مَن يعيد الحياة الى مسرح بغداد؟ / ستار الناصر

لم يشعر المسرحي العراقي منذ الستينات وما بعدها بأزمة نص توفر له فرصة ارساء خطابه الإبداعي الشخصي فالترجمة؛ ترجمة النصوص المسرحية العالمية، تلك الفعالية الثقافية الرائعة، كانت على أشدها في تلك الأيام. كذلك وجود عدد غير قليل من كتاب المسرح العراقي كيوسف العاني وعادل كاظم ونور الدين فارس ومحي الدين زنكنة وغيرهم فضلا عن وصول نصوص مسرحية لكتاب عرب. فتوفرت نصوص هي من عيون الأدب المسرحي وانتهت حينها الحيرة في ايجاد نص للإخراج.
بيد ان المشكلة التي كانت تكمن وراء محدودية العروض في تلك الايام هي شحة دور العرض، فلم يكن وقتها سوى دور عرض متواضعة ، ولا تتجاوز اصابع اليد الواحدة .
وعلى الرغم من ذلك شهد المسرح العراقي عروضا ما زالت نكهتها وصداها لا يغادران ذاكرة الثقافة العراقية حتى يومنا هذا . فالفرقة القومية كانت تقدم عروضها على مسرحها الخاص، المسرح القومي الكائن في كرادة مريم، الذي ابتلعته توسعات “القائد الضرورة” فيما بعد وانتهى ولم نعد نسمع به. أما فرقة الصداقة فكانت تتخذ في تقديم عروضها قاعة كانت تقع ضمن بناية المركز الثقافي السوفيتي الكائن على شارع ابي نواس آنذاك. وكان لفرقة المسرح الشعبي مسرحا صغيرا لا يسع سوى ستين متفرجا لذلك عرف بمسرح الستين كرسي. وقد نشط فيه الشباب التجريبيون فقدموا اجمل العروض، ولمع من على هذا المسرح نجم الكثير من الفنانين منهم :- محمود ابو العباس ، ورضا ذياب ، وحكيم جاسم ، عبد الامير ناجي، اضافة إلى تجارب الراحل الكبير عوني كرومي.
اما فرقة المسرح الفني الحديث فكان لها مسرحها الخاص – مسرح بغداد – مراد سطورنا هذه – الكائن في احد فروع شارع السعدون قرب مطبعة الأديب، ولأن القائمين على ادارة هذا المسرح لم يجعلوا منه وقفا على عروض فرقتهم؛ فقد أقيمت فيه عروض مسرحية عدة لفرقة المسرح الشعبي وفرقة مسرح اليوم. وكان موسم هذا المسرح في العطلة الصيفية والربيعية، حيث كان يغص بالمتفرجين حتى انك لا تستطيع ان تجد مكانا لك او لعائلتك دون ان تحجز قبل مدة ليست بالقصيرة . وغالبا ما يكون الحجز صعبا بسبب شدة الاقبال على عروض هذه الفرق التي كانت تشكل ظاهرة ثقافية غاية في الروعة.
استقبل مسرح بغداد تجارب مخرجين كبار كسامي عبد الحميد وتجربته في اخراج مسرحيات يوسف العاني. وإبراهيم جلال، وجعفر علي، وجعفر السعدي ، وتجربة فاروق فياض الاخراجية الوحيدة. كما أبدع فيه الكثير من الممثلين والممثلات كالراحلتين زينب وزكية خليفة. كذلك الفنانة اقبال محمد علي. وخليل شوقي، ويوسف العاني، وعلي يس، وعبد الجبار عباس، وفارق فياض، وناهدة الرماح وغيرهم.
ان الذي لم يشاهد قاعة هذا المسرح ويتأمل حجمها المتواضع يعتقد من حديثنا عنها انها قاعة فخمة وكبيرة، لكن زيارة واحدة لها تجعلك تقف بإجلال واحترام لرواده المسرحيين وتتساءل كيف كان يمكنهم تقديم عروض مهمة كالتي نسمع عنها ونشاهد بعضها على اليوتيوب وتنالٍ الكثير من الثناء والإعجاب المتناهي على مسرح صغير مثل مسرح بغداد.
يقع هذا المسرح في زقاق من ازقة شارع السعدون قرب سينما النصر. هو في الاصل بناية كانت كنسية تركها القائمون عليها لصغرها. اختارتها ادارة فرقة المسرح الفني الحديث لتكون خشبة مسرح لهم ومقرا لإدارة فرقتهم. وقدمت من على المسرح أجمل العروض المسرحية التي بقيت في ذاكرة الناس تحفظ لها جمالها ومازالت تشكل تراثا ثقافيا رائعا عراقيا. ويمكن القول ان العد التنازلي لهذا المسرح بدأ أيام صعود الطاغية الى دفة الحكم ونشره الارهاب الثقافي الذي تسبب في تشريد أغلب أعضاء الفرقة وفنانيها ، حالهم كحال أغلب فناني الفرق الاهلية الذين هاجروا هربا من بطش الجلاد.
وعلى الرغم من انه قد شهد في السبعينيات ترميما وتوسيعا اشرفت عليهما فرقة المسرح الفني الحديث “وهي المالك الشرعي له” وصار بعدها يتسع لأكثر من ثلاثمائة وخمسين كرسيا، بعد ما كان يسع اقل من مائتين وخمسين كرسيا لكنه، اليوم هو مغلق تماما فقد رصت بوابته بالطابوق واختفت تلك اليافطة الجميلة التي كتب عليها “مسرح بغداد”، وكانت هذه اليافطة هدية من اهالي كربلاء تثمينا لجهود العاملين فيه.
يشهد المتابعون الذي حضروا تلك العروض التي قدمت على هذه الصرح الكبير بأنها كانت عروضا متقدمة في التقنية والأداء . ومن اهم هذه العروض مسرحية بيت برنالد البا للشاعر الاسباني لوركا والتي اخرجها الفنان القدير سامي عبد الحميد وفيه تجلت تجربة الفنان التشكيلي الرائع الراحل كاظم حيدر الذي غير شكل العرض التقليدي اذ جعل بيت برنالد البا على شكل قفص شيده وسط القاعة وأظهر من خلاله الممثلات وكأنهن طيور مسجونة. وهذا ما اراده لوركا من مسرحيته هذه. ولا ننسى عروضا مثل الخان وفيها ظهر الشهيد دريد ابراهيم الذي أعدمه الطاغية وكان أول أدواره على المسرح بعد تخرجه من اكاديمية الفنون الجميلة، وكذلك مسرحيات المفتاح والشريعة وأضواء على حياة يومية والرائعة التي لا تنسى القربان. وشهدت قاعة هذا المسرح كذلك حادثة الممثلة المعروفة ناهدة الرماح حين اصيبت بالعمى.
وكيف يغيب عن ذائقتنا عرض كرحلة الصحون الطائرة الذي ترجمه فيصل الياسري وأخرجه ابراهيم جلال، حيث تمت التمارين فيه وأصبح العرض جاهزا في أقل من اسبوعين ، وحين سألوه عن قصر المدة قال :”اني اتعامل مع ممثلين جاهزين”، هما سامي عبد الحميد الذي جسد أكثر من عشر شخصيات من شخوص العرض ، والثاني هو الراحل الكبير قاسم محمد الذي كان يرقص على المسرح وكأنه راقص باليه. ولا تغيب عن البال كذلك جمالية عرض مسرحية “السؤال” لمؤلفها الراحل محي الدين زنكنه، والتي أبدع فيها ممثلا الراحل الاستاذ اللغوي عبد الامير الورد، وقد قدمتها فرقة مسرح اليوم واما الحديث عن آخر العروض الجميلة التي قدمت من على خشبة هذا المسرح فكانت مسرحية الكفالة وهي من تأليف كريم السوداني واخراج المبدع سامي عبد الحميد ، يومها احدثت ضجة ولولا تدخل مخابرات السلطة بتساؤلاتها الفجة لاستمر العرض لأيام أخر.
أخيرا نعود لنتساءل, من يعيد الينا هذا الصرح الثقافي، مسرح بغداد؟، ليكون لنا، كما كان من قبل.
المصدر/ طريق الشعب
محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *