مفهوم الصدمة الخلاقة على خشبة المسرح

مفهوم الصدمة الخلاقة على خشبة المسرح

دراسة

د. هاني حجاج

قدرة الجمهور على الاستيعاب أمام امكانيات المجتمع المسرحي   

لم يحظ المخرج المرموق (أندريه ميخالوفج) بالمكانة التي يستحقها في المسارح السوفيتية، ولا بالتقدير اللازم لأعماله، بالرغم من إخراجه مسرحية عظيمة مثل (أصدقاء قدامى) لماليكون بمشاهد حب حارة بين (شورا) و(فولاديا) وكان المنظر الواحد عبارة عن حشد لمشاهد بالغة الأهمية، بلغ بعضها الذروة في الناحية التمثيلية. وقصد المقال: لماذا يحدث أن إنتاجاً مفلساً على خشبة المسرح يعتمد على تحقيق قيم جمالية عالية، لكن الناتج يترنح ما بين النجاح العظيم لعناصر أخرى هامشية أو الإخفاق العظيم للمبدع الأصلي؟ يحدث هذا كثيراً في الواقع وكل يوم على خشبة المسرح عند اتصال العمل بها مع الحياة الحقيقية، وعلى سبيل المثال أنظر كيف كان مصير مسرحيات الفنان الراحل سعيد صالح التي حاول أن يقدم فيها نقده السياسي. كان هذا قبل ظهور تجارب المحدثين الجدد حيث المسرح المعاصر لا يمكن بأي شكل أن يكون مهتماً بعرض صور الحياة الحقيقية على المسرح كهدف وحيد. المشاهد، في باطنه، يطلب التسلية أولاً، ويشعر بالضجر الشديد عندما يرى وهم الحياة الفعلية على خشبة المسرح.

   المشاهد على مرور الوقت صار أكثر عرضة للملل والتشكك في المعروض، مع انتشار النقد الشعبي وكسر الحواجز بالمفهوم البريختي وما فوقه، هنا أصبحت مهمة المبدع أكثر صعوبة وعليه أن يكسي الوهم وهماً ليجعله مقبولاً وقابلاً للتصديق! هذا التزلزل يحدث ببطء، ولكن بشكل غير قابل للارتداد ولا يمكن منعه، في مكونات المعالم الأساسية للفن الدرامي بوجه عام، وتجاهله عبثي وسيجعل عملنا على المسرح والفن التمثيلي كله هباء. أنظر الإقبال الكبير على قراءة روايات جديدة بمضامين مباشرة في عوالم وهمية، وتجمهر القراء في ندوات ومسارح تستقطب أعداداً كبيرة من المستمعين لقراءات يتلوها شعر أن مجهولين لم يكن الواحد منهم ليحلم بنشر قصيدته في باب القراء بمجلة حكومية مغمورة؛ فكيف يتدافع آلاف الناس لشراء تذاكر كي يستمعوا أو يشاهدوا شخص واحد لا تاريخ له يقرأ عليهم كلامه لعدة ساعات؟

   إن قدرة المجتمع على إنتاج الثقافة هي أهم خاصية تميز مجموعة عن باقي المخلوقات، وهو إذ يضمن قيم هذه الثقافة في محتويات سمعية وبصرية يعززها ويغنيها، كما ولابد يلجأ للرمز مهما بلغ من وضوح ومباشرة، فمبدأ الرمزية حتمي، والرمز من الناحية السيميولوجية هو تلك العلاقة التي تجمع بين ثنائية المعنى (الدال) و(المدلول) على أساس اعتباطي، أي على أساس ما اتفقت عليه جماعة اجتماعية ما، وهو القيمة الاصطلاحية التي تنشأ من ربط الشيء بمعناه الاجتماعي والثقافي، كربط المفتاح بالفرج، والميزان بالعدالة، والشوكة بالشيطان. وبهذا يكون الرمز هو ذلك المقياس الذي يحدد معاني الأشياء من خلال ربطها بدلالة معينة، أي من خلال ربط سلوك (الدال) حسب ملاحظته بالأساس الخفي لهذا السلوك (المدلول).

   المشكلة الأولى التي تقابل فرق مسرح الشارع هي أن الجمهور ليس ملتزم حيالهم بأي شيء، فبينما يشارك جمهور خشبة المسرح طقوس العرض بالصمت والمشاهدة، بمقدور المشاهد (العابر) أن يغادر في هدوء وفي الحال، على أن المسرح التقليدي كذلك بدأ يحمل في طيات عمليات التجريب عوامل النبذ. عندما كان جو توفستونونكوف يعمل مع كروكي على إخراج مسرحية (الثعلب والعنب)، بدءا العمل مع قناعة تامة أن جماهير النظارة لن ترحب بتمثيلية فيها خمسة ممثلين فقط يتبادلون الحديث لمدة ثلاث ساعات، ثم لا يحدث شيء آخر على خشبة المسرح. لقد شعرا آنذاك أنهما يؤديان العمل لنفسيهما أكثر مما يؤديانه للجمهور، لكن الإنتاج كان مُرضياً فامتلأت المقاعد عن آخرها. ويعلق نونكوف: “حين أعدت النظر بما أخرجناه في الماضي أدركت أن فيما أوليناه اهتماما وتقديرا كبيرين للاحتمالات المبدئية على أمل خلق وهم للحياة الحقيقية قادنا إلى الإخفاق، وأن نجاحنا الحقيقي لم يتم إلا حين تجنبنا ذلك، وقد بقى ذلك النجاح حياً مستمراً حتى الآن، وكان ما عرض آنذاك يعرض الآن لأول ليلة.” إنه يعتبر أن صدق المشاعر واحد من المظاهر الرئيسية للنماذج المعاصرة للمسرح، وأن الفن الذي يحتمل أن يكون صادقاً في طريقه إلى الانحسار، وأن معظم طرقه سوف تبور، وأن مسرحاً من طراز مختلف دعامته الصدق ينبثق.. صدق مبدع يتطلب خلق معاني أكيدة محددة واضحة بقدر الإمكان لا تحمل من الأكاذيب إلا أقل قدر، وبمثل ذلك السبيل وحده يصبح كل شيء على المسرح جلياً واضحاً.

بواعث العملية الفنية بين فشل وفشل أكبر ونجاح مجيد   

إن الخوف من الفشل خلق طريقة جريفث في الإنقاذ في اللحظة الأخيرة، لقد كان هناك ممثل حديث العهد بالمسرح وبالوقوف أمام الكاميرات، فضلا عن ذلك حاجته الماسة للنقود، هذا الممثل هو ديفيد رول جريفث الذي جرّب كل شيء حتى التأليف المسرحي ولكنه فشل؛ فامتهن وظائف صغيرة تافهة تحت اسم مستعار لأنه ادخر اسمه الحقيقي لليوم الذي سيحقق فيه النجاح المنشود الذي يؤمن أنه قادر على الوصول إليه، وتحت اسم لورنس هاتف أدين بورتر في ستوديو أديسون بنيويورك وقدم له نص (توسكا) المقتبس عن مسرحية (ساردو) ذائعة الصيت، لكن بوتر رفض النص وعرض عليه القيام ببطولة فيلم (إنقاذ من عش النسر) الذي كان يعد له، وفي هذا الوقت كان الممثل المسرحي ينظر إلى السينما باستعلاء وكانوا يعتبرون الوقوف أمام الكاميرا مسألة حقيرة، لكن جريفث كان متزوجاً وعلى شفا أن يتسول، لذلك قبل بالعرض حتى يحصل على أجر قدره خمس دولارات يومياً، وبعد أن قام بتمثيل عدة أفلام طلب منه مدير شركة بيوجراف أن يخرج فيلما، فارتعب من فكرة الإخفاق، وأيضاً ترك مبلغ خمس دولارات المضمونة من التمثيل، فوعده مدير الشركة بالعودة إلى التمثيل إذا وفق في إخراجه فاقتنع وبدأ في العمل في فيلمه الأول (مغامرات دولي) ولم يعد إلى التمثيل مرة أخرى عندما ظهرت الموهبة الفذة من جريفث الذي أصبح يخرج فيلما كل أسبوعين في تجارب استفاد منها كثيراً في تطوير فن المونتاج، وهو الذي فتح الباب أمام كل المخرجين بعد ذلك للتجريب في المونتاج الدرامي.

   إن السير على الخط الفاصل بين خشية الإخفاق ونشوة المجد محفوف بالوعود وبالوعيد، فالإبداع في العموم مقاومة للرتابة والضجر وجهامة الحياة، وعلى حد قول بلزاك: “إنني أنتمي إلى المعارضة التي هي الحياة والمسرح هو الحياة في صورتها الأكثر عنفا وقوة، إنه معارضة للسكون والموت والفقر والجهل والمرض والشيخوخة والعكس والنفي والغربة.” أو بمعنى آخر (في البدء كانت الصدمة الخلاّقة) حسب ما كتب الدكتور عبد الكريم برشيد في كتابه (التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث) –ص 12، كتاب مجلة دبي الثقافية، العدد 102- “والصدمة التي أعنيها هي صدمة الوجود في المسرح، أو هي صدمة المسرح في الوجود، وانطلاقا من هذه الصدمة، فقد خرجت إلى عالم الناس صرخات متعددة ومختلفة، وكان لهذه الصرخات أبعادها الفكرية والجمالية والأخلاقية المتنوعة، وكان ضرورياً أن تتشكل هذه الصرخات في أنظمة فلسفية جادة وجديدة، وأن تنتظم في منظومات فكرية متناسقة ومتجانسة، وأن يكون لهذه الأنظمة والمنظومات أسماؤها التي تميزها وتعرف بها، فهي أساساً ولادات جديدة في عالم قديم، ولا أحد يجهل الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنه بعد فعل الولادة والخلق، وبعد درجة الابتكار والتأسيس، يأتي فعل التسمية دائماً، ولعل هذا هو ما جعل العالم يحفل بأسماء التيارات والاتجاهات والمدارس والحساسيات الفكرية والأدبية المختلفة.”

   ولكن هل يصح منطقياً أن نفصل الذي لا يمكن أن ينفصل؟ أي أن نفصل الجنين عن الرحم، وأن نفصل الفكرة الإبداعية عن مبدأ الخلق والتجديد، وأن نفصل الامتداد عن أصله، وأن نفصل الظل عن جسمه؟ وفي المشهد النقدي، ظهرت معارك كبيرة، ومعها نشطت الحركات الفكرية، وخاب ظن المبدع الذي كانت له ثقة عمياء في الكبار من جمهوره، فآمن بهم وراهن عليهم، وكانت النتيجة أن خذلوه بالمدح المبالغ فيه أو القدح الهدّام، والصحيح أن روحه الاعتمادية هي التي خذلته ولقد كان ضرورياً ألا تهتز ثقته بنفسه وبإبداعه. ومما زاد الأمر سوءاً؛ هيمنته النزعة الماركسية على الفكر الإنساني فخلقت دوامات مفزعة في عالم الإبداع والنقد، ومن المؤسف أن أكثر هذا الجدل كان بلا معنى وتأثيره على تطور المدارس الأدبية كان أكثر سلبياً. وحسب رأي رولان بارت: “برهنت الماركسية الأرثوذكسية على كونها عقيمة نقدياً لتحليل آلي صرف للأعمال الأدبية وتوفيرها لشعارات بدلاً من محكات نقدية ذات قيمة.” إذ تتجاهل هذه الحركة أن أصل الإبداع يكمن في الروح لا العقل، ولعل هذا ما جعل أندريه آكون يقرر: “أنه ساد الاعتقاد في القرن التاسع عشر بأن العقل والتقدم يمكن القضاء على بؤس البشر، لكن ما لبثنا أن عرفنا أن الإنسان منطقي، لكنه غير عاقل!”

   وعند تطبيق هذا الاستنتاج على مشكلة التجريب الإبداعي وعلة إخفاقه أو سر نجاحه، نرى أنه في الحقيقة يمتلك المسرح قوته الإيقاعية من عنصرين أساسيين هما: قوة الفكر وجمال النص المكتوب والترتيب المنطقي للأحداث وفاعلية الحوار، والخلفية الجماهيرية  للتفاعل مع العرض لصنع أكبر قدر ممكن من قوة إيقاع الحياة له بحيث يكون للعرض إيقاع الحياة ذاتها وانعكاس للطبيعة في قوتها الإيقاعية الإلهية. هذا التفاعل الذي يعتمد بدوره على ثلاثة عناصر لها أكبر الأهمية: أولاً: منطقية المعالجة وعرض الحدث بمعنى أن الصورة والصوت عما الوسيلة والغاية بما يحملانه وعليهما العبء كله. ثانياً: وجود خلفية إيحائية تعطي شعوراً بالتوحد مع الجمهور وبالتماهي مع الفكرة بحيث لا يمكن أن يكون النص مكتوب اعتباطا وبالصدفة. ثالثاً: الحركة الدائبة الدائمة والتي تكاد تتساوى في حركتها الإيقاعية مع قوة حركة الحياة ذاتها وتعطي للمتفرج ذلك الشعور المبهم بأن أفكاره وخواطره تتجسد بالصوت والصدى والألوان والدخان. 

تجارب الثقافة الجماهيرية في المسرح

ولعلك تذكر تجارب الثقافة الجماهيرية في المسرح على مستوى الإبداع المسرحي الجماعي على يد عبد العزيز مخيون وعادل العليمي وهناء عبد الفتاح وأحمد إسماعيل وعباس أحمد وغيرهم وهي تجارب قاربت بين المذهب البريختي ومسرح الشارع على نحو تجسد ملياً في مهرجان (مسرح الأماكن المفتوحة) الذي أقيم في القاهرة واقتضى تغيير أسلوب الكتابة المسرحية على مادة يتم تخليقها مع أعضاء الفرقة، فشارك الكل بما لديه من طاقة فنية في نموذج متقدم لأسلوب ورش الكتابة، ونذكر منها مسرحية (شمهورش الكذاب) عن نص كتبه الدكتور عبد المعطي شعراوي وإخراج رضا غالب الذي قدّم جزءاً منه في ملعب كرة قدم! وكان المشاهدون يجلسون على المقاعد وفي المدرجات والمقصورة. إلى هذا الحد بلغ طموح أصحاب العرض لخلق علاقة جدلية بين النص الدرامي المكتوب والمكان الذي يعبر بدقة عن الفراغ وإمكاناته الحافلة بالجدة والهزل بحيث يحتضن المكان النص الذي خلقه في باديء الأمر. وصار المشهد الطبيعي أحق بالاهتمام من المكان المُتخيل في قصة عن العلاقة بين أربعة من الشباب تخرجوا سوياً من الجامعة ليصدمهم الواقع المعاش بكآبته واحباطاته الكثيرة، والمتاعب المالية والاجتماعية في ظل تبدل المجتمع المصري تحت وطأة ظروف اقتصادية ونفسية وأخلاقية طاحنة، كما يكشف حقيقة الصراع النفسي الداخلي لكل واحد منهم على حدة ثم من خلال احتكاكه بالآخر. 

الموضوع تقليدي طبعاً ونوقش كثيراً في أعمال أخرى سابقة وسبق أن تناولته نصوص مسرحية عديدة، عربية ومترجمة، لكن الاجتهاد الواضح هنا تجلّى في توفيق المخرج للنص مع المكان المفتوح واستغلال الفكرة الجديدة لتضفي الرونق نفسه على الموضوع، فالغثيان في هذا المجتمع يعانون الكثير، ولكن على خشبة المسرح سرعان ما سوف يمل المتفرج، بينما في المكان الجديد، ملعب كرة القدم، سيرى الشبّان ككرة تتلاعب بها الأيدي والملابسات المعقدة والظروف. 

“وكان التفسير محاولة للتوفيق بين النص المسرحي ومكان العرض الذي تم في جزء من ملعب كرة القدم باستاد دكرنس الرياضي بمدينة المنصورة، إلا أن هذا التفسير فيه مغالاة وتكلف ويطرح عدداً من الإشكاليات المتعلقة بفكرة التجارب المسرحية في الأماكن المفتوحة، منها أن النص المسرحي لم يكتب خصيصاً لهذا المكان، بالإضافة إلى أن المكان لم يكن جزءاً متصلاً اتصالاً كاملاً مع العرض المسرحي، فجاءت العلاقة بين النص والمكان علاقة ذهنية، أي أنها لم تحقق على أرض الواقع بشكل مقبول؛ إذ إن النص بإطاره التقليدي يجوز تقديمه في أي مكان آخر، ماذا فعلت صفارة المخرج التي كان يطلقها أثناء تغيير مشاهد العرض وكأنه في موقع الحكم؟؟ إن هذه الصفارة كشفت سلبية موقفه فأصبح وكأنه مثلنا تماماً، واحدا من المتفرجين في حين أن العرض يطمح لدفعنا لاتخاذ موقف تجاه ما يحدث.” (مسرح الثقافة الجماهيرية- أحمد عبد الرازق أبو العلا- الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة- ص 48) هكذا ترى أن حفاوة النقاد ليست في صالح هذا التجديد بالرغم من الجهد المبذول، واستخدام الأساليب المبتكرة له تأثير محدود في  التغلب على عيوب النص والإخراج، فالناقد يرى كذلك أن الرؤية التشكيلية للعرض أظهرت المكان مزدحماً بقطع الديكور حيث إن المخرج قد لجأ إلى تثبيت خمس مطالب كأنها خمس خشبات مسرحية، كل هذا في جزء صغير من الملعب المذكور، وأحاط هذا الجزء بسرادق جعل التأثير الكلي كأنه مسرح تقليدي دون سقف. كذلك كانت الإضاءة خافتة جداً بلا موجب، ففقدت حيويتها ومدلولها في أجزاء كثيرة ومتفرقة من العرض، لأن المخرج لم يستطع التحكم في إضاءة المكان المفتوح الذي يتطلب فهماً خاصاً ومختلفاً عن إضاءة المكان المغلق، تكرر ذات العيب في الصوت والأشعار المستعملة. الاستعراضات بالرغم من رحابة المكان كانت مُقحمة، فظهر الراقصون يحملون في أيديهم نجمة داود سداسية باستخدام مثلثات خشبية بلا مبرر وخارج سياق العرض. وبالرغم من الأداء التمثيلي المقبول وبالرغم من الجهد المبذول فقد العرض حيويته وإيقاعه!

   في دراسة استطلاعية مسحية قام بها مركز ثيانزو جورز المعني بشئون المسرح الأوروبي من خلال فروعه في سبع عشرة دولة، وقد اعتادوا وضع نتائج أولية من خلال عينات عشوائية عبر شبكة الانترنت ومقارنة نتائجها بما سيسفر عنه انتهاء البحث الميداني. جاءت نتائج غريبة متناقضة إلا أن أعجبها على الإطلاق هي أن جميع المشاهدين لا يراجعون أي قراءة نقدية قبل مشاهدة العروض المسرحية المختلفة، وكانت للأرقام دلالة قاطعة، فإن أول هذه الدلالات تقول إن 35% من المتفرجين يطالعون الكتابات النقدية للعروض بعد مشاهدتها بالفعل! أي أن حوالي ثلث المشاهدين لا يهتمون برأي النقاد، والثلثين لا يعيرون هذه الآراء أدنى اهتمام. والأدهى من ذلك أن حوالي 2% فقط يهتمون بشكل عابر، بينما البقية لا تمثل لهم هذه الآراء أية أهمية أو قيمة، أما حوالي 75% من المشاهدين للعروض المسرحية لا يثقون في المقالات النقدية عنها من الأساس لأسباب متباينة ومتنوعة، ومن أكثر هذه الأسباب جذباً للتفكير والتحليل هو رأي بعض المشاهدين أن آراء النقاد تشير إلى أنهم يشاهدون عروضاً أخرى غير التي شاهدوها، ويشعرون بكمية تتراوح ما بين المتوسطة إلى الكبيرة جداً من التحامل على بعض العناصر كالمؤلف أو البطل أو المخرج، بينما 90% منهم يفضلون مشاركة آخرين شاهدوا العرض من الجمهور في الحديث عنه دون النقاد، ويرونه أكثر فائدة وأن كلا الطرفين تعود عليه هذه المناقشة بقيمة عالية معنوياً وفكرياً. وفي النهاية قارن المركز هذه الدراسة بأخرى تعلقت بالنقاد صدرت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهو إجراء روتيني تقليدي في مثل هذا النوع من الاستطلاعات لكشف مدى التباين في أرقامها ونتائجها ثم تحليلاتها مع الدراسة الحالية، ومنها أن 66% من المشاهدين يثق في القراءات النقدية وأن 80% منهم يقرءون ما يكتبه النقاد عن العروض، من بينهم 49% قبل مشاهدتها، هذا بون شاسع يؤكد أن النقاد قد فقدوا ثقة الجمهور خلال سنوات طويلة وبالتدريج ربما لنقص فني في التناول، والأخطر هو أن الجمهور صار بلا مرشد سوى آراء طائرة متخبطة.

وعلى الجانب الآخر، قد تشير النتائج إلى عودة الجمهور إلى مرحلة التفاعل الفطري بلا خلفية ثقافية كبيرة مع العروض المسرحية..

هل يشعر المتفرج بما يشعر به الممثل؟

“إن الموسيقى هامة جداً بالنسبة لي. لماذا؟” يتساءل مورجان كانديف ويجيب: “لأنها تملأ أوقات فراغي ولأنها مرنة جداً، فدائماً تشعرني بأن هناك شخص ما يمتلك نفس المشاعر التي أحس بها. إنها تشاركني آلامي وترفع معنوياتي… يجب أن يتاح للجميع الإحساس بالألوان والمشاعر التي تنساب من خلال الموسيقى.” بالرغم من التاريخ الطويل لتطور النظرية النقدية من شكلها الكلاسيكي ومنهجها التحليلي الذي حكم المؤلفات المسرحية حتى نهايات القرن الثامن عشر حتى لا يلتبس على المشاهد ويتخبط تلقيه لما يحدث على خشبة المسرح، ثم المنهج النيوكلاسيكي الذي اعتنى بقدرة المبدع على إحكام صنعته حتى وإن تراجع عن الصورة الموروثة لنبل البطل التراجيدي. المهم الفن والمنطق الفني وتوخي المعقولية والحس السليم. في حدود ما يتعلق به تقبلنا للأعمال المسرحية وتفكيرنا اليوم، من طلب منظورات أكثر مرونة وديناميكية تلزمها استراتيجية واضحة للتحديث والنهضة، يثير الانتباه في هذه الجزئية إغراء المقابلة بين حالة النقاد الفكرية وأحوال المبدع الفلسفية وحالات المشاهد العاطفية في هذا العصر وبين النماذج والمدارس التي عرضت لأساتذتنا غداة الحاجة النظرية لطلب الفن بوجه عام وما لحق به من تراث علمي وأدبي وفلسفي، وما توافر من النقدي والشعبي كذلك. 

يقول د. جمال ياقوت: “إن اطلاع المخرج على مجالات معرفية مختلفة يمنحه فرصة إعادة كتابة نص العرض بطريقة سليمة، والواقع أن كلمة ثقافة هي كلمة تتسم بالشمولية والاتساع، حتى دون أن تتبع بلفظة (عامة) التي تلتها في العنوان، ذلك لأن الثقافة تنطوي على دراية –ولو بسيطة- بكافة أشكال العلوم والفنون والآداب، وهو ما يمكن أن نطلق عليه المعارف الأفقية، التي تختلف بطبيعة الحال عن المعرفة الرأسية التي تنطوي على فهم واع عميق، وخبرات غير محدودة في مجال تخصصي واحد، وهو ما يمكن تلخيصه بأن الفارق بين الثقافة والتخصص يكمن في أن الثقافة تتطلب معرفة شيء عن كل شيء، في حين أن التخصص يتطلب معرفة كل شيء عن شيء واحد.” (جريدة مسرحنا، ص 27، العدد 371) ويستشهد د. ياقوت بنص (مس جوليا) للكاتب المسرحي السويدي أوجست سترندبرج، وتدور أحداث المسرحية في ليلة منتصف الصيف، وهي ليلة فريدة تتميز بخصوصيتها عند الشعب السويدي، حيث يستمر النهار في هذه الليلة لمدة أربع وعشرين ساعة. لا تغيب فيه الشمس في كل أنحاء البلاد. إن أهم ما يميز هذه الليلة أن الحياة تعود فيها من جديد، لأن هذا الضوء يأتي بعد شتاء طويل تموت فيه الحياة، وتغيب فيه الشمس عن البلاد طويلاً. على أن النص قائم على الاختلافات السلوكية في هذه الليلة عن باقي ليالي السنة: السادة يقتحمون المطابخ لاختيار الخمور، والمراهقات يمارسن ألاعيب رومانسية بريئة حسب معتقدات أهل إسكندنافيا، وتحتفل الآنسة جوليا مع الخدم ويتطور الموقف حتى تفقد عذريتها على يد الخادم (جان) الانتهازي صاحب الميول التطلعية، وينتهي الأمر بأن يوعز إليها في النهاية بالانتحار. استفاد المؤلف حسب مراجعة الناس والمراجع والتقاليد في النص من سلوكيات معتادة لطقس شعبي خاص في رسم خطوط حبكة مسرحيته بدءاً من سبب نزول الآنسة جوليا للمطبخ، وحالة السكر والعربدة مع خادمها ثم انتحارها هرباً من العار. وكل هذه التفاصيل طبيعية ومنطقية حتى الآن، ولكن عندما حاول المخرج سيد طليب إضفاء ظلال دراماتورجية على هذا النص ليقدمه على مسرح الطليعة عام 1978 قام بتحويل النص إلى اللهجة العامية مع الاحتفاظ بالأسماء الأجنبية للشخصيات كما هي، وقال إن هذه الليلة هو يوم شم النسيم، الاحتفال المصري المعروف، وهذا خلف طائفة من المتناقضات في هذا العرض، ومن ذلك أن الأحداث كلها تدور ليلاً وهو الملائم لكافة التفاصيل الطبيعية التي وضعها المؤلف الأصلي مثل الرغبة في الشراب ونوم كريستين خطيبة الخادم جان، وحتى انتهاء الرواية بقدوم الكونت صباحاً، وكل شيء مناسب لعادات هذا الشعب، أما يوم شم النسيم في مصر فمرتبط بمأكولات معينة ونزهة في الحدائق العامة ولا يوجد أي مبرر منطقي للخلاعة والعربدة أو نزول سيدة راقية للمطبخ لتتباسط مع الخادم فتثمل. النص الأصلي حمل العديد من الإيحاءات المغرية الطبيعية مثل زهوة الطبيعة والتماثيل العارية في الاحتفال ورقص الآنسات الحار، وصناعة أشكالا عديدة للقضيب الذكري لتمثل شكل الخصوبة وغير ذلك من أساليب المرح واحتساء الخمر والاختلاط بين الجنسين والمجون. وفي هذا السياق تزول الفوارق الطبقية وتسقط حواجز العقل والأخلاق وتظهر عادة وضع تسع زهرات من أزهار منتصف الصيف كي تتحقق الأمنيات التي طلبها جان من جوليا باعتبارهما عشيقين في تمثيلية الاحتفال. ويعلّق الدكتور ياقوت: “الواقع أن الكثير من الأفعال قد فقدت منطقيتها بسبب هذا التعديل –أو لنقل الاستسهال- الذي آثر المخرج أن يمارسه عوضاً عن الدراسة التفصيلية المتأنية لدوافع ومبررات الأفعال في هذا النص. ومما ساهم في تعظيم حجم المشكلة هو إصرار المخرج الدراماتورج على الاحتفاظ بالأسماء الأجنبية رغم اللهجة العامية، فبدا الاسم مغرباً بصورة لا تتفق ومنهج إخراج العرض. خاصة عندما ينادي جان على خطيبته كريستين مستخدماً حروف المد في الياء الأخيرة من الاسم، ورافعاً صوته بصورة مبالغ فيها، وهو ما أدى إلى وجود التناقض بين غربية الاسم والأداء.” 

مشكلة أخرى تعرض لها العرض المسرحي (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) عندما عرض على مسرح قصر التذوق الفني التابع لقصر ثقافة سيدي جابر بمدينة الإسكندرية المصرية، فالمسرح صغير جداً وخشبته لا تصلح لأي عرض، فاختلطت تفاصيل الديكور، وارتبكت الحركة، وتشوشت الصورة المسرحية، ومما زاد الأمر سوءاً أن فكرة النص الأصلي قائمة على المسرح داخل المسرح مما ترك الممثلين يتحركون في مقدمة صالة العرض مما أتلف الغرض. لقد كسر لويجي بيراندللو القواعد عندما قدم نصّه الشهير عام 1921 واهتزت بسببه الحركة النقدية وانقسمت على نفسها، والنص رائع فعلاً يناقش نسبية الحقيقة، وهي نفس الفكرة التي تناولها في مسرحيته التالية (هنري الرابع)، عن طريق المسرحية داخل المسرحية، وعلى حد قول المؤلف: لقد كنت أريد أن أقدم ست شخصيات تبحث عن مؤلف، ولكن المسرحية عجزت بالفعل عن الظهور، لعدم وجود المؤلف الذي تبحث عنه الشخصيات، أما المسرحية التي تظهر بدلاً منها فهي الكوميديا التي تتناول فشل الشخصيات في محاولتها العثور على مؤلف، وما تتضمنه من عنصر المأساة، لما منيت به هذه الشخصيات من رفض. وفي الفترة الأخيرة من حياته كان فن بيراندللو يكشف عن التناقض بين الصورة والحياة، فالحياة كي تستمر لابد لها أن تتآكل، ولكي تتشكل يجب أن يكون لها صورة ثابتة ومن هنا ينشأ الصراع المستمر يصفه بيراندللو بقوله إن الحياة لون من التناقض الجدلي بين الحركة والصورة. فتناول شخصية الإنسان كما يراها داخل نفسه، وهل هي كذلك في الحقيقة أم كما يراها الآخرون، المحبون والكارهون، من هذه البؤرة تنبثق المأساة. “مأساة الإنسان الذي تعذبه أسرار شخصيته، والذي يضطرب كيانه لمحاولة معرفة الحقيقة. الإنسان الذي لا يعرف إلا الحاجة المستمرة إلى ضرورة ملائمة كيانه مع صورة ما من صور الحياة العديدة المتلاحقة فتعصف الحياة الدافعة التي لا ترحم بكل  تدبير من صنع هذا الكيان الهش. وتصل المأساة إلى ذروتها حين يدرك هذا الإنسان المعذب البائس أنه مهما فعل فليس في مقدوره أن يتبادل التفاهم مع بني جنسه، حيث معاني وقيم الأشياء في عالمه هو تختلف عن معاني وقيم الأشياء في عالم الآخرين، فيمسي وحيداً في هذا العالم.” (محمد إسماعيل محمد- مقدمة ثلاثية المسرح داخل المسرح- تأليف لويجي بيراندللو- سلسلة من المسرح العالمي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- العددان 359، 360- مايو- يوليو 2012) وفي أرض الواقع عندما قام المخرج بتدريب أبطال العرض على النحو التقليدي، فصدمه اللبس بين المسرح والمسرح، ثم الجمهور الذي رفض أن يمثل الممثل شخصيته في الواقع، فهم زاهدون في التمثيل على أرض الواقع ولا يبغون سوى الصدق. “ويختلط الأمر بين عالمي الحقيقة والوهم، والواقع والخيال، أيهم أصدق؟؟ ذلك هو سؤال المسرحية.. فالأب في المسرحية يقول: نعم.. إذا كنت تعمل على أن يبدو ما ليس حقيقياً كأنه الحقيقة دون الحاجة إلى ذلك بل للهزل فقط، أليس عملك أن تضفي الحياة على المسرح لشخصيات خيالية؟ وذروة الحدث الدرامي تتجلى حين يسمح مدير الفرقة ومخرجها للشخصيات الست بأن يقوموا بتمثيل أدوارهم ومآسيهم في الحياة، والتي من أجلها جاءوا إلى المسرح، وتحدث الانفجارات العاطفية المتضاربة (مرة من جانب الأب، ومرة من جانب ابنة الزوجة ومرة من جانب الابن، ومرة من تلك الأم المسكينة، عواطف، يسعى كل بدوره أن يطغى بها على الآخرين في غضب مدمر” (أحمد عبد الرازق أبو العلا، مسرح الثقافة الجماهيرية- ص 318)، “لقد قام المخرج وصال عبد العزيز ذلك النص الصعب بسهولة شديدة، وبرغم حديثه، لم يخل من ابتسامة علت وجوه المشاهدين.” لكن النقد رأى أن المخرج قد أطال المقدمة باللغة العامية فلم تناسب النص المقدم بالفصحى، ويتساءل: ما الذي كان سيحدث لو أنه التزم بما جاء في نص بيراندللو حين قدم الفرقة أثناء استعدادها لتقديم عرضها المسرحي، وقبل أن تفاجأ بدخول الست شخصيات الباحثة عن المؤلف؟ ماذا كان سيحدث لو أنه فعل ذلك، لو كان قد فعل ذلك لكان العرض أكثر تماسكاً، لكنها رغبة المخرجين مجهولة الأسباب، رغبة التدخل السافر في النصوص التدخل المضر- وغير النافع، وهي رغبة آثمة ينبغي مراجعة أمرها!

———————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *