غير مختلفة التواقع ، ولعل ما يميزه ايضا انه وعلى الدوام كان يمارس مخاض التجريب البحت ، بل ويتجاوز الحدود المنشئية السابقة في كتابته ، وغالباً ما خلقت نزعة الاستكشاف والتجريب هذه منه ، ومن نصوصه المسرحية موضوعاً مثيراً للجدل ، وحالة صادمة للجمهور والنقاد المحافظين في عصره ، وعن هذه النزعة المفاهيمية التجريبية الخاصة يصرح قائلا :-

** حيث كنت أقف في ذلك الحين ، عندما كتبت كتبي المختلفة ، هناك الآن حشد مكتظ، ولكنني ، أنا نفسي ، لم أعد هناك ، أنا في مكان آخر ، آمل أن يكون في الطليعة **

وربما ان الذي نخلص اليه في الانتهاء الاستعراض الاستقرائي ، يكمن في تلك الصعوبة الفهمية ، او الجرأة الخطابية المكتسبة التقليدية ، في تصنيف إبسن ، على نحو معقول منصف ، محايد ، هو ذلك التعقيد النفسي الذي يصور به أبطاله وموضوعاته على حد سواء ، بذات القيمة الابداعية المميزة ، وقد تمكن بل واسهم هذا الجهد الدرامي المضني في رسم الشخصيات الابسنية ، وايضا في خلق حالة من الموائمة بينه ، وبين جملة النقاد اولا ، وبين نخبة القراء ثانيا ، والمتلقين ( الجمهور ) ثالثا ، من أن يجدوا ظالتهم في دعمً معتقداتهم ومناخاتهم ومزاعمهم المحضة ، في ذلك التوافق بين طروحات ابسن الفكرية والفنية ، وبينهم باعتبارهم النواة الاصلية لمبعث وانتعاش وديمومة المنهج التجاربي ، وكلما اقترب هذا من الحقيقية الحتمية الواقعة ، كان صادقا وصحيحاً في عملية اسقاط مواطن حقائقه الدالة المحدثة ، في القرن التاسع عشر ، والعشرين ، وفي مجمل الازمنة اللاحقة ، فقد منح إبسن توصيفات وعلاجات مهمة ودقيقة من خلال ذلك البون الزمكاني الفاصل بين المتلاحقات المتماثلات ، في عملية اغناء دعائم التفسير الحقيقي في ذات اللحظة الانية والانسياق خلف مراسيم انتاج الافرازات والارهاصات من مفاتن جلباب الماضي ، ومفاتن وغرائز المستقبل ، فعلى سبيل المثال استخدام تلك المصطلحات المتثورة في الذات الانية والقديمة والمعاصرة ، المتقلبة المزاج والمغلفة بالعقد المصطلحية ، على مستوى الطرح والتطبيق ، كالثورية ، والرومانتيكية ، والمثالية ، والواقعية ، والطبيعية ، والرمزية والاشتراكية ، والرأسمالية ، الخ ، ومن جانب اخر اهتمامه الشديد بقضايا المرأة ونهضتها وتخليصها من ريق التسلط الذكوري والعبودية لقد كان ابسن حقا كاتبا مسرحيا متفردا في مجاهل التحليل النفسي للشخصيات ، وكان تأثيره عميقا وبائنا على الدراما المسرحية العالمية بالعموم ، سواء في عصره أو في القرن العشرين ، فقد احالت شرائطية ومقومات وثيمات مسرحياته وطبيعة صراعاتها ، ودرجة حبكتها العالية ، وحداثية طروحاتها الفكرية ، العديد من المخرجين المحدثين الى السعي المستمر لخلق واستباط اساليب وطرائق وتقنيات جديدة ، والسعي الجاد خلف ملامح واساليب الحداثة ، لتقديم نصوصه على خشبة المسرح ، كما واغنت فكرة الاجتهاد المستمر الحثيث في الوصول الى مناهجية ولغة ( ميزانسينية ) جديدة للوصول الى دعائم فنية وفكرية لتفسير نصوصه المسرحية ، مثلما أدت بالتالي الى خلق حالة من التسامي لدى الممثلين في السعي خلف مظاهر الابتكار لطرائق ومفاهيم تشخيصية ( تمثيلية ) جديدة ناهضة والتي يمكن من خلالها الامتثال لحالة الرقي الاقناعي في ادائها ، للحصول على اعلى درجة من الامتثال الاستجاباتي المبهر ، فـعلى سبيل الاستعراض الاستقرائي السريع في مجمل الخصوصيات المدارسية والاسلوبية التي كان يُعمل بمضامينها قبل مناهجية وطروحات ابسن الاسلوبية ، هي ظاهرة التجسيد وفق منهج ، او اسلوب (الخطاب الانفعالي ) في فن التمثيل ، لكن في عهد إبسن لم يكن الممثلين قادرين ، مثلا ً، على أن يقدموا ، بإقناع ، ودرجة استجابة مثلى ، طريقة القاء الحوار الطبيعي لمسرحيات إبسن الأخيرة ، التي تميزت بتشظي الجمل ، وتقاطع الكلمات والجمل التعجبية ، والتعابير القصيرة الدالة على المعنى الخفي المستتر خلف ماهيات الحوارات والدايلوكات .

وفي رأينا ان هذا التميز والتجدد في الظاهرة الجمالية القرائية النصية الابتدائية ، ومن ثم احالتها الى منصة التقديم العرضي للنص المسرحي المشفوع بالدراية الثيمية الدرامية المحصنة بنتائج متقنة ، في عهــد ( هنريك ابسن ) كان ابتكاراً حداثويا ، أربك ، بل أقلق ، جملة العاملين في المسرح ، ابتداءا من المخرج ومرورا بطاقم العرض وصولا للاداة التوصيلية الفاعلة ( الممثل ) لينتقل بالاحالة العرضيـــة الى المتلقي ( الجمهور ) الذين اعتادوا على ان يشاهدوا لونا مالوفا غير هذا اللون من الوان العروض الحديثة على خشبات المسرح .

لقد احدث هنريك ابسن من ناحية اخرى طفرة جديدة على مستوى التناول الدرامي ومستوى التلقي في تصوير سفاهة وضحالة المجتمع البرجوازي عبر اعماله المسرحية ، من خلال محاجر عيون النساء ، ضحايا الاضطهاد ، ففي مسرحية (هيدا غابلر) ـ 1890 نشعر وبمواضبة غريبة ، بأن إبنة الجنرال مغلوبة على امرها ، وكانها مأسورة داخل قفص مذهب ، لكنها تكافح من أجل التحرر من ذلك العالم النتن الضيق ، التي ترغم للعيش داخل معالمه القذرة ، لكنها تسقط ، لترتقي صوب اعتلاء محطة سامية في تحطيم من حولها ، وبالتالي لتحطم ذاتها داخل ذلك المجهول العفن ، لانها ترفض الخنوع ، والانصياع للاحكام المجتمعية السائدة ، ويبقى هناك ثمة تساؤل خطير ، ما سر تعلق ابسن بـ( الظاهرة النسوية ) وانصاف المرأة في مطلع القرن العشرين ، هل اعتبارها اديولوجيا جديدية او فلسفة حديثة اراد ان يعتنقها ، وراح يكرس خطابه النصي المسرحي لها ، ويدافع عنها بجديةٍ مبالغ ٍ ومغال ٍ بها ، يبدو سؤالاً مثيراً للجدل ، هل كان مشغوفا بالمرأة ، هل كان عاشقا ، ام هي محض صدفة باركها القدر النسوي لينصف تطلعاتها المستقبلية صوب الحرية الفردية التي هيمنت عليها بالكلية الدكتاتورية الذكورية ، فالرأي الذي يدعم ما ذهب اليه إبسن كنصير للاتجاهات الانثوية ، يمكن أن ينظر إليه متجلياً على امتداد طيف واسع من المواقف ، وهنا لا انصب نفسي شفيعا ولا مدافعا عن اراء ابسن بكل الاحوال ، ولكني احاول ان اجد له معاذير عقلانية واحاول بذل الجهد كي اكون منصفا فحسب ، واحصر هذه المشفوعات التأسيسية وعلى وفق منهج ميزات تراتبية والتالي :-

الميزة الاولى :-

كون ابسن رجلا حرا في تأسيس منهج طروحاته المسرحية ، وينحى منحا اشتراكيا في اطار تفكيره العام ، بمعنى انه كان يؤمن بالتعددية في التدوال .

الميزة الثانية :-

كونه كان ممتلأ ً حنوا كانسان متمدن حدثوي حضاري ، او ربما هو الحنيين الوجداني المبكر للرجوع الى مناخات الطفولة ، لكن بالعموم حتى اكون منصفا ، ان ما ذهب اليه ابسن في الدفاع عن القضايا الانثوية ، هي محض مواقف انسانية كبيرة ونبيلة ، وربما استطيع ان اسقط بقيمة دلائلية ضمن اطار المشفوعة الاولى، التي تناولتها كحجة لابسن ، هي في أداء هواة لمسرحية ( بيت الدمية ) عام 1886 في غرفة الضيوف بشقة في منطقة بلومزبري بلندن ، حيث كان جميع المشاركين لا من المرتبطين بالقضية النسوية فحسب ، وإنما كانت لهم أو ستكون لهم فيما بعد انجازات واسهامات كبيرة في الحركة الاشتراكية البريطانية.

الميزة الثالثة :-

كان إبسن غالباً ما يربط ويمزج قضية النساء بالمجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية الأخرى ، التي تحتاج الى عملية إصلاح وتطهير كبيرة ، وكان كثير المجادلة في حلقاته النقاشية ، وكان يؤشر مواقفه المنبثقة عن ايمان فكري صادق اتجاه الحركة النسوية ومواطن الخلل المجتمعية الاخرى في العديد من المناسبات .. حيث يقول :-

** ان كل المهمشين ( وبينهم النساء ) ينبغي أن يشكلوا حزباً سياسياً قوياً للكفاح في سبيل تحسين وضع وتعليم النساء **

وفي موقع آخر ، وفي كلمة له ألقاهـا أمام تجمع عمالي في مدينـة ( تروندهايم ) عام 1885 قال :-

** إن “تحويل الظروف الاجتماعية ، التي تدور الآن في مختلف أنحاء أوروبا ، مرتبطا الى حد كبير، بالوضع المستقبلي للعمال والنساء. وذلك ما آمله وأنتظره ، وما سأسعى اليه بكل ما أوتيت من طاقة **

الميزة الرابعة :-

ان مسألة علاقة ( إبسن ) بفكرة الاشتراكية من خلال حقيقة جلية وواضحة تتموطن على فرضية ان الاشتراكية ، والحركة النسوية الناشطة في القرن التاسع عشر ، كانا حليفين قويين يشتغلان على ذات المناطقية المهمشة لتفعيلها واستخلاص النتائج من خلال مواطن سباتها الفائت ، ورأى المفكرون الاشتراكيون الأبرز في ذلك الوقت ، رجالاً ونساءا ً .

الميزة الخامسة :-

أن المساواة الجنسية الحقيقية تتطلب تغييرات أساسية في بنية المجتمع وتحتاج الى مراجعة مستمرة عبر المنتج الخطابي المسرحي لضمان الابقاء على استمرارية ديموميتها وفاعليتها .

الميزة السادسة :-

ان ابسن كانت له حظوظ توفيقة مع المرأه ، وربما تشارك معها في رفض الهيمنة الذكورية على منطقة تبادل السلطات .

الميزة السابعة :-

وربما في تقديرنا هي الميزة الاكثر فاعلية ووقعا في حياة ابسن المتقلبة بين مواجع الغربة عن وطنه والعيش مضطرا للتعايش خارجه والبعد القسري عن ملاذاته الامنات ، لذا قرر ان يحتج ويعلن امتعاضه وبصوت عال ، عبر اعماله المسرحية عن كل تلك التراكمات الاجتماعية المقيتة المترهلة داخل الجسد المجتمعي ليصار الى انقلاب وتحول جذري واع ٍ صوب حرية الفرد داخل ذاته اولا وداخل مجتمعة ثانيا .

الميزة الثامنة :-

لكونه كان شاعرا مجيدا فقد استطاع من خلال اللغة المختزلة الدالة في توصيل افكارة من اقرب الطرق واوسعها رحابا ، لذا تمكن من ان يرتدي اللغة ملاذا لمقاصده النبيلة ، فكانت عملية الاستجابة العالية من لدن جمهور المتلقين خصبا ، وربما كان الجدل عليه ايضا وافرا فهذا يدل على جدية وعمق طروحاته الفكرية الممسرحة . وبالرغم من انه لم يكتب مسرحيات شعرية بعد ( بيرغنت ) بل غير اتجاهه فكتب عام 1869 مسرحية ( فورة الشباب ) وهي مسرحية كوميدية ساخرة تدور موضوعاتها الثيمية على مثلبة الزيف ، والخـداع ، وفي العام نفسه بدأ عمله الكبير في مسرحية ( ملك الجليل ) وانتهى من كتابتها في 1873. وقد تناولت موضوعة الصراع بداخل ثيمتها الصراع بين المسيحية والوثنية ، آبان الأيام الأولى للمسيحية في أوروبا في عصر الإمبراطور جوليان ، وهذا يؤكد بداهة ً، على ان ابسن كان غزير التناول في طروحات موضوعات اعماله المسرحية الشعرية والواقعية والاجتماعية والتاريخية .

الميزة التاسعة :-

شعور ابسن المبكر بعقدة الذنب لاسباب كان يوقعها بشكل جلي في مجمل اعماله المسرحية حينما تبنى التنظير والتبشير والكتابة لمذهب اومدرسة او اسلوب ( الواقعية الاجتماعية ) او ( الدراما النفسية ) وهذه المسرحيات التي تكتنف اجواءها عقدة الذنب لدى البطل في مسرحيـة ( أعمدة المجتمع ) عام1877 و ( بيت الدمية ) عام 1879 و مسرحيـــة ( الأشبـاح ) عام 1881 و مسرحية ( عدو الشعب ) عام 1882 ، ويبدو ان هناك تلازما واضحا ما بين عقدة الذنب عند ابطال ابسن وبين شعورة اصلا بعقدة الذنب في حياته الزاخرة بالتقلبات كانسان ، وككاتب ، ويكشف إبسن عن مظاهر شعور البطل بعقدة الذنب بوسائط وطرق مختلفة ، ليدفعة عنوة صوب طريق التكفير الناجع بالنجاة والخلاص ليبني حياته المستقبلية الاتية وفق نظام مجتمعي خلاق ومبني ايضا على روح الصدق الحقيقية وروح حرية الموقف والفكر والتعبير ، والتي اعتبرها أعمدة وركائز ودعائم لبناء مجتمعات حضارية متمدنة خالية من عقدة الذنب بالمرة ، لان الابطال الذين سياتون فيما بعد لا تسكنهم تلك المخاوف الهاجسية للشعور بعقدة الذنب لانهم سيتطهروا منها ، قبل ان يرتكبوها .

لقد أثارت النصوص المسرحية المدونة لـ( هنريك إبسن ) مواقف متعارضة في أوساط النقاد والصحف والجمهور في لندن. فقد عبـرت ( أوليف شراينر ) الكاتبة والنسوية الناشطة الجنوب أفريقية البارزة ، عن إعجابها العميق والمقطع النظير بـ( هنريك إبسن ) حين قالت عام 1884 لقد سمعت جزءاً من مسرحية إبسن ( الأشباح ) عام 1881 وهي ما تزال في حيثيات مسودتها ، إنها واحدة من أعظم الأعمال التي لم نرَ مثيلها منذ زمن ٍ بعيــد .

غير أن مسرحياته واجهت مشاعر رعب وخوف واحباط من قبل العديد من نقاد المسرح في لندن ، وظهـرت مقالات تتصـدر الصحف تهاجم ( ابسن ) ووصفت تلك الصحف ، جمهور مسرحية ( الأشباح ) التي عالجت موضوع الأمراض التناسلية وآثام الاباء الذين ينتقمون من أبنائهم ، بأنهم عشاق الشبق والنزوة والنزق الجنسي وغير محترمين لانفسهم ، وليس لديهم حياء واحتشام وهم ايضا تواقون الى إرضاء أذواقهم غير المشروعة بذريعة الفن ، ومن جانب اخر نشرت العديد من الصحف وقتها مقالات مطولة تشيد باعمال ابسن وتدافع عن افكاره وطروحاته الفكرية والفنية الواقعية ، حيث اعتبرَ الناقد المسرحي البريطاني المعروف ( هارلي غرانفيل باركر ) أول إخــراج لمسرحيــــة ( بيت الدمية ) عام 1889 ” الحدث الأكثر دراماتيكية في جودة حبك ( العقدة ) .

وتتأتى حداثة طروحات ( هنريك ابسن ) الفنية من صلب اعتبار جل اعماله المسرحية المدونة هي انعكاس واضح وجلي لمجمل الظواهر الواقعية الاجتماعية والغوص داخل الاعماق النفسية للذات البشرية لاثراء الشخصيات بذلك النسيج الدرامي المتفرد ، فهو نفس تجريبي حداثوي على مستوى مائدة الطرح والتناول والتفسير والمعالجة ، ولعل محاولة اعادة تثوير الصراعات النفسية لذات التنشيط المختبري السالف والذي ارغم النقاد على ان يطلقوا عليه لقب ( فرويد المسرح ) لتمادية في اخضاع ذوات شخصياته الحية لمجهر التحليل النفسي وتثوير ملامح الانقلاب الواعي على مظاهر الاضطهاد الذكوري ، كما في رائعته ( بيت الدميه ) تلك المظاهر التي رسمها المجتمع حولها ، ولقد تكررت تلك النزعات الثورية الانية المجتمعية في كبرى اعماله المسرحية ، والتي اعتبرت بنسيجها الثيمي الجديد ثورة على التقاليد البالية التناولية القديمة في تقديم الظاهرة المجتمعية السيئة ومعالجتها باشكال مسرحية مختلفة ، تختلف اختلافا كليا ، على مستوى جل المعالجات الثيمية والحكائية والحوراية والفلسفية ، عما ظهرت عليه في الاشكال المتعددة من خلال انتعاش المدارس والمذاهب والاساليب الادبية والفنية المتعددة المختلفة ، ومدى قابليتها على معالجة ذات الظواهر الاجتماعية ، بوفق المواصفات التنظيرية المعتقدة في مناطق اشتغالها الدرامية عند ( هنريك ابسن ) .

لم يعرف المسرح الغربي بالعموم معنىً اصيلا لعملية التحرر من قيود المسرح الأرسطي والانسلاخ عن مفهوم المحاكاة الكلاسيكية إلا في القرنيين التاسع عشر والعشرين من خلال انتعاش التناول الحثي التجريبي وظهور العديد من المدارس والمذاهب المسرحية والفنية والثقافية والنقدية التي استهدفت الثورة بالاجمال على المسرح اليوناني ، ومفاهيمة التقليدية ، كما ازمعت هذه المذاهب وبادوات ادبية تنظيرية علمية تجريبية ، للتخلص من الفلسف العقلانية المغلقة ، المبنية على مبدئية المنطق ، وعلوم الكلام ، والابتعاد بالمرة عن مبادئ المذهب الكلاسيكي القديم برمته ، والذي كان يواشج معمليا فن المسرح بديدن العقل ، وتقاليد المحاكاة ، وتبجيل وتقديس القضايا المتصوره من قبل المنطق وتتمثل بمجمل مناطق ومعالجات الأخلاق والفضيلة .

نعتقد ان ظاهرة التجديد المسرحي كانت قد بدأت مع ظهور الشاعر والكاتب المسرحي الانكليزي الكبير ( وليم شكسبير ) بمؤلفاته المسرحية الشعرية الدرامية الخالدة ، ماكبث ، هاملت ، عطيل ، هنري الثالث ، تاجر البندقية ، العاصفة ، وغيرها ، والتي اتسمت بهيمنة الثيمية الصراعية الناهضة الانموذجية المتواخاة في كتبابة النص المسرحي ، بعد شكسبير ظهرت العديد من المدراس والمذاهب الفنية المسرحية ، والتي تقف في مقدمتها المدرسة الرومانسية التي انتعشت في القرن التاسع عشر ، عبر مجموعة كبار الكتاب والمنظرين والكتاب أمثـال ( فيكتـور هيجـو )V- Hugo ) ) فـي مسرحيــة ( هــرنانـي ) و( السكندر دوما ) ( A-Dumas ) في مسرحية (هنري الثالث ومجلسه) و( الفـرد دوموسيه A -Musset ) ( ) في مسرحياته الرومانسية الكثيرة ( لا نتلاعب بالحب ) و ( ليلة البندقية ) وايضا الكاتب الملهم الكبير ( جوتـه ( Goethe ) ( كاتب المسرحيـــة الرائعــة ( فاوست ) و( فردريك شيلر ) الذي تحدثنا عنه داخل البحث ومدى تأثر ابسن باسلوبه ، وكانت من مرتكزات ودعائم الرومانسيـة في فضاء المنتج الدرامي ، حرية الإبـداع ، وتبضيع الوحدات الارسطية الثلاثة ( وحدة الموضوع ، ووحدة المكان ، ووحدة الزمان ) والتمازج والتلاقح بين الأجناس الأدبية والعمل الجاد على صهرها داخل رحم اطار واحد كالمزج والتلاقح بين التراجيديا والكوميديا ، والجمع بين الشخصيات النبيلة والدنيئة ، والمحاذاة بين الضحك والبكاء ، و الجمع بين الرفيع والوضيع ، والترجمة الصادقة الشفيفة في محاكاة الطبيعة عن كثب او بعد ريثما يتسنى لها ذلك الجو الحالم لانعاش ذاكرتها الرومانسية .

بعد المدرسة الرومانسية ظهرت المدرسة الرمزية بعد حرب 1870 و مع بواكير الثورة ضد القيم والثوابت الاخلاقية للبورجوازية المادية، والتأثر الكامل والمفطر باراء واطاريح الألماني ( ريشارد فاكنر ) حيث يرى فاكنر أن الكاتب الدرامي عليه أن يرسم حوله لينعكس ذلك داخل النص ، عالما مثاليا تغلفه أساطير على غرار المسرح القديم ، وأن يثير نوازع وارهاصات العالم الروحي الداخلي للشخصيات دون التركيز على المظهر الخارجي ، وكانت لهذه الآراء التصورية والفلسفية أثر كبير في الأوساط الثقافية والفنية في فرنسا سنة 1880 ، مما ساهم ذلك بشكل فاعل ومؤثرعلى ولادة تيار واسلوب فني وأدبي اطلق عليه ) الرمزي ) يدعو إلى مذهبية مسرح ( اللا مسرح ) الذي يعتمد على الفلسفة الروحانية ، وتداعي اللاشعور واستخدام الصورالرمزية التي من شأنها تبني الايحاءات وملامس الحدسية ومن ثم توظيف الايقاع البطيء لاستقراء وتمحيص ما هو مضمر وخفي في النفس البشرية والتمرد عن الواقع المعاش بالاكراه والجنوح الحتمي الضروري صوب اللاعقلانية المفرطة في تصور الطبيعية والمجتمعات والبشر ، وازدهرت المدرسة الرمزية بين اعوام ( 1890 – 1900 ) على ايدي العمالقة من كتابها ومنظريها الكبار المهميين امثال (موريس موتيرلنك) و( بول كلوديل ) و ( تشيكوف و ( ستريمبرج ) و( هنريك ابسن ) .

وجاءت صيحة المدرسة السريالية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى متوازية مع التحليل النفسي الفرويدي ، وتذمر الإنسان من الواقع الأورپي المتردي الذي كان يعيش بداخله مرغما ، والذي كانت تتآكله فيه ويلات الحروب الكارثية ، مما دفع كبار المنظرين السرياليين للتخلص من هذا الواقع الموبوء والانشطار عنه ، والتحليق صوب واقع آخر رسموه لانفسهم يستطيع الفرد من خلاله التخلص من ادرانه الذاتية والتحرر من القيود والتقاليد والأعراف والقيم الأخلاقية البالية ، لكي يكون بامكانه الحصول على الملذات الشخصية وإشباع غرائزه وشهواته قبل أن يأخذهم الموت نحو العدم القادم من سديم النفس التي تحاول الهروب من ذات الواقع الي يحتضرون فيه ، ويعد الكاتب الفرنسي ( كيوم ابولينير ) ( G-Apollinaire ) هو أول من استخدم مفردة السريالية Surréalisme ) ) حينما كتب واصفا عملا مسرحيا وكان ذلك العرض عبارة عن فرجة مشاهدية جميلة درامية موسيقية ، راقصة ، كان قد كتبها الكاتب الكبير ( جان كوكتو ) .

ومما تقدم في متن البحث ، يمكننا القول باننا اذا ما اردنا ان نستنبط الفكرة الاصيلة والجلية في موضوعة حداثة الكاتب المسرحي والشاعر ( هنريك إبسن ) ومن ثم تأصيلها ، علينا باجراء استقرائي سريع لملامحه الفكرية والنفسية بالاستدلال على ايرادنا موضوع البحث في اثره المدون في كتابة آخر مسرحية له الموسومة ( عندما نستيقظ من بين الكلمات ) والتي انتهى من كتابتها عام 1899 ترسم الكثير من محاكاة شخصية الحياتية ، من خلال شخصية (روبيك ) في حبكة هذه المسرحية لقد رسم ( إبسن ) شخصية ( روبيك ) و اعتنى ايما اعتناء بصياغة جوهر الهامها الفكري وتدوين مفاتن بوحها من خلال حواراتها ولواعج صراعاتها الداخلية حيث اسقطها اسقاطا فكريا وربما ايديولوجيا على صيرورة تلك الشخصية من احداثها ان (روبيك) ذلك الفنان الكبير ذو الشهرة الفائقة عالميا يعود الى النرويج بعد سنوات طويلة قضاها في الغربة خارج وطنه ، حاملا معه مشاعر الحزن والاشمئزار والقرف ويعاني كذلك من التعب والانهاك وخيبات الامل الكبيرة . ليبقى وحيدا داخل عزلته الهزيلة ، لذا نجد ان ابسن قد قال على لسان شخصية (روبيك: المرسومة بعناية فائقة :-

* لقد وصفت كل ما رأيته في عيني حول حياتي ذاتها *

ومن الواضح بان ( ابسن ) قد لجأ من خلال براعته اللفوية والثيمية العالية الجودة ، والطرازية المعهودة ، من تحليل شخصياته الدرامية من النــــاحيــــة النفســية تحديدا ، ومن ثم ابراز جل صـــــراعاتها الداخليـــــة الثنائيــــة من خلال موجة التسامي الصراعية المتكونة من :

•· الرغبة .

•· الارادة .

ابتدءا من مسرحية ( بيت الدمية ) و ( البطة البرية ) وصولا الى مسرحية ( دعائم المجتمع عام 1877) وهي ما استحق عليهــــــا حقا لقب ( فرويد المسرح العالمي ) .

ومن هنا يممكنا الاستدلال الاستقرائي والتحليلي من اثبات المعادلة القائمة على ان ( ابسن ) كان احد الاضلاع والركائز المجيدة التي قامت عليها الحداثة في المسرح المعاصر والقائمة على نظرية التجديد والحداثة في الهيكلية الثيمية والحكائية والصراعية والحوارية لكتابة النص المسرحي ، بنقلها من تلك الجمود وحياة القولبة القديمة التي كانت عليها قبل بزوغ نجم ابسن الى نصوص نابضة بالحياة الواقعية الاجتماعية التي تعكس نبض الشارع وحياة الناس ومشاكلهم الانية نقلا دراميا متنوعا رصينا الى روح النص الخطابي المسرحي ثم لنقله فيما بعد الى باحة المسرح عبر الادوات الاخراجية الفنية الفاعلة المتنوعة ، والدعائم التفسيرية الجديدة الراقية ، الى مشروعية العرض المسرحي ، وربما ما يؤكد ما اوردناه في صلب البحث في ديمومة حداثوية ابسن ان اعماله الكبيرة مازلت تنبض بالحياة وتجاري الازمنة والتواريخ , وثمة مخرجين كبار ينتظرون حظوظهم الوافرة في ان يخضوا تجاربهم الاصلية في التعرض للمخاض التفسيري للنص ( الابسني ) .

ولعل الذي تفرد به ابسن عن غيره من كتاب الدراما المسرحية هو:- اولا :- انتخابه للحكاية الواقعية الاجتماعية التي استطاع من خلالها ان يثور على مجمل التقاليد المجتمعية البالية .

ثانيا :- البناء الدرامي المجيد الخاص بموهبته الفذه ، التي لا يختلف عليها إثنان من المتخصصين والمعنيين بـ ( فن المسرح ) بجل تصانيفيه الابداعية .

ثالثا :- اللغة الحوارية العميقة الشاعرية الرصينة الصادمة التي تَوغلَ بها صوب الذات البشرية

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *