نقد المسرح النظير

يسعى المسرح النظير حسب الناقد بروس ولشر الى (تقليد النشاط البشري) دوافعه (اننا نعيش في زمن التناظرات) ويفرق في بحثه بين الواقع والخيال في عالم المسرح، ويبدي تحفظات عن آلياته ابرزها (انها غير ملائمة لاحتواء سلوكية الانسان، ويصعب التأكد من مواقعها داخل او خارج الحالة المطروحة) لاسيما في حالات الاستثناء، والذي غالبا ما يلجأ المسرح اليه، وتلغي الحد الفاصل بين الواقع والخيال الفني، أي بين النشاط البشري الفيزيقي وبين النشاط البشري الفني، كما يتضح اختلاف (الحدث الخارجي) الوقائعي عن الحدث المصنع في (منطقة ومكان الاداء) وهو مكان (الابداع)، ويتساءل ولشر عن (مكانة التخيل عند اللجوء الى ذبح حيوان!) على المنصة.

هناك طرائق طبقها مخرجون عالميون حددها النقد ضمن مصطلح (المسرح النظير) وهي اساليب (مثيرة للرعب والاضطراب) لدى المتلقين، في عام 1970 قام المخرج رافئيل اورتيز بذبح بعض الفئران على خشبة المسرح كجزء من العرض المسرحي الذي قدمه بعنوان (السماء تسقط) وهي مسرحية طقسية مضادة للحرب في فيتنام، ضمن مسرح (الاحتجاج) على (الاجتياح) الامريكي لتصفية الحركات الثورية اليسارية في العالم. كما تضمن عرض (مرمى النيران) للمخرج كريس بيردون مشهدا اطلق ممثل فيه النار فعلا على أحد ذراعيه! كما ثبت الممثل (سترلنك) خطافا في لحمه وتعلق به في فضاء المسرح! وفي مسرحية (الطقوس السرية) قام المخرج مرمان نيتشي بتقديم خراف مذبوحة منزوعة الاحشاء.. وفي منتصف الثمانينات قامت فرقة عالمية بذبح حصان ـ كجزء من عرض مسرحي ـ قدمته في مهرجان سانت اركانجيلو، ونتيجة لاحتجاج الجماهير تم حل الفرقة.

في عروض مسرحنا العراقي رصدت توجهات مماثلة واخرى مخففة تقترح ادراجها ضمن هذا اللون المسرحي، ولربما يتذكر المتلقي امثلة اخرى. في مطالع تسعينيات القرن الماضي، وفي مهرجان لمنتدى المسرح اقيم في البصرة، عرضت مسرحية (ثامن أيام الاسبوع) لعبد النبي الزيدي اخراج حيدر مكي ـ وهي مسرحية احتجاجية ـ قام ممثل بقطع رأس حمامة بيضاء، والقاها في باحة المنتدى ـ المكان المسرحي ـ ضمن مشهد تجري وقائعه في مقبرة ممهد لوأد انسان حي ـ ولد المشهد اذى نفسيا في المتلقي، مما دعا الناقد د. مجيد حميد في تعقيبه على العرض الى اصدار حكم نقدي مضاد للواقعة الدموية الفيزيقية، نتيجة استبشاع الجمهور واستهجانه للفعل. وفي (عرض آخر) بالبصرة وعرض في منتدى المسرح ببغداد ايضا تعرض الممثل الى الضرب بالاحذية! وسط استنكار الجمهور.

ويمكن الاستدلال ـ بحدود ـ على اشتغالات (مناظرة) للواقع في عروض مسرحنا منها استخدام اليات مثل الدراجات الهوائية والنارية والزوارق والات اللحيم ورش المبيدات الحشرية والتوابيت والنقالات الطبية (السديات) واسرة المنام، وتأثيث الفضاء المسرحي بالارائك والكراسي والمناضد والمكاتب كلوازم سينوغرافية، اضافة الى الات موسيقية كما البيانو والات عزف الفرق الشعبية والالات الغربية واستخدام مؤثرات شمية: حرق البخور والاعشاب العطارية، وفي مسرحية (النحيف والبدين) تم حرق كمية من اللحوم والشحم، وتوجيه رائحة الشواء نحو المكان ـ مائدة البدين.

في مسرحية (جسر الحديد) عرضت في نهاية السبعينيات بالبصرة ظهر حمار يتمشى على مسرح (قاعة التربية)! ضمن مشاهد تجري في قرية. وفي مسرحية اخرى عرضت في التسعينيات، تم غسل النصف الاعلى من بدن الممثل بالماء والصابون مع الدلك! التنشيف.. وبناء على تعليمات المخرج الفنان عبد الامير السماوي حلق شعر الممثل صالح البدري لتمثيل دور (المملوك) كي تكتب رسالة بحبر سري على جلدة رأسه في مسرحية (رأس المملوك جابر) لسعد الله ونوس ـ عرضت في اواسط السبعينيات ـ واسند الفنان الرائد عزيز الكعبي دور (الاعمى) الى ممثل اعمى.

في مقالة نشرت حديثا للاستاذ صبحي الخزاعي بعنوان (المسرح الذي نريد) عن تجربة الفنان العالمي جون كيج، من استنتاجات الكاتب دعوته (لهدم المسرح التقليدي) و (الواقعية القديمة) ودعوة المسرحيين العراقيين الى (عدم الركوع تحت وطأتها سنين اخرى قادمة) الا اني وجدت في بعض موجهات كيج مقاربات مع المسرح النظير منها (.. أريد ان انظر الى الحياة اليومية كأنها نوع من المسرح..) وبشأن التمثيل في الواقع يشير الى (ايجاد تجربة مسرحية تشبه الحياة..).

كما رصد النقاد في تجربته تأثيرات الحركة المستقبلية الايطالية باصرارها على (استخدام أصوات الحياة اليومية وحتى ضجيجها بوصفها اكثر تأثيرا من الاصوات التي تصدرها الالات الموسيقية..) المفارقة فنيا ان المسرح النظير لايمكن ان يتقيد بمحاكاة الحياة اليومية ذلك لأن النشاط اليومي (بطيء) بينما في المسرح تتم عملية (تكثيف) للطاقة اضافة الى (تكثيف الزمن) ايضا.

يؤكد بيتر بروك في تفريقه بين الفعل اليومي والادلاء ـ التمثيل (..اذا ما طلب من ممثل بفعل ما يقوم بفعله في حياته اليومية سيقوم بادائه في اغلب الحالات على خير وجه وهذا ينسحب على اغلب الانشطة من عمل الفخار ـ فعل بطيء ـ والى نشل الجيوب ـ فعل سريع..).

ويوجه بروك كلامه الى الممثلين (الا انه اذا افترضنا ان الايماءات اليومية اتوماتيكيا اكثر حقيقة من تلك التي تقومون بها في المسرحيات الغنائية او الباليه فاننا نكون مخطئين..).

وتفريقا بين الحالتين اورد المثال الطريف التالي: (فم الحقيقة) تمثال روماني حجري، تقول الاسطورة انه يعض كل من يكذب في اختبار عندما يدخل يده في فم التمثال! لنر ماذا فعل المسرح لتجسيد التمثال والفكرة، اكتفي بتصميم وجه التمثال فحسب من قماش خفيف مليء بالثقوب في مسرحية (اجازة في روما) وهي غنائية عن (صحافي) اعزب مفلس يتعرف على اميرة ثرية يطلب من مصوره التقاط صور لها يبيعها لصديقته، لكنه انتهى بالوقوع في حبها.

المسرح النظير قد يولد ايحاءً بالدهشة والصدم في حالات والالفة والجاذبية في حالات الا انه يبتعد عن الخيال، والمتخيل جوهر فن المسرح وغذاء الروح.

———————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – حميد عبد المجيد مال الله –  المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *