مقارنة بين مسرحيتي الأشباح والبجعة لأبسن وستنبيرغ

صباح هرمز 

1-2

اذا كانت مسرحية البجعة، قد كتبت عام 1907، فان مسرحية الأشباح، كتبها أبسن عام 1881، أي قبل البجعة بستة وعشرين عاما. وكلتا المسرحيتين يدور موضوعها حول السقوط في أحضان الرذيلة. ففي الأشباح الأب مع الخادمة، وانتقال هذه اللوثة الى الابن، وفي البجعة الأم مع صهرها.

وعلى الرغم من أن الرذيلة في البجعة، أقوى من الأشباح، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لممارستها من قبل شخصين، تحرم عليهما هذه العلاقة،  وقوتها تظهر في هذا الجانب فقط الذي لا يخلو من المراوغة والتلاعب بالمشاعر ودغدغة العواطف، فان هذه القوة في الأشباح، تتسم بمصداقية أكثر، لنأيها عن غلو سترندبرج في ربط العلاقات. وتصويرها من قبل أبسن، اتساقا والنهج الذي يتبعه  في مسرحياته الأخرى، ألا وهو الأسلوب الاسترجاعي، هذا الأسلوب الذي يعيد الأم والقس الى ماضي الأب، عبر الرذيلة التي يمارسها الابن ( الآن)، أي ظهور صورة  الأب في ابنه.  

يقول عبدالله عبدالحافظ بهذا الخصوص: وقد وضع أبسن هذا الصراع في اطار فني رائع اعتمد فيه سواء في تسلسل الأحداث أو المناظر على الطريقة الاسترجاعية (6).  

رجينا:أوزفولد! أجننت! اتركني!

مسز الفنج:( تجفل في فزع) آه!

ماندرز: (غاضبا) ما الذي يحدث يا مسز؟  ما هذا؟

مسز الفنج: (بصوت أجش) الأشباح. الاثنان في المشتل- يعودان! 

هذه الواقعة هي ذاتها  التي حدثت عندما كان الكابتن الفنج يغازل خادمته (والدة رجينا). كما أن الأب في الأشباح، يأتي ذكره،( بالرغم من عدم ظهوره)، على لسان  الشخصيات على امتداد المسرحية، محتلا مساحة لابأس بها، وموقعا مؤثرا لا، وبل فاعلا وجوهريا في نمو وتطور أحداث المسرحية، بعكس الأب في البجعة، فقد ترك سترندبرغ هذين الدورين، ( احتلال المساحة، والموقع المؤثر للأم).

كما يبدو لي ثمة تناص بين الأشباح والبجعة، وأن تأثيرات الأولى واضحة في الثانية، وتأتي أولى هذه التأثيرات في حصر شخصيات البجعة بخمس مثل الأشباح. واذا كان قد أجرى سترندبرغ من تغيير في مسرحيته، مقارنة بالأشباح، فان هذا التغيير لم يتعد حدود الشخصيات، وذلك بالاستعانة بشخصيتي الصهر والابنة، بدلا عن شخصيتي القس ماندرز والنجار أنجستراند. ليلعب شخصية الصهر الدور الذي لعبه الأب  في الأشباح مع الخادمة جوانا، وهو مع أم زوجته. واضافة الابنة في البجعة، لم يأت بجديد، وجاء بسبب ايجاد المسوغ لاقامة الصهر في منزل الأم، وبالتالي ربط علاقة معها. وأقول لم يأت بشيء جديد، ذلك أن دورها لم يقتصر أكثر من شكواها على تصرفات والدتها، واكتشاف خيانة والدتها لها مع زوجها، وهذان الأمران، أداهما الابن كذلك، ولكن ليس كشقيقته  متأخرا، وأنما رغم المرض الذي يعاني منه، منذ صغره، من بداية المسرحية. وهذا يعني أن اضافة هذه الشخصية، لم تأت الا تابعا لزوجها.

أما الاختلاف الجوهري الذي أجراه سترندبرغ  على شخصية الخادمة في مسرحيته عن مسرحية أبسن، في ظهورها بمظهر المربية العجوز، وليس اللاهثة وراء نزواتها، جعلها أقرب الى شخصية القس ماندرز في الأشباح، وهي تبدي حرصها واهتمامها بصحة وسلامة الابن والابنة، وتفضح تقصير الأم تجاههما وتجاه زوجها، مذكرة الأم بين حين وآخر بماضيها الكالح معهم. ولكنها، بعكس القس تغادر المنزل قبل نهاية المشهد الأول، وغادره القس قبل نهاية المسرحية بقليل. ولكن رغم قصر دورها، فقد استطاع المؤلف، أن يمنحها التأثير الذي لعبه القس في الأشباح.

وبقدر ما استطاع الصهر أن يلعب الدور الذي لعبه الأب في الأشباح، بنفس القدر لم يستطع أن يلعب دور الابن في نفس المسرحية، ذلك أنه مثل الأب، كان غرضه خسيسا، بينما غرض الابن نبيل. والأغراض النبيلة، كما يقول غوتيه، لا تؤخذ بالوسائل الخسيسة. لذا فقد أناط سترندبرغ دور الأب بالأشباح للصهر، ودور الابن في نفس المسرحية للابن (فريدريك). ولعل قول الأم لصهرها:( لكم تشبه الآن زوجي، وأنت تجلس على كرسيه الهزاز)، أدل نموذج على ذلك، بينما تأتي هذه الجملة، أو ما يقاربها على لسان القس ماندرز وهو يخاطب مسز الفنج، ردا على قول أوزفولد، عثوره على غليون والده:( عندما ظهر أوزفولد في المدخل والغليون في فمه بدا لي وكأن والده عاد الى الحياة من جديد). وكلتا الجملتين، جملة الأم في البجعة، وجملة القس في الأشباح، يستحضران ماضي الأب في صورة الابن والصهر، أي أن كليهما يسيران على خطاه الآن، في هذه اللحظة.  

ومثلما أحدث ستريندبرغ، تغيرا جذريا في شخصية الخادمة، كذلك فقد أحدث نفس التغير في شخصية الأم، من رزينة وهادئة وحكيمة في الأشباح، الى ماكرة ومتهورة وخائنة في البجعة. وجعلها أقرب في نرجسيتها، واستبدادها برأيها، الى شخصية (هيدا) في مسرحية (هيدا جابلر) لأبسن. وهي بعد أن تبلغ درجة اليأس، تطلب من ابنتها أن  تعيش معها ومع شقيقها كخادمة، ويعد هذا الانحدار السريع والمباغت من برجها العالي،  بمثابة انتحار هيدا، أن لم يكن أسوأ منه، بعد انسداد كل الأبواب بوجهها.

وليس من باب الصدفة، أن تبدأ كلتا المسرحيتين بجو عاصف وومطر. وتوحيان من خلال جوهما العاصف والممطر الى نفس المعنى. فاذا كان في الأشباح، توحي جملة رجينا: ( أنه مطر شيطاني لعين)، الى موقفها السلبي من زوج أمها ( أنجستراند)، ولا تطيق رؤيته، لما يرافقه من شر. فان جملة:( أغلقي الباب رجاء، من الذي يعزف الموسيقى؟) التي تلفظها الأم في البجعة، توحي هي الأخرى الى موقفها السلبي من ابنها، ولا تطيق رؤيته. ليعمد المؤلفان هنا الى التعبير عن نزعة  الشخصيات من المعنى الكامن وراء الكلمات. فهدف رجينا من ايقاف أنجستراند، حيث هو، ليس لتساقط المطر منه على أرضية الغرفة، وانما لعدم ازعاج أوزفولد، لايقاظه من نومه، وهو يحدث صوتا نشازا بقدمه العرجاء، وهذا الصوت النشاز يوازي صوت الموسيقى الذي تسمعه الأم في البجعة، الصادرة من عزف الابن، والمنبعثة من رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة التي تكرهها، لا لأنها قد حرمتها على ابنها وابنتها فحسب، وانما أيضا في نهاية المسرحية، تختنق برائحة الكربونيك والأغصان المحروقة. 

وتمتد هذه المقاربة الى اصابة كلا الابنين، في الأشباح والبجعة بلوثة الأب، وليس من باب المصادفة أيضا، مثل بداية المسرحيتين بجو عاصف وممطر، أن يعاني كلاهما من هذا المرض، بعد عودتهما من الخارج. فردريك نادبا حظه العاثر الذي بفعل الخلافات العميقة بين أبيه وأمه، ساقه هذا الحظ الى مربية، يرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى الدعارة، ليشاهد هناك كل شيء بأم عينيه. وأوزفولد مثل فردريك، بعد عودته من باريس، يشكو من نوبة صداع في رأسه. 

فردريك: أنا لم أرضع أبدا من حليب الأم، كنت بعهدة احدى المربيات، وكان علي أن أرضع من قنينة. وحينما كبرت قليلا، صرت أرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى فيه الدعارة، حيث رأيت مشاهد حافلة بالأسرار يستبيحها للصغار مربو الكلاب فقط. . .

أوزفولد: بعد زيارتي الأخيرة هنا وعودتي ثانية الى باريس بفترة قليلة – عندئذ بدأت أشعر بآلام غاية في العنف في رأسي – غالبا في مؤخرة رأسي، على ما يبدو، كما لو أن حلقة حديدية محكمة قد ثبتت بمسمار حول عنقي وفوقه تماما.

ونتيجة الخوف الذي يقع فيه أوزفولد، جراء تحذيره الطبيب من مواجهته للنوبة مرة ثانية، لأنها ستؤدي الى نهايته، يفضي به هذا الخوف الى الجنون. وفردريك لا يقل جنونا عن جنون أوزفولد، ولكن لافساح أبسن مساحة أوسع لحركة أوزفولد، قياسا بحركة فردريك المحدودة، حدا لأن تبرز هذه العاهة لدى الأول أكثر من الثاني. وعلى الرغم من ذلك، فانها تظهر من بداية المسرحية لدى  فردريك، ويتأخر ظهورها لدى أوزفولد.

 يتبع

—————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – المدى

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *