مهرجان قرطاج المسرحي الثامن عشر في تونس(3) استشفاف تفتّح مسرحاً عربياً جديداً

 

 

المصدر/ محمد سامي موقع الخشبة

تناولنا في الحلقتين السابقتين بعض العروض، وهنا نقارب أخرى.

ونتوقف هنا عند نقاط مستخلصة من عموم المهرجان:

[ ستربتيز

ستربتيز (نص مخلد راسم، فكرة واخراج علاء قحطان، اداء أحمد شرحي، ياسر قاسم، وسام عدنان، هند نزار وعامر نافع، موسيقى زيدون حسين ، مدير مسرح محمد سامي ، اشراف العام قحطان زغير ، انتاج فرقة مسرح بغداد، العراق).

على خشبة «الفن الرابع» التي ازدحمت بالجمهور، قدمت هذه المسرحية التي بدت وكأنها مرآة لما يجري في العراق، من صراعات دموية، ومذهبية، ودولية، من تفكك، وتقسيم، وتهجير، وقلق، وحيرة، وتناقض، بصورة قاسية، ومن خلال حوارات هي الاساس في هذا العمل.

عائلة مكونة من ثلاثة أبناء وفتاة ووالدهم تهرب من منزلها، كآلاف العائلات العراقية، تعاني ما يعاني الملايين من قهر، وموت، وتشرد، وضياع، وقلق، وخوف. هذه الحالات النفسية، عاشها كل فرد من هؤلاء تحت رعاية الوالد. لكن، وعلى الرغم من ان الأزمة قد وحدتهم، فإنها في المقابل اظهرت، اختلافهم، حول اسباب الحرب، وظواهرها وسياقاتها، وهمجيتها. (أولاً يخضع العراقيون لمثل هذه الخلافات)، كل وتحت اثقال العذاب اليومي، يحاول تحليل هذه الأزمة، من خلال رؤيته الخاصة. انه الكلام، يصبح في مثل هذه الأزمنة، اقنعة للعجز، وللرعب، والخلاص. هذا الاختلاف الذي يجري في مجاري العبارات والأفكار، يشكل صورة وان ملتبسة، حول اسباب هذه الحرب، التي بدأت، مع غزوة جورج بوش الابن، ولم تنتهِ بعد. لكن للكلام في مثل هذه الظروف، والتعابير، والسجالات، على «سلميتها» وتقاطعاتها، لا يؤدي سوى الى الكلام. اي الكلام المفتوح على لا نهائياته، ومحدودياته، اي إلى «سوء تفاهم» عبثي، وسط حروب عبثية، لم يعد يعرف أحد، لماذا استمرت على هذه الشراسة، والكراهية والقتل والدم.

ذلك ان المسألة قد تتعدى الشعب العراقي نفسه، الى العالم كله وتحديداً الى قوى خارجية، بأطماعها، ومصالحها، تمسك بزمام السلطة هناك. انها مشكلة تتعدى رد الافعال الانفعالية، او الاسئلة المحددة. هنا بالذات الطريق المحدود. هنا بالذات تمزق الكائن العراقي العاجز عن رد قدره. وهنا بالذات استغل المخرج العراقي، بشفافية قاطعة، ليس فقط على بشاعة الواقع، بل على ما يدور من يأس في تضاعيفه، وأشخاصه وناسه. الشخصيات، الذين حاولوا بجهد لا معقول مواجهة هذا الواقع، لكنهم، يبقون على هامشه؛ بل على منسحقاته، بلا حول ولا قوة.

فهذا الواقع المكتظ بالأقنعة، واشكال التنكر، والثورية، لا بد من ان يعمق النظر اليه، بما يشبهه أو يناقضه: التعري أمام الرعب. التعري الفكري، السياسي، الديني، المذهبي، الاستعماري، الاقتصادي، التهجيري، فالعراق تعرى من كل شيء. عار حتى القتل «ستربتيز» حفل تراجيدي، فقد فيه العراقي، كل ما يقيه، من مستلزمات عقلانية، ونفسية، ليبدو أمام مراياه، والعالم، عارياً من تاريخه وجغرافيته، وحضارته، وإنجازاته، وعروبته وثقافته.

المسرحية التي لقيت اقبالاً كبيراً، لقيت استحساناً من الحضور. فالحوار وان تخلله احياناً مباشرة، او افقية، عوضت عن ذلك حرارة في الأداء. واذا كانت المسرحية قوامها النص والمخرج والكاتب، الا انها لجأت الى مؤثرات موسيقية، مهمة، ساعدت على شحن المناخات بهذه التراجيديا. الممثلون ادوا تحت ادارة قحطان، بطريقة متجانسة، وان وقع بعضهم احياناً، في النبرة العالية، او الميلودرامية، أو ببعض خفوت في الصوت، او ارتباك في الحركة.

[ من عيون المسرح الإسباني

احتفالاً بذكرى رحيل الكاتب الاسباني الكبير ميغال سرفانتس الاربعمئة، صاحب الرائعة الروائية «دون كيشوت» قدمت الفرقة الاسبانية، لحظات مهمة من العصر الذهبي للمسرح، باختيار نصوص من خمسة مسرحيين كبار، هم لوب دي فيفا، كاليو روني دي لاباركا، وميغال سيرفانتس، اخراج هيلينا بريمانتا، وأداء كل من جيمس ديسانتا، جواكين نوتاريو، وبيبا بيدروش، ونوريا غارسيا.

حفل قراءة تواكبها الموسيقى، ينفذه اربعة فنانين، بطريقة درامية ممسرحة، لنصوص مختارة تعتبر من أكثر نصوص هؤلاء تعبيراً، ودلالة، في مؤلفاتهم. وتتنوع هذه النصوص، بأساليبها، وحيثياتها، ودلالاتها، تجسد بتنوع خصب في قراءات، عرفت، بنبراتها، وجوانياتها، واشاراتها، وأجسادها، ان تضعنا في مناخات مسرحية منتزعة من الكلمات والورق والكتب.. فمن «الحياة حلم»، و»الكالدي دي ريلاميا»، لـ «كاليدروني وطلب الجنان» للوبي دي فيفا، ودون كيشوت «السرفانتس، فهذه النصوص انما قد اختيرت لأنها ما زالت محتفظة بقيمتها العبثية، ومعانيها، ودلالاتها في عصرنا الحديث.

[ في عيون الجنة

«في عيون الجنة» (نص رشيد بن زيد، اخراج روود جيلان، اداء هيام عباس، فلسطين ـــــــ بلجيكا)، مونودراما، من شخصية نور، وهي مومس تروي حكايتها، في شمال افريقيا في عز الربيع العربي.

تسرد يومياتها (مثل «يوميات مجنون، لغوغول)، في ظل الأحداث التي نشأت في الربيع العربي، ومستتبعاته. على امتداد ساعة، تغوص الممثلة الفلسطينية هيام عباس، في تلك المتاهات، والحكايات، عبر لقاءاتها اليومية مع زبائنها المتعددي المهن والأجناس، من حاكم محلي، الى صحافي اميركي، الى زعيم ديني. تروي قصة أمها، المومس ايضاً، وما عانت من شراسة الرجال. وكذلك قصة صديقها سليمان، المثلي، المؤمن ايماناً كبيراً بالثورة.

وتخرج البطلة من مجال السرد، والمقابلات، والزبائن الى ساحات الميادين والشوارع، لتتكلم عن التظاهرات، التي ووجهت بالوحشية، والقمع، والدم، والهمجية.. وتلك اللحظات المعيشة، كأنها ماسورة بما يجري، وموضوعة على طرق وجدران مسدودة او مجهولة، وبين انتظار يكاد يكون اقرب الى اللانتظار.

صحيح ان عروض مهرجان قرطاج تنوعت، من «الحكواتي» بعده اعمال الى النصوص العارية، والى مواجهة الواقع بشراسته، وقسوته، والى اعمال تمتد من تونس الى العالم العربي، وابعد منه إلا ان شكسبير كان «الحاضر الأكبر»، وهذا بالذات ما كنا ننتظر من هذه التظاهرة التونسية الدولية.

واذا عرفنا، ان مناسبة ذكرى مرور 400 عام على رحيل شكسبير، لم يكن لها صدى ملموس في العالم العربي، سوى بعض مقالات مبعثرة او دراسات قليلة، فان مهرجان قرطاج، عوض عن هذا الخلل الكبير، لكن هذا الخلل في تعاطي المسرح العربي منذ الستينات حتى اليوم اصاب شكسبير كثيراً. فالمسرحيون العرب، قلّما اقتربوا من نصوص صاحب «هاملت» سوى في اعمال مجتزئة، او مقتبسة، أو في مسرحيات ترتبط بأوضاع انظمتهم الفاشية السابقة، مثل «ريتشارد الثالث» و»مكبث« أو «كورليوني».. أو بأعمال محدودة «روميو وجولييت»، «الملك لير»، «تاجر البندقية»، او «يوليوس قيصر» و»هاملت» حتى هذه الأعمال خضعت لاستيحاءات سياسية، بدلالاتها الزمنية، وقلّما قدمت بعض مسرحياته كاملة، هذا بالإضافة الى ضعف الترجمات، وقلّتها، ولا مهنيتها. فالمسرحيون العرب، وجلهم ايديولوجي، استهواهم بريشت، واورغانوته، وملحميته ولوركا.. كما اغرى مسرحيي الثلاثينات العرب موليير وابسن، وراسين. فبين نظريات غروتوفسكي (المسرح الفقير)، وانطونان ارطو (مسرح القسوة)، وستانسلافسكي، و»المسرح داخل المسرح» (بيراندلو) جافوا شكسبير (سوى بعض اعماله). حتى الغرب، اختار الأعمال الشهيرة لشكسبير، مثل «هملت»، و«مكبث» و»روميو وجولييت»، وأهمل أعمالاً اساسية مثل «تيمون الاثيني»، و»كورليوني» و»العاصفة»…

من هنا تأتي مبادرة مهرجان قرطاج كرد اعتبار عربي لهذا العبقري والمسرحي «أعظم شاعر عرفته البشرية».

هذا الاهتمام المشكور والمقدر بشكسبير تجلى بالندوة الشيقة التي عقدت على يومين، لتعبر بأصوات عربية وأجنبية مرموقة، مختلف اوجه كتاباته، ومسرحياته (لم تتطرق الى شعره المتجسد بـ «Sonnets»، وتفاسيره، واسرار حياته، وعصره وعلاقة نصوصه بإفريقيا، وتونس، والمغرب).

وقد سبق ان اشرنا الى هذه الندوات. لكن في مقابلها، كرّم المهرجان صاحب «مكبث« بأعمال مسرحية وأجنبية عديدة، لا سيما تونسية، وكان جيداً اختتام المهرجان بمسرحية «روميو وجولييت».

لكن على اهمية هذه المبادرة، فانه لم تقدم اي مسرحية كاملة لشكسبير، إذ تنوعت المقاربات بين اقتباسات جزئية، او اختيارية، على مساحات سينوغرافية، أو موسيقية، او كوريغرافية، أو كوميدية..

وبعد ايام من ايام قرطاج، عرفنا ان الحصاد وفير، بالكمية والنوع والانتشار والتوزيع، ففاعلياته تجاوزت المدينة تونس، ومسارحها، إلى المؤسسات التعليمية، والسجون، والتربوية، والجهوية. انتشار مهم، ومبادرة شجاعة، عرفت كيف تشارك في هذه المناسبة، أكبر عدد ممكن من الأمكنة والجغرافيا التونسية. فكأنه لم يكن عرساً محدوداً، بل ظاهرة احتفالية، عمّت وسائل الاعلام، والمناطق والشوارع. احتفالية فرح، وحب للحياة (والمسرح من فنون الحياة).

وإذا كان لنا من نقاط نستخلصها من العروض فيمكن حصرها بالتالي:

1 ـــــ تراجع المسرح «الشكلاني» تراجعاً ملحوظاً، عما كان عليه في المهرجانات السابقة، وصولاً إلى العربية. فكأن العروض، بكثيرها، ارتبطت برهبة ما يجري حولنا من مآس، وكوارث.

2 ـــــ تراجع المونودرامات التي كادت تطغى على المهرجانات العربية، بحيث اصبح بعض مجرد مونودرامات.

3 ـــــ التقشف في استخدام الجماليات المجانية، وهو طاول ايضاَ الحوارات، والعودة الى التراث بطريقة فولكلورية، أو ايديولوجية أو سياسية.

4 ـــــ تراجع «الأثار» البرشتية تماماً، كأن هذا المهرجان كان اعلاناً لنهاية عصر في المسرح العربي.

5 ــــــ تراجع مختلف التقنيات التي سادت ستينات القرن الماضي وحتى أول القرن الحادي والعشرين، من «مسرح فقير» إلى «مسرح قسوة»، نال التباساً في استخدام المؤثرات.

6 ـــــ بداية تكرّس مسرح «مختبر المواجهة»، اي المسرح الذي يستمد اشكالياته، ومواضيعه، وعناصره المسرحية من الحياة. بل كأنه اعلان عن تفتّح مسرح عربي منفتح على كل الآفاق، لكنه مكبٌ على واقعه، وأماكنه الساخنة، ودقائقه، من مستشفيات وسجون ونزوح وعنف. (نتذكر هنا «العنف» للجعايبي، و»مقام الغليان» للبسام، و»الشقف» لقنون، و»ستربتيز، لقحطان» وفي عيون الجنة). كأنما خرج المسرح العربي من فراره من الواقع الى التراث والتجريد، والجماليات المجانية، والكوريغرافيات المترفة الى ما هو جذري في الأحداث التي تحاصره اليوم.

7 ـــــ صحيح ان هذا الاختيار الذي اسميناه «مختبر المواجهة» ضروري، لكن المهرجان احتضن ايضاً ما هو «فانتازي، ومتقادم (الحكواتي ــــ عدة مسرحيات)، والاحتفالي، خارجاً من «الرسميات» السالفة، معانقاً لحظات من الاستمتاع الكلي والفردي، والكوميدي، والتهريجي، والفرح. انها جوانب المسرح، متوازنة في هذا المهرجان، لكن، ما توقفنا عنده انه اذا كان ما قبل الربيع العربي ليس مثل ما بعده، فيعني تحديداً… ان المسرح العربي ما زال يحمل في داخله انتظاراته الكبيرة.

8 ـــــ نقطة اخيرة: طغى العنصر الشبابي على ما عداه، فأظهر المهرجان طاقات عديدة واعدة، ومتفتحة، وخصوصاً في المسرح التونسي، الذي كانت عروضه اهم عروض المهرجان.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *