مسرح عبث بتوقيت الراهن العراقي /الكاتب:د.كــريــم شــغــيــدل الاجزء الاول

المصدر/الصباح/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

(وقت ضايع} لتحرير الأسدي
أعتقد بأننا غادرنا زمن البحث عن التكامل في الفن، بمعنى آخر لم نعد نهتم كثيراً بالوحدة المنطقية للعناصر التي تشكل أي عمل فني، تلك ربما هي إحالات ذهنية كانت تستحضر شيئاً من النزعة العقلانية للحداثة بوصفها اتجاها فلسفيا ينطلق من مركزية العقل، أما اليوم فنحن نعيش عصر الاستفزاز، أي عصر الأسئلة التي لا تنظر أجوبة، تتنافر فيه عناصر العمل الفني أو تتناشز لتشكل علاقات بنائية، قد تكون علاقات قسرية أو وظيفية أو طبيعية أو منطقية لكنها تفضي إلى نتائج مغايرة، غير متوقعة، صادمة، استفزازية، محيرة، محرضة،
تستمد مادتها الخام من كل شيء من الطبيعة والإنسان، الذاكرة والمخيلة، اليومي والمعرفي، الشعبي والنخبوي، السطحي والعميق، المادي والمثالي، الأسطوري والواقعي، التراجيدي والكوميدي، الجدية والتهكم، وتلك هي مكنونات العمل الفني لمرحلة ما بعد الحداثة.  أسوق هذه المقدمة لأضع عرض (وقت ضايع) لتحرير الأسدي نصاً وإخراجاً في سياقه الثقافي، فكمية العبث أو اللامعقول أو حتى بعض الشفرات الوجودية، تحيل إلى مسرح العبث، على الرغم من تعاقب الزمن وتباعده على ذلك الاتجاه، إذ ينقلنا المشهد الأول إلى مسرحية المغنية الصلعاء لأوجين يونسكو، حيث السيدة والسيد سميث يعيشان حالة  اغتراب عن بعضهما وعن المكان/ المنزل الذي يعيشان فيه كغرباء، لكن نص الأسدي بني على فرضية تهكمية للربط بين واقع الحياة اليومية لزوجين فقدا ذاكرتيهما، وقصة الخليقة، أو هبوط آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، من الشقة إلى المتاهة، العصيان والعقاب، التفاحة التي بقيت مضمونياً بحدود دلالتها المباشرة (الخطيئة) من دون أن تتحول إلى دلالة رمزية/ معرفية لاكتشاف الذات الإنسانية، أي لم يجتهد النص في توظيف ما تتحمله من تأويلات، وبشكل آلي اشتغل النص على ثنائيات دلالية لإيصال رسالته، آدم- حواء/ الزوج – الزوجة/ الجنة – الشقة/ التفاحة – الغرفة المحرمة/ السلطة الإلهية- سلطة صاحب الشقة/ النسيان – التذكر/ الغياب – الحضور/ الموت – الولادة/ الأسطورة- الواقع/ الخلود- الفناء، وهذا الزخم من الثنائيات، منح النص طاقة كنائية بين الواقع والعلامات النصية.
فكانت كل علامة كناية عن ثيمة في الحياة، هذه الآلية ربما حققت للنص مساحة من الأسئلة الاستفزازية، لكن أضعفت ربما بناء الحبكة، وبقصد أو بدون قصد تحاشى الكاتب أن يغرز مشرط التشريح في جثة الواقع لبيان العلل والأسباب والمسببات، فعول على نبش الذاكرة وتداعياتها ومحاولة محوها كخلاص وجودي من لامعقولية الواقع، محو الذاكرة أو البقاء على فقدانها وليس النسيان مقابل التلميح لولادة جيل جديد بذاكرة جديدة، أو الاستسلام والتخلي عن المستقبل لحساب
الحاضر.
أعتقد أننا اليوم بحاجة إلى تفكيك البنية الثقافية والمعرفية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه برؤية واعية، وليس التباكي على حاضر مرتبك وماض مشوه، فبين تابو التفاحة بحسب الفرضية وتابو الغرفة في شقة الزوجين ثمة خطيئة مشتركة بين السلطة والإنسان، ثمة فضول يعني تطلع أو رغبة في الاكتشاف يقابله قمع وعقاب، وهنا يخرج النص من تهكميته الواعية إلى تراجيديا جلد الذات، وربما هذا واحد من الأنساق المضمرة غير المدركة بحسب توصيفات النقد الثقافي التي أنتجها النص، ففكرة النسيان مغرية لتفضي إلى تأسيس ذاكرة جديدة، على فرضية التأسيس لواقع جديد، الواقع لم يكن حاضراً بقوة كصراع، الصراع كان مع الذاكرة، مع الماضي، مع التاريخ، ردة الفعل لم تأتِ من الواقع أو بالاشتباك معه، إنما مع ما هو ماضٍ، وهذا ما ضيع على النص مساحة درامية أكثر تعبيرية، وكان مشهد لعبة الشطرنج من أفضل تجليات النص في الكناية عن الوقائع.
إن تحرير الأسدي لديه اشتغالات ابتكارية في العرض المسرحي، وقادر على إنتاج عرض بعقلية مخرج يعرف بالضبط ماذا يريد، وبرغم تحفظاتي شخصياً على نصوصه، إلا أن تأسيسات العرض كبناء مشهدي وصوري وعلامات متحولة واستفزازات بصرية في هذا العرض قد حققت معادلة جمالية وتعبيرية غاية في الاقتصاد والأناقة والدهشة، وعلى الرغم من أن العلامات المصنعة أقل طاقة تعبيرية من العلامات الحقيقية، لكن ثيمة العرض فرضت علامة (التفاحة) التي لا يمكنها أن تحقق بطبيعتها غايات العرض ما اضطره لتصنيع تفاحات بأحجام مختلفة، وهي المفردة البصرية الرئيسة التي وظفها، مثلما وظف (القنفة) في عرضه السابق (مقهى) وكانت علامة بيئية، التفاحات كانت من بيئة المنطوق النصي، لكنها ليست حقيقية، مصنعة، ومع ذلك لم تخلُ من لمسة جمالية وتعبيرية، وظفت في العرض بتحولات عديدة إضافية، فهي علامات طريق، ومقاعد، وبيادق شطرنج، وكرة، وذاكرة، ووقائع، إلى جانب التوظيف الرمزي لعدد من التفاحات صغيرة الحجم تسقط من الأعلى لترمز عن خطايا البشر، كما وظف أكثر من مفردة من خلال مشاهد الشخص الثالث كالمايكرفون والحقيبة والنجادة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *