هند سلامة تكتب : آلام الإنسانية تجمع شعوب التجريبي على خشبة واحدة

       تعددت المعاناة والمآسي التي عاصرتها شعوب الكرة الأرضية؛ وهو ما كان واضحا جليا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي حيث تعددت اشكال التناول والطرح في أكثر من عمل مسرحي سواء عن طريق التعبير باللغة أو الجسد أو حتى بإستخدام وسائل تعبير أخرى مثل عرض “بعثة المحيط الهادي” الذي استخدم ابطاله أكياس القمامة للإجابة عن سؤالهم “هل تعلم اين تذهب النفايات التي نرميها كل يوم؟ لا يمكن أن تختفي ببساطة بل هي تذهب في مكان ما بالمحيط الهادىء حيث تراكمت الكثير والكثير منها حتى اتخذت شكل جبل ضخم جدا يطلقون عليها “جزيرة المهملات الكبرى في المحيط الهادىء”؛ كما اتخذ المهرجان من آلالام الحرب ومعاناة الفقد عنوانا لدورته الخامسة والعشرون ولم تقتصر عروض “المسرح تحت دوي القنابل” على عروض “رائحة حرب”، و”هن”، و”مروح إلا فلسطين” بل جاءت معظم عروضه محاكية لحال الواقع العربي المعاصر من آلالام هجرة وحرب وفراق ولقاء، ولمزيد من التنوع والمتعة لم تتوقف عروض المهرجان عند المآسي والأوجاع سواء كانت عربية أو عالمية فهناك عروض اتخذت من المتعة والبهجة وسيلة لها مثل عرض العرائس البولندي “توبا والملائكة”، وعرض مسرح الأصابع اكسترافاجنزا “الروعة”، وعرض الإفتتاح “أنا وأنت” لدولة سويسرا وسوف نستعرض هنا بشكل شبه تفصيلي بعض من عروض المشاركة بدورة هذا العام.

رقصة حرة في حضرة سوريا..

          كما سبق وذكرنا قدم المشاركون اشكال متنوعة لتناول معاناة الإنسانية خاصة البلدان التي عانت ومازالت تعاني من ويلات الحروب، وتأتي سوريا على رأس هذه الدول التي هاجر معظم أهلها تاركين ذكرياتهم إلى حيث لا يعلمون إلى اين ستأخذهم الأرض، قدم ابطال عرض “حضرة حرة” إنتاج سوري ألماني تأليف محمد ديبان وأسامة الحفيري وإخراج محمد ديبان؛ عملهم المسرحي الراقص الذي ينتمي للرقص المعاصر، في لوحات فنية شديدة التنوع والإتقان والإبتكار، قدم الفريق السوري معاناة هجرته من بلده في صورة شاب تائه ضاقت به السبل ولا يعلم ماذا يفعل سوى الهجرة في مشاهد جسدية موحية بمجموع الفنانين الحاملين حقائبهم ومهاجرين للخلاص من واقعهم البائس، “حضرة حرة” عرض يجسد الحالات التي مر بها الناس في الحرب ومن خلال شاب نرى بداية الصدمة التي عاشها عندما ايقن أنه لا طريق للعيش سوى الفرار فتراه مشردا مع افكاره في إحدى بقاع الأرض وكل ما يدور في فكره هو الخلاص؛ يأتي العمل موحيا ومعبرا عن معنى كلمة الحضرة والمأخوذة من الحضرة الصوفية التي إعتاد فيها الناس الإبتهال والتقرب إلى الله بالتفاني في ذكره حد التلاشي من انفسهم، وكأن العمل يستعرض هذه الحالة الصوفية من التلاشي والخلاص بإستحضار كلمة الحضرة بمعناها الروحاني بجانب الحرية بالهروب والخروج من كل شيء أدى إلى التكبيل والحد من حركتهم عن الحياة تتابع مشاهد العرض الراقصة التي تنوعت بين رقصات شعبية سورية ورقصة التنورة ولوحات من الرقص المعاصر لتبقى هذه الأجساد المهاجرة أشد تعبيرا وأعمق تأثيرا في نفوس الحاضرين من العمل المسرحي الناطق بالكلمات فهنا في حضرة الرقص المعاصر تستعرض الأجساد ما عجزت عنه الكلمات فالجسد هو من عاش وجرح وتألم في ذهاب وإياب قبل ان ينطق بمعاناته اللسان؛ أبدع الفريق السوري في تقديم هذه الحضرة الحرة وجاءت اللوحات الراقصة متنقة الصنع حيث تمتع الراقصون بحساسية فنية عالية جعلتهم يرقصون ويمثلون هذا الوجع فإندمج معهم الحضور وكأنهم يستمعون لأنيين أجسادهم الراقصة التي روت كل شيء دون النطق بأي شيء..!

                 “إس_كوارك” ..S-Quark      

إشترك معه في الجودة والتقنية الفنية العالية وكذلك في الإنتماء لمسرح الرقص المعاصر العرض الروسي “إس_كوارك” قدم العمل في لوحات فنية غير مترابطة دراميا مجموعة من الرقصات الجماعية والثنائية التي تعبر عن معاناة الإنسانية بوجه عام وكذلك وضع ديكور في خلف المسرح ربما يعبر عن السلطة التي تسيطر على البشر في كل وقت وحين ومحاولة الإنسان في التمرد عليها دائما أي كان شكل هذه السلطة؛ في تتابع فني وتصميم حركي اتقن المخرج ستاس نامين صنعه؛ اندفع الراقصون بطاقة فنية هائلة وتشكيلات حركية شديدة التميز والإنضباط؛ مع إضاءة متغيرة غير ثابتة على شكل او وضع محدد حيث رقصت إضاءة العمل على أجساد الراقصين فكانت تتبعهم اينما ذهبوا واينما رقصوا ترقص بأشكال والوان متعددة وبالتالي شكلت عامل كبير في خروج العمل وكأنه لوحة تشكيلية متحركة نابضة بالحياة حكت الإضاءة مع روته الأجساد بدقة وإنضباط مذهل، وذلك على انغام سيمفونية “سنتوريا اسي كوارك” الذي الفها ستاس نامين مزج بين هذه الموسيقى والرقصات التشكيلية المتنوعة التي يؤيديها الممثلون بأجسادهم واصواتهم معا.

 

“بلا أقدام أو رأس”..”Sin Pies

      مستوى آخر وتوظيف مختلف لمسرح الجسد كان جليا واضحا في عرض “بلا أقدام أو رأس” يحمل هذا العمل حالة فنية خاصة جدا، لأسباب عديدة اولها التقنية والتكنيك العالي في الأداء الحركي وضبطه بدقة ومهارة مع التمثيل؛ ثم فكرة العمل الغير متكررة كثيرا في نقد الواقع او السخرية من اشكال الحكم الديكتاتوري تجاوز العرض كل حدود الخيال بداية من فكرته التي تدور حول قصة ثلاث منشقين أعدوا خطة للثورة على عالم الرجل “لورد هيد” الذي قرر أن يأكل كل العقول الموجودة على الكوكب كي يمنع التفكير الحر والخيال والإبداع؛ ومن هنا يأتي عنصر الدهشة والمتعة التي حققها العرض من فكرته الرئيسية الكوميدية الساخرة رجل قرر أكل عقول كل البشر حتى لا يتيح لأحد التفكير أو الإعتراض ثم يأتي الشكل او كيفية تناول هذه الفكرة في قالب تمثلي حركي كوميدي غير معتاد على خشبة صغيرة لا تتعدى مساحتها متر في متر اصطف الممثلون الثلاث وقاموا معا بتبادل الأدوار فيما بينهم مستعرضين فكرة العمل الأساسية ب”لا اقدام او راس” أي شيء مشوه غير واضح المعالم ليس له معنى، في حركة مسرحية شديدة الدقة والإنضباط صممت مخرجة العرض كوي لان لاشينو حركات محسوبة وإيماءات موحية قامت المخرجة بتعشيق الحركة مع التمثيل فأصبح عجينة طيعة الإستخدام فهم يتحولون معا مثل ادوات “الصلصال” ثم يعيدون التشكيل الحركي من جديد، أخدتنا المخرجة إلى العالم المحظور لهؤلاء الثلاث حتى مع صعوبة التواصل بسبب اللغة وبرغم وجود ترجمة اعلى خشبة المسرح إلا أن الجمهور فضل المشاهدة والمتابعة الدقيقة للحركة والتمثيل بلا مواربة ولو دقيقة واحدة فالرغبة في الإستمتاع بالمشاهدة طغت على فضول الفهم ومتابعة الترجمة؛ ثلاث ممثلين جمعهم شدة التحكم والتمكن بإحترافية عالية فيكفي مشاهدتهم كي تندمج وتتواصل مع الحركة والإيماءة وكأنك لست بحاجة إلى ترجمة حرفية ترجمت أجسادهم كل حروف العرض.

خالتي صفية والدير

في تكثيف واف وغير مخل بأحداث الرواية الأصلية استعرض المخرج محمد مرسي في صورة شديدة الإتقان والعذوبة والكآبة أيضا أحداث راوية “خالتي صفية والدير” للكاتب بهاء طاهر والتي تدور في صعيد مصر وجعل الأحداث وكأنها استرجاع لذكريات الفتي أو الإبن حسان ابن صفية التي تتزوج خال حبيبها رجل الأعمال الكبير ثم تتوعد بالإنتقام من حربي بعد أن يقتل الأخير خاله من شدة التعذيب الذي تعرض له على يديه؛ بالطبع ركز وكثف المخرج على القيم الأساسية للرواية وهي قيم التسامح والحب التي اصبحت معدومة بمجتمعاتنا الحالية حتى أن ابطال العرض يخرجون من وراء ستائر شفافة فكأنهم يأتون من الماضي ثم يعودون إلى الوقوف خلفها من جديد بعد تلاشي وخفوت وجود أمثالهم على قيد الحياة ففي جملة متكررة على لسان الرواي “هل هناك صبي صغير يرسل الكحك للرهبان بالدير يوم العيد كما كان يحدث سابقا”..ثم يذهب الصبي والفتي ليعودوا إلى مكانهم الطبيعي بالزمن السحيق، فأصبحت قيم الحب والتسامح اساطير نتحدث عنها في الروايات واحاديث الذكريات؛ عز علينا اليوم السماحة والإحترام بين المسليمن والمسحيين يضع العرض يده على الجرح مباشرة دون لف أو تطويل أو مواربة وبرغم ذلك حمل الكثير من المتعة الفنية في الشكل والمضمون والأداء التمثيلي لأبطاله وهو ما استحق عليه من قبل الفوز بجائزة افضل عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، وإن كان من المهم للغاية إعادة مثل هذا العمل بصعيد مصر وتكرار عرضه ودعوته للحب والتسامح وإحياء عنصر الأمان بأديرة وكنائس الأقباط التي لجأ إليها حربي فلم يجد أمن ولا أفضل من الدير كي يختبىء بين احضانه من ايدي اعدائه وحماه الدير حتى مات بفعل القدر، قرى ونجوع ومحافظات نزع منها الحب والأمان والرحمة متعطشة لمثل هذه الأعمال الفنية التي إهتم صناعها بإتقانها على مستوى  الشكل والمضمون.

الروعة..”woder

         بعيدا عن آلام المعاناة وتحقيقا لفكرة المتعة والتنوع خلال ايام المهرجان قدم عرض “الروعة” لدولة جورجيا تأليف وإخراج بيسو كوبريشفيلي عمل مسرحي صادم كان البطل فيه اصابع اليد؛ دقة وإتقان وقدرة بالغة على التحكم والإبتكار، وخلق متعة من لاشيء، ربما من الصعب تحقيقها بهذه السهولة على المسرح، قدم الفريق مجموعة متنوعة من الرقصات الوطنية الخاصة بشعوب دول مختلفة قدمها فريق إكسترا فجانزا “مسرح الأصابع” في حركة يد واحدة ارتدت الأيدي ملابس ثقافة كل بلد كي تقدم رقصتها على الجمهور التانجو والفلامنكو رقصة مايكل جاكسون والكاكان ورقصة شيكاغو، فتحولت هذه الأصابع في صورة مبهرة لأجساد متحركة تؤدي رقصاتها بمهارة واحتراف مستوى آخر وشكل جديد من الخيال ابهر الحاضرين فلم نعتد من قبل رؤية الرقص بالأيدي واصابع اليد الواحدة وتحولت فجأة إلى رجل وإمرأة متعانقين في رقصة التانجو، فدون ظهور اصحاب هذه الأيدي الناعمة راينا اناسا آخرين جسدت ارواحهم على ايديهم وكأنهم اشخاص يرقصون ويأدون الحركة كما يؤديها راقص محترف على خشبة المسرح.

 

_________________________

المصدر : عبر البريد الالكتروني  موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *