نوفيتشنتو’ عازف بيانو يبحث عن موقع له في العالم: أبو بكر العيادي

المصدر : العرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

  • يعتبر الروائي أليسّاندرو بارّيكو من أهم الأصوات الإيطالية في الأعوام الأخيرة، وأعماله أمثال “حرير” و”بلا دم” و”مستر غوين” ترجمت إلى اللغات العالمية، وتحوّل بعضها إلى أفلام سينمائية، ورغم اهتمامه بالمسرح، لم يؤلف بارّيكو سوى نص وحيد بعنوان “نوفيتشنتو”، يعرض حاليا في مسرح مونبرناس بباريس.

نوفيتشنتو” مونولوغ يقع بين المسرح والحكاية المروية بصوت عال، ألفه الإيطالي أليسّاندرو بارّيكو عام 1994، وعرض في العام نفسه بمهرجان آستي في إخراج لغابرييلي فاشيس، وبطولة أوجينيو ألّيغري.

ويروي قصة طفل ولد عام 1900على ظهر سفينة “فرجينيان” التي كانت تصل في رحلاتها أوروبا بالولايات المتحدة، فتخلص منه أبواه وتركاه هناك حيث نشأ وتعلم العزف على البيانو حتى برع فيه، وظلت السفينة سكنه، لا يبرحها لا في الإقلاع ولا في الرّسو، مثلما ظلت الموسيقى عالمه الفريد.

كان فريدا في كل شيء، حتى في اسمه (دانّي بودمان تي دي ليمون نوفيتشنتو)، وكانت الموسيقى شغله الشاغل، لا ينقطع عن العزف كلما عنّ له ذلك، صبحا وليلا ومساء، متنقلا بين الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى عصره، من باخ وغيرشوين ورافيل وديبوسيه إلى الجاز والبلوز والريغتايم وأهازيج المهاجرين الإسبان، بل كان يلذ له أحيانا أن يمزج هذه بتلك، وذاع صيته كأبرع عازف بيانو على وجه الأرض، حتى جاء عازف آخر يتحداه طمعا في التفوق عليه دون جدوى.

وكان نوفيتشنتو إذا ألح عليه أصحابه بترك السفينة والنزول لاكتشاف عالم آخر، عالم نيويورك بشوارعها ومقاهيها وملاهيها ومتاجرها، يبدي استجابة، فيعدّ العدّة لمرافقتهم، ثم يعدل عن ذلك في آخر لحظة، ويلوذ بآلته.

كان يقول “ولدت على هذه السفينة، كان العالم يمر عبرها، بنحو ألفي شخص في المرة الواحدة، وكانت ثمة رغبات، ولكن ليس أكثر من قدرتك على التماسك بين مقدمة السفينة ومؤخرتها، كنت أعزف سعادتي على ملامس البيانو، وهي محدودة.. الأرض، هي سفينة كبيرة بالنسبة إليّ، رحلة بالغة الطول. امرأة فائقة الحسن. عطر قوي الشذى. موسيقى لا أحسن عزفها”. ظل على تلك الحال أعواما، حتى تقررت إحالة السفينة على التفكيك نظرا لترهلها، فنزل المسافرون ولم يلح من بينهم نوفيتشنتو.

تدور الأحداث ما بين عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته، وينهض بسردها تيم توني نافخ البوق في الأوركسترا، وصديق نوفيتشنتو والشاهد الأقرب على حياة العزلة التي اختارها.

“نوفيتشنتو” نص رائع حول كونية الموسيقى في فترة تلتقي في تضاعيفها عدة تيارات موسيقية، أوروبية وزنجية أميركية

على الخشبة، في ديكور يوحي بسطح سفينة وبصالون يضم أوركسترا في الآن ذاته، يتبدى أندري دوسولييه، نافخ البوق، ليروي -بوصفه عازفا في الأوركسترا وشاهدا وصديقا- مولد الطفل المنسي، ونشأته ونضجه، وغرابته، وإيثاره الوحدة، وشغفه بالموسيقى حدّ الجنون.

ويروي في تواضع جمّ نبوغ صديقه، وينتشي بذكر ما عاشه بجانبِه انتشاءَه بأنسام البحر ورؤية جسر نيويورك حين يلوح في الأفق، ولا تؤدي الأوركسترا، بقيادة كريستوف كرافيرو، دور الموسيقى المصاحبة، بل هي في صميم الإخراج الذي نهض به دوسولييه نفسه، فهي تحتدّ حينا وتهدأ حينا آخر وكأنها ترجّع أصداء النص أو تمنح كلماتِه حياةً صوتية، خصوصا إيليو دي تانّا عازف البيانو، الذي يحاول أن يوحي للمتفرج بعبقرية نوفيتشنتو.

أما دوسولييه فقد تقمص دور الصديق الذي عاشر البطل طيلة ست سنوات على ظهر السفينة، فيروي بشكل يوحي أنه لا يعيش النص فقط، بل يعيش ما عاشه الأبطال، إذ يبدو وكأنه شهد تلك الفترة من عشرينات القرن الماضي وأساطيرها، أساطير السفن العابرة للمحيط الأطلسي حيث الحياة المرحة والموسيقى المترامية أنغامها في أرجاء السفن، فهو يحتفي بالشخصية قدر احتفائه بنمط عيش راق، ولا سيما أن هيئته وسيماءه “البريتيش” توحيان بذلك.

أحيانا يأتي صوته ناعما كحفيف أوراق الشجر، وأحيانا خفيفا مشوبا بسخرية حية، ليعبر عن الصداقة والوحدة، والتواضع والإعجاب، والفرح والأسى، في إطار السعي المحموم إلى الكمال الفني، ويهم بالنفخ على البوق ولا يفعل، بل يمضي في البحث عن أفضل الصيغ للتعبير عن عبقرية نوفيتشنتو، فيقول “نحن، كنا نعزف الموسيقى، أما هو فشيء آخر، كان يعزف شيئا لم يكن موجودا قبله، شيئا لا وجود له قبل أن يبدأ هو العزف”.

نص رائع حول كونية الموسيقى في فترة تلتقي في تضاعيفها عدة تيارات موسيقية، أوروبية وزنجية أميركية، اختار له باريكو كشخصية محورية عازفا يعشق الفن، ويعشق الحرية أيضا، ليوحي بأن بوسع المرء أن يعيش بمعزل عن عالم معياري مقولب، ولا سيما أن الأحداث تدور في مطلع القرن الماضي عند تصاعد القوميات، وتكاثر الحواجز التي باتت تفصل الشعوب والطبقات والأفراد بعضهم عن بعض.

والبطل نوفيتشنتو هو رمز للفنان العصامي الذي لا يخضع لقواعد ومدارس، فراح يمارس الخلق بحرية تامة، ويعيش حريته كما يهوى، فهو يمتنع عن النزول إلى الأرض في غدو السفينة ورواحها، لأنه يرفض أن تصيبه لوثة العالم، ويفضل أن يحافظ على نوع من براءة الطفولة، والنص في النهاية استعارة عن سعي الإنسان في البحث عن موقعه في هذا العالم.

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *