مهرجان أفينيون السبعون… تجريب بلا حدود

صبري الحافظ 

انطلقت  فعاليات مهرجان أفينيون المسرحي Festival d’Avignon في دورته السبعين تحت شعار عشق الاحتمالات أو الممكنات L’Amour des Possibles وهو عنوان دال لأنه ينطوي في تقديم مديره أوليفييه بي Oliveir Py على وعي بدور المسرح في الثورة المنشودة والمبتغاة للخروج بعالمنا من حالة الخلل السياسي والاجتماعي الرهيب الذي يعيشه.
ينطلق تقديم مدير مهرجان أفينيون أوليفييه بي من تأكيد أن «الفرد لا يستطيع أن ينهض بالثورة وحده، لأن التغيرات الكبيرة والثورات دائما ما تنجزها القوى الجمعية التي تحابيها رياح التاريخ. لكن كيف نحيا إن لم تهب تلك الرياح؟ كيف نعيش حينما تفتقد السياسة الأمل، وقد تغاضت عن المستقبل؟ كيف نعيش حينما تفقد الأفكار قيمتها، وحينما يتشتت المجتمع وينتابه الذعر، ويُجبر على الصمت؟ كيف نعيش حياة كريمة ولم تعد السياسة غير أكذوبة في يد السياسيين؟ وحينما تصبح الثورة مستحيلة يبقى لنا المسرح. حيث تتحين اليوتوبيا اللحظة المواتية، وتخترع قوى التغيير والتجديد المستقبل من جديد. لأن تواصل التعبير عن التوق للسلام والمساواة لا يضيع هباء. فحينما رأى هاملت استحالة الثورة، استدعى المسرح ليخلق ثورته المسرحية التي تؤكد أن كل الاحتمالات لاتزال ممكنة. ولهذا علينا أن نبلور تلك الرغبة في أيام مفتوحة على المستقبل”. 
 
ويوشك انفتاح أيام المهرجان على المستقبل بكل ممكناته أن يكون هو نغمة القرار في كثير من عروض مهرجان هذا العام، التي أسعدني الحظ بمشاهدتها منذ بداية أيام المهرجان. وأكدت أولى المسرحيات التي شاهدتها فيه وهي (أحزان Tristesses) للمسرحية الدنماركية آن سيسيل فانديليم Anne-Cecile Vandalem مقولة أوليفييه بي الافتتاحية تلك في تقديمه لمهرجان هذا العام. فقد جئت إليه من بريطانيا الغارقة في بلبال الخلل السياسي الذي أدى إليه تصويت الشعب البريطاني بأغلبية بسيطة للخروج من الاتحاد الأوروبي. وهو الخيار الذي لم يكن الداعون إليه يتصورون إمكانية حدوثه، ناهيك عن التخطيط لما عليهم فعله إذا ما نجح الاستفتاء في تحقيق ما دعوا الشعب البريطاني للتصويت له. 
فخلال الأيام العشرة التالية لتحقيق هذه النتيجة التي وصفها الكثيرون بالزلزال السياسي، استقال رئيس الوزراء البريطاني وحده، والذي دعا مع حكومته للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وكان عليه كأي سياسي يحترم نفسه ناهيك عن ناخبيه أن يستقيل لأنه لا يستطيع أن يقود السفينة في الاتجاه الذي حذر الشعب منه، ودعاهم للتصويت ضده، وإنما كل الزعماء السياسيون الذين دعوا، كل لأهدافه السياسية ومطامحه الشخصية، إلى التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي. وقد بدأ الأمر بأن طعن الرجل الثاني (مايكل جوف) في زعامة حمله الخروج من الاتحاد الأوروبي زعميه (بوريس جونسون) في ظهره، وأعلن عدم ثقته فيه. فدمر بذلك حملته لنيل زعامة حزب المحافظين، وترشح بدلا منه لهذا المنصب فتم استبعاده، لخيانته السافرة والتي لا يمكن الثقة فيه بعدها. وهكذا خرج أهم زعيمين لتلك الحملة عبر الخداع والخيانة إلى مزبلة التاريخ. وسرعان ما أعقبهما زعيمها الثالث (نايجيل فرج)، وهو رئيس حزب استقلال المملكة المتحدة المعروف بالحروف الأولى من اسمه UKIP، زاعما أنه حقق بذلك التصويت هدفه في استقلال المملكة المتحدة، وهو زعم مكذوب. ليس فقط لأنه لا يملك، كغيره من زعماء حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أي خطة يمكنها أن تحل مشاكل الواقع البريطاني بعد الخروج 
تدور المسرحية في جزيرة صغيرة في شمال الدنمارك اسمها نفسه يعني «الحزن Sadness»، بمعنى أن العنوان الذي يتحدث عن (الأحزان) ومشاعر الحزن العميق والكظيم في حالتنا هذه، هو أيضا اسم مكان
 
” من الاتحاد الأوروبي، ولكن ايضا لأنه في الواقع أدرك أنه وضع بفعله ذاك المسمار الأول في نعش المملكة المتحدة ذاتها؛ بعد إصرار كل من اسكتلندا وشمال إيرلندا، وقد صوتتا كلاهما بأغلبية كبيرة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، على الخروج من المملكة المتحدة، والتي يضعها راية لحزبه UKIP. 
ودون الدخول في تفاصيل هذا الخلل السياسي الذي تعاني منه بريطانيا ولا تزال لعام قادم على الأقل، وقد تعرضت أحزابها لضربات لشعبيتها وشرعيتها معَا، نتيجة لهذا التصويت الاحتجاجي في المحل الأول، علينا العودة للمسرحية الأولى التي شاهدتها. لأن مسرحية (أحزان) رغم وفودها من الدنمارك، واتسامها بكثير من سمات الأعمال الاسكندينافية عند بيرغمان وستريندبرغ وحتى إبسن والمترعة بتبكيت الذات والهموم الوجودية القاتمة، توشك أن تكون مسرحية كاشفة لما قام به حزب استقلال المملكة المتحدة UKIP من تزوير وتلاعب بآلام الناخبين، حيث تعري ما يدور في دهاليز أروقته الداخلية. إذ تدور المسرحية في جزيرة صغيرة في شمال الدنمارك اسمها نفسه يعني «الحزن Sadness»، بمعنى أن العنوان الذي يتحدث عن (الأحزان) ومشاعر الحزن العميق والكظيم في حالتنا هذه، هو أيضا اسم مكان. وتبدأ الأحداث بمشهد بين أفراد أسرة يلعب أفرادها لعبة معروفة تعتمد على تخمين الكلمات، ولكن لعبهم يكشف عن درجة عالية من التوتر بين أفرادها. وسرعان ما تصحو هذه الجزيرة الصغيرة التي تعيش فيها ثلاث أسر، ويتكون مجموع سكانها من ثمانية أفراد، على خبر انتحار «إدا هيجر»، زوجة عمدة الجزيرة، كار هيجر، وقد تدلى جسدها الملفوف بالعلم الدانماركي من سارية العلم فيها. وحينما يدور النقاش حول إنزال جسدها يخبرنا أحد سكان الجزيرة بأن ابنتها «مارثا» وهي زعيمة «حزب الصحوة الشعبية» قد طلبت عدم إنزالها حتى تجيء. ونعرف أن حزبها من أحزاب اليمين الأوروبي الشعبوية التي تغازل النزعة الشوفينية العنصرية الضيقة، التي أخذت تنتشر في شمال أوروبا في السنوات الأخيرة. 
وما أن يبدأ الجدل بين سكان الجزيرة حول ما يتوجب عمله، وخاصة أن «إدا» قد أوصت بحرق جثمانها وهو أمر جديد على الجزيرة وغريب عليها، فليس بها إمكانيات تحقيق مثل هذا العمل، والدخول في خلاف حول كيفيه احترام وصية المنتحر، أو تجاهلها لاستحالة تنفيذها، حتى نكتشف أن الجزيرة كلها تعاني من ضائقة اقتصادية خانقة نتيجة إغلاق المذبح بها. فقد كان المؤسسة الوحيدة في الجزيرة التي كان يعمل فيها كل المقيمين بها، بدءا من العمدة هيجر مديرا له، إلى مسؤول الجزارة فيه سورن باترسون، وأمين الصندوق جوزيف لارسون. فقد كانت حياة أفراد الجزيرة تعتمد على المجزر الذي نعرف أنه بدأ يحقق خسائر مما أدى إلى إغلاقه، وحرمان سكان الجزيرة من دخلهم الذي كان يوفر لهم بالكاد حياة كريمة. لكن ما أن تفد «مارثا» ويبدأ تنظيم الجنازة، والذي يصاحبه طلبها توقيع أفراد الجزيرة على وثيقة بيع حصة كل منهم في المجزر الذي تريد تحويله لاستوديو سينمائي لإنتاج أفلام دعائية للحزب، حتى تتكشف لنا حقائق ما دار ويدور في عالم هذه الجزيرة، وحتى تتحول تلك الجزيرة الصغيرة إلى استعارة للوضع الأوروبي الراهن برمته في عالم يزداد فيه الأغنياء غنى والفقراء فقراً. 
فنعرف أن ما أدى لإغلاق المجزر هو عملية استنزاف مستمرة لموارده، عبر تواطؤ كل من مديره هيجر وأمين صندوقه لارسون على تزوير الحسابات لصالح تمويل حزب مارثا هيجر وتدعيم زعامتها له. وأن حزبها في تحالف أو تواطؤ مع «رابطة الدفاع الدنماركية» ذات الميول النازية. وأن الحزبين معا يستغلان فقر الفقراء وغضبهم من وضعهم المتردي دوما في عالم يزاد فيه الأغنياء ثراء، من أجل تحقيق أحلام زعمائهما. وكلما تكشفت لأبناء الجزيرة حقيقة ما يدور، وكيف أن «مارثا» تريد مواصلة استغلالهم بعد انتزاع ملكية مبنى المجزر منهم، في أفلام الاستوديو الدعائية، حتى تتكشف لنا المزيد من الحقائق. وأولها أن انتحار «إدا» لم يكن سوى قتل مدبر قام به لارسون الغاضب من استغلاله في عمل دمر به حياته وحياة جيرانه، مما أجاب عن سؤال طفلة المسرحية الذي ظل معلقا: كيف استطاعت أن تصعد بجسدها الملتف بعلم الدنمارك إلى أعلى السارية؟ وهو سؤال طالع من جعبة طفل هانز كريستيان أندرسون الذي كشف أن الإمبراطور عارٍ. ثم تنفتح بوابة العنف والدمار، ويبدأ القتل الذي ينتهي بأغلب سكان الجزيرة قتلى مضمخين بدمائهم على خشبة المسرح، بينما تمضي «مارثا» بالوثيقة الذي جمعت عليها توقيعات كل سكان الجزيرة على تنازلهم عن حقهم في ملكية المجزر، كي تحوله إلى ستوديو لإنتاج أفلام البروبغندا اليمينية. بينما يرصد لنا الشريط الإخباري أعلى الشاشة صعود اليمين، وفوزه بالأغلبية في انتخابات عام 2018. 
وقد استطاعت آن سيسيل فانديليم أن تقدم عملا مسرحياً جيدا يستخدم أدوات السينما والمسرح في تجسيد موضوعها، فقد استخدمت الكاميرا التي كانت تصور المواقف مباشرة، وتعرضها على شاشة علوية في خلفية المشهد، في تقديم ما يدور داخل بيوت الجزيرة الثلاثة من ناحية، أو في التعبير عن دخائل الشخصيات والتركيز على مشاعرهم من خلال لقطاب «كلوز آب» المعروفة من ناحية أخرى. بينما تركت الباحة التي تطل عليها بيوت الجزيرة وكنيستها الصغيرة التي دارت فيها وقائع الجنازة التهكمية لتقديم ما يدور في المجال العام. وقد خلق هذا التجاور والسيولة جمالياته الحركية والبصرية، ودفع المشاهد للتفكير بشكل مستمر في الدلالات العريضة لما يدور أمامه. وهذا ما جعلني أشعر بأنها تكشف عما يدور في دهاليز أغلب أحزاب اليمين الأوروبي التي تتناسل في كل مكان. وبأن ما تقوله عن الدنمارك يوشك أن يكون طالعا من معمعة الخلل السياسي الذي يدور في بريطانيا عقب الاستفتاء الأخير. 
 
المسرح مرآة لخلل العالم وخيبته 
وما أن شاهدت في اليوم التالي مسرحية (من يغلطون لا يكونون على خطأ Ceux Qui Errent Ne Se Trompent Pas) حتى تأكدت لي قدرة المسرح الاستشرافية وكأنه زرقاء اليمامة التي تحذر قومها من عواقب القادم. وهي مسرحية قدمتها فرقة (مفترق الطرق Crossroad) وكتبها كيفين كايس Kevin Keiss مع مخرجتها مايللا بوسي Maelle Poesy واعتمدا في كتابتها أساسا على نص مهم لخوزيه ساراماغو هو (La Lucidite) كتبه لأهمية المفارقة عام 2004، لكنه يضيء لنا بشكل خطير ما دار في بريطانيا عام 2016، بل وأزعم من خلال ما تلقيته من مستويات المعنى المتعددة فيه في هذا العرض الجميل أنه تنبأ بالكثير مما دار منذ ذلك الوقت، لا في أوروبا وحدها ولكن في كثير من بقاع عالمنا المعاصر، وهو الأمر الذي سنتأكد منه بعد عرض سريع للمسرحية. وتبدأ المسرحية في لجنة من لجان الاقتراع في انتخابات عامة، كتلك التي تدور عادة في البلاد الأوروبية. يستعد فيها أعضاء اللجنة ويفتحونها في الموعد المحدد في الثامنة صباحا، وينتظرون، ولكن لا يفد إليها أي من الناخبين حتى الواحدة والنصف ظهرا، حيث يفد ناخب واحد. ويتعلل بعض أعضاء اللجنة أو من يتصلون به من رؤسائهم بالمطر الغزير الذي أغرق العاصمة، وربما حال بين الناخبين والاقتراع، فقد كان اليوم شديد المطر، وإن كان المطر لا يمنع الناس عادة من مواصلة أعمالهم في أوروبا. ولكن المطر الذي يصفه بعض أعضاء اللجنة في المسرحية بأنه سيول أو حوائط من المطر، يتحول بالتدريج، مع تصاعده، بعد ذلك طوال عملية الفرز وما أعقبها من جدل، في كريشيندو دال طوال المسرحية إلى نوع من الاستعارة. 
وما أن ينتهي موعد الاقتراع، وننتقل مع اللجنة إلى قاعة فرز الأصوات حتى تتكشف الانتخابات عن زلزال سياسي، لأن 80% من الناخبين على امتداد البلد كله قد أعادوا أوراقا 
المطر الذي يصفه بعض أعضاء اللجنة في المسرحية بأنه سيول أو حوائط من المطر، يتحول بالتدريج، مع تصاعده، بعد ذلك طوال عملية الفرز وما أعقبها من جدل، في كريشيندو دال طوال المسرحية إلى نوع من الاستعارة
 
” بيضاء؛ وهو أمر أشد قوة وفاعلية ودلالة من مجرد مقاطعة الانتخابات. لأنه يحمل رسالة إيجابية، أم تراها سلبية، واضحة؛ لا تخطئ المؤسسة السياسية دلالاتها، وإن حاولت التعامي عنها. لكن ما يعزز درامية المسرحية هو هذا الارتباك الذي انتاب المؤسسة السياسية وأزعجها، والذي استغرقت تفاصيله جل أحداث المسرحية. ومما أرهف استمتاعي بالعمل أنني أحسست وكأنني أشاهد على المسرح تقطيرا لما تركته ورائي في بريطانيا. وقد تحول هذا الكابوس التصويتي الأبيض، أو الذي يدعوه البعض في المسرحية بالطاعون الأبيض إلى نوع جديد من (العمى) الجمعي الذي جسدته رواية جميلة أخرى لساراماجو تحمل هذا العنوان. ولا تعرف المؤسسة السياسية كيف تتعامل مع هذا الموقف الجديد، وقد انتقل المشهد الآن بعد انتهاء الفرز إلى أروقتها الداخلية. وقد بدأت في التخبط والارتباك، وأخذت الاتهامات والاتهامات المضادة تتطاير في غرف الاجتماعات، مع تطاير رزاز المطر وضبابه. فأن تكون هناك بعض الأوراق البيضاء، فإن هذا يعتبر بسهولة نوعا من الخطأ. ولكن لا يمكن أن يكون 80% من الناخبين على خطأ وعلى امتداد الوطن كله، وهذه هي دلالة العنوان الذي أفضل ترجمته (إذا أخطأ الجميع فإنهم لا يكونون على خطأ). 
ومع تصاعد التخبط السياسي، وهرب بعض الزعماء السياسيين يتصاعد كريشندو المطر وتشارك حوائطه في تعميق العزلة حول الجميع. ويصبح المطر استعارة مسرحية تتسم بالسيولة وتعدد الدلالات على الموقف الذي يزداد أمامنا تعقيدا؛ وقد امتلأت به خشبة المسرح، التي تحولت بالتدريج إلى مخاضة من الماء، وقد تم تجهيزها بحيث تحولت إلى حوض واسع امتلأ تدريجيا بالماء تتخبط فيه الشخصيات، ويتطاير رزاز تخبطها فيه كي يصيب الجمهور، وكأنه يقول له إنه جزء من الموضوع المطروح، وليس مجرد مشاهد سلبي له. فإذا كانت نتيجة الانتخابات تنزع الشرعية عن المؤسسة السياسية التي تقاوم نتيجتها، وتبحث عن مبررات لما جرى بعيدا عن رسالته الواضحة بأن الجمهور قد فقد الثقة في اللعبة كلها، وأنه لا يريد مواصلة إضفاء الشرعية على مؤسسة نخرها الخلل والفساد حتى العظم؛ فإنها تكشف بهذا الرفض عن وجهها القبيح حينما تبدأ في استجواب الناخبين واستخدام آلة عنف السلطة ضدهم. وكان ممثلهم هو هذا الناخب الوحيد الذي هلّ ظهرا على لجنة العاصمة التي بدأنا بها المسرحية، في نوع من إغلاق دائرة التخبط والعنف وفقدان الشرعية. 
 
مرثية تحذيرية للسلام الموءود 
أما آخر العروض التي أود تناولها هنا لأنها تتصل إلى حد ما بموضوع الخلل في عالمنا المعاصر، وتعد في الوقت نفسه أحد أعمال محور مهرجان هذا العام الرئيسي وهو «نظرة على الشرق الأوسط» فهي عرض (اسحق رابين: وقائع اغتيال Yitzhak Rabin: Chronique d’un Assassinat) لعاموس جيتاي Amos Gitai والذي جاء إلى مهرجان هذا العام من حيفا. وقد استضافه المهرجان، لليلة واحدة فقط، في أهم فضاءاته، ألا وهي ساحة الشرف في القصر البابوي، وأكبرها حيث يتجاوز عدد الجمهور فيها الألفي مشاهد. وهو عرض كما يقول عنوانه يتناول عملية اغتيال اسحق رابين، رئيس وزراء دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، في 4 نوفمبر عام 1995. وقد سبق لمخرج العرض أن أخرج العام الماضي فيلما بعنوان (اليوم الأخير لإسحق رابين). أما العرض الذي قدمه هنا في أفينيون، فإنه يقدم فيه تنويعا آخر على فيلمه ذاك، ولكن وفق قواعد المسرح وجمالياته الفضاء الرحب المغايرة. وقد لجأ هنا إلى تجنب أي محاولة للتجسيد الدرامي لما جرى على خشبة المسرح، وإنما لجأ إلى البساطة وجماليات الحد الأدنى من الحركة بالصورة التي استحال معها العرض إلى قراءة درامية وحوارية معا. 
حيث يعتمد العرض على مذكرات زوجته، ليا رابين، التي روت فيها وقائع اليوم الأخير في حياته بالتفصيل، وقد وزع النص على ممثلتين تقرأ كل منهما مقطعا منه بالتتالي، ومعهما عازفتان تعزف إحداهما على التشيللو والأخرى على البيانو. وبالإضافة إلى النسوة الأربع هناك كورس من 16 رجلا يقوم بالحركة الكاشفة عن التخبط أحيانا وبالتراتيل الجنائزية التي ترثيه أحيانا أخرى. بينما استخدم العرض عددا من لقطات الأفلام الوثائقية التي تسجل تزعم بنيامين نتانياهو عملية التحريض على قتله، بعد توقيعه لاتفاق أوسلو المشهور أو المشؤوم، ووقائع مظاهرة السلام وأحداث قتله وقد تم عرضها على حائط القصر البابوي المرتفع المهيب. وقد كشف العرض عن حقيقة أن الاستيطان الصهيوني في فلسطين رافض للسلام من حيث الجوهر. وأن السلام عنده ضد مبادئ المشروع الصهيوني نفسه، والذي يمثله بحق عتاة المتشددين، وعلى رأسهم نتنياهو وأمثاله. لكن ما جعل هذه الرسالة المهمة حول حقيقة المشروع الصهيوني مؤثرة وفاعلة هو اهتمام عاموس جيتاي بالتوقيت والإيقاع وجماليات العرض. فقد كانت إحدى الممثلتين ترتدي ثوبا أحمر (لون الدم) والأخرى ثوبا أسود (لون الحداد) وهو الأمر الذي تكرر مع العازفتين حيث ارتدت عازفة البيانو ثوبا أحمر، بينما ارتدت عازفة التشيللو الذي جسد النواح على القتيل ثوبا أسود. وقد اهتم العرض كذلك بجماليات الحركة، وبطريقة استخدام تحركات الكورس كي تعزز المتعة البصرية الرسالة الفكرية للعمل. 
ولايزال في جعبة المهرجان الكثير، وخاصة في محوره الخاص بمسرح الشرق الأوسط سنعود له في مقال قادم. 
 
 
تداعيات
 
مع أن مسرحية “من يغلطون لا يكونون دائما على خطأ” استدعت في داخلي الكثير من أصداء العنف الذي يتخبط فيه العالم العربي بعد ثورات الربيع العربي، التي توشك أن تكون نوعا من إعادة أوراق الانتخابات البيضاء التي لا تمنح أيا من الحكام ما يزعمونه من الشرعية، ومع ذلك مازالوا يحكمون بالعنف والدم؛ فإن أكثر المسرحيات التي شاهدتها حتى الآن تجسيدا للعنف الناجم عن خلل العالم هي مسرحية الإسبانية أنجيليكا ليديل Angelica Liddell المعنونة (ماذا تراني أفعل بهذا السيف Que Hare Yo Con Esta Espada). لأنها مسرحية تنتمي إلى ما يمكن دعوته بالمسرح العضوي الذي يستخدم لغة الجسد، تربط بين أحداث العنف التي راج ضحيتها أكثر من مئة شخص في تفجيرات باريس في نوفمبر الماضي، وبين ما قام به التلميذ الياباني إيساي ساجاوا الذي قتل زملاءه في الصف وأخذ في أكل أجسادهم، تجسيدا لأعلى درجات العنف في أكل لحوم البشر. وكأنها تريد من خلال تركيزها على تصاعد العنف الدموي الذي تمتد خيوطه من طوكيو إلى باريس أن تكشف لنا عن وجود خيوط تصل بين تجليات العنف المختلفة في العالم. وأن ثمة خللا بنيويا في عالمنا أدى إلى تراجع القيم الفاضلة من الحق والعدل والخير، وصعود قيم الجشع والظلم والقهر والدمار.
————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – العربي الجديد

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *