مسرح تنيسي ويليامز

الإتجاهات الحديثة في المسرح العالمي

على الرغم من التغييرات الكثيرة التي طرأت على الحياة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية فإن أوفر مؤلفي المسرح الأمريكي بعد الحرب نصيباً من الاحترام هو تنيسي وليامز الذي أحرز أولى خطوات النجاح بمسرحيات كتبت في ظلال سنوات ما قبل الحرب.

 ولقد اعتبرت مسرحياته من روائع المسرح الأمريكي الذي أفرز خلال سنوات تطوره عدداً هائلاً من المسرحيات الجيدة، وهو من الكتّاب الذين أصبحت أعمالهم المسرحية مدارس في فن الكتابة للمسرح ولفهم التطور التاريخي لحركة المسرح الأمريكي، وتؤكد الدراسات والأبحاث بأن الدراما الأمريكية لم تصبح ذات موضوعات أمريكية خالصة إلا منذ أربعين عاماً، واستكملت أوج نضوجها في مسرحيات يوجين أونيل وروبرت شيرود وألمر رايس وسيدني هوارد وتنيسي وليامز.‏ 

على الرغم من أن الدارما الأمريكية عكست منذ بدايتها تأثرها الشديد بالإنماط الأوروبية والبريطانية بوجه خاص التي كانت سائدة

في تلك الفترة حيث كتب كتاب محترفون بوعي حاد وخبرة كبيرة في مجال الدراما المسرحية عالجوا فيها تقاليد ومواقف ومتاعب الجماهير وأزماتها في صيغة واقعية مفعمة بالمشاعر الإنسانية، ألا أن تلك المسرحيات لم تصمد على محك الزمن صموداً يكفل لها الحياة، فقد تغيرت الطباع والعادات والتقاليد الأمريكية بعد الحرب وباتت المسرحيات التي كتبت في فترات نشوء المسرح الأمريكي الأولى غريبة تماماً ومضحكة عندما تقدم على خشبة المسرح، إذ تبرز سذاجة الأفكار وقلة الخبرة في فنون الكتابة للمسرح قياساً إلى التطورات التي حصلت في المسرح الحديث. وفي بداية تكوين المسرح الأمريكي ساد موضوع حب الحرية والثورة على الطغيان وكانت تلك المسرحيات بسيطة التكوين الدرامي وهي شبه مرتجلة أحياناً وتعتمد في استخراج مادتها على بعض قصص المأثور الشعبي وحكايات البطولات في التاريخ الوطني الانساني عامة. وقد أكدت تلك المسرحيات على البطولات الفردية التي استمدت مادتها من أحداث الماضي، كما حصل عند تقديم مسرحية (سبارتكوس). وعندما أصبحت الحاجة ضرورية لتقديم أعمال ذات نمط يعالج شؤون الإنسان ويقترب من تفاصيل حياته اليومية بدأت محاولات الإعداد المسرحي عن الروايات ذات التأثير الشعبي الكبير، كما حصل بالنسبة لرواية (كوخ العم توم).‏ 

ولقد انعكست الحرب الأهلية ذاتها على الدراما الأمريكية حيث تمت معالجتها في مسرحيات عكست الرغبة في نسيان مآسي الحرب وآثارها السلبية والتفكير في صورة المستقبل والدعوة الشديدة إلى تأكيد مفاهيم الوحدة الأمريكية والاقتراب من قضية حب الحرية الفردية التي كانت سبباً في إلغاء الرق والتطلع إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية فأصبحت هذه الدعوة السبب الأساسي في وصول الموجات البشرية الكبيرة من المستوطنين وأنعكس وجودهم على حالة التطور في مجالات عديدة شملت الدعوة إلى الخروج من الدائرة الضيقة في مجال الآراء الدينية والسياسية واتاحة الفرصة أمام الأفراد لتنمية امكانياتهم المادية وتطويرها واستثمار أموالهم في مشاريع التنمية والبناء، وبذلك ظهرت مشاكل جديدة في التكوين الاجتماعي.‏ 

ظهرت أمام المسرح الأمريكي نماذج تستحق الكشف والمعالجة وعرضت المسرحيات التي تصور السماسرة والمفسدين في دراما شعبية تجذب الطبقات المختلفة بغض النظر عن مستوى تلك المسرحيات التي كان يغلب عليها الكوميديا والتضخيم الساذج للمشكلات التي يراد مناقشتها. وهكذا حصل المسرح الأمريكي في مرحلة مناقشة الأوضاع الجديدة على اهتمام جماهيري واسع. ان جهود رابطة المسرح، التي تم تشكيلها لتخطط مستقبل المسرح الأمريكي اقترنت منذ بدايتها ببداية انطلاقة المسرح الأمريكي الحديث وهي تبحث عن الينابيع في مجال الكتابة والاخراج لكي تمد الحركة المسرحية بالدم الجديد. لذلك فكرت رابطة المسرح منذ البداية بمد الجسور إلى المسرح الأوروبي الذي كان متقدماً كثيراً على المسرح الأمريكي، وبدأ التفكير بتقديم نماذج من مسرحيات أوروبية نالت شهرة واسعة لمناقشتها هموم العصر ومشاكل الانسان وكذلك لكونها جزءاً من تيارات ومدارس مهمة في المسرح العالمي الحديث، فقد اختيرت نماذج من المسرحيات التي تدعو إلى الحرية والثورة على المصطلح الاجتماعي المتخلف وعدم الاستكانة للقيم والأخلاق المتوارثة وكذلك الأهتمام بدراما الأفكار، أي المسرحيات التي لا تستهدف الامتاع والتسلية فقط بل تعنى بمناقشة الأفكار التي غالباً ما تتصل بالأوضاع الاجتماعية والسياسية المعاصرة، حيث كان لمسرحيات برناردشو النصيب الأكبر، وكذلك تقديم نماذج من المسرحيات الرمزية المهمة لهنريك أبسن وكارل تشابيك وفرانز بروفيل وجورج كيزر. كما يسجل تاريخ المسرح الأمريكي الاهتمام بتقديم نماذج من الكتاب الأمريكيين المبدعين أمثال يوجين أونيل وألمر رايس وروبرت شرود وماكسويل اندرسون وفيليب باري. ويضاف إلى جهد رابطة المسرح محاولات عدة حصلت في تجمعات ومسارح كثيرة كانت تهدف لخلق مسرح حديث حيوي القيمة كان جزءاً من حركة مسرحية واسعة النطاق في المدن الكبيرة.‏ 

وتأتي أهمية تلك الجهود من كونها منفتحة على تيارات الأدب والمسرح العالمي أكثر من كونها مهتمة بالجهود الاقليمية للمسرح الأمريكي ممّا أسهم في تطور تلك التجارب وتصاعد وتيرة المسرح الأمريكي ونضوج المضامين والأشكال التي تناولها كتَّاب عمالقة كان في مقدمتهم أوجين أونيل وآرثر ميللر وتنيسي وليامز وغيرهم.‏ 

وصف “مالكوم جولنشتاين” كتَّاب مرحلة الثلاثينات في أمريكا بأنهم قلة من اهل الفكر ولكنهم قادرون على خلق دراما ذات أهداف جديدة، ومنشطة لحركة المسرح. وكان ثمة عامل مهم ساعد في تطور امكانيات الكتّاب هو ازدياد الاحتجاج الاجتماعي في أفق الواقع الأمريكي، حيث أصبحت قضايا الإنسان واهتماماته المحور الاساس للفكر المسرحي وكل موسم كان يحمل قدراً جديداً من التوجهات المفرغة في قالب مسرحي يتصف بالثورة على المادية والظلم ويرسم أكثر من علامة للمجتمع الجديد. ولنتوقف قليلاً عند ثلاثة من كتَّاب تلك المرحلة، هم ماكسويل اندرسون واس. إن. بيرمان وروبرت شيرود الذين عبروا خير تعبير عن الاتجاه التقليدي للطبقة الوسطى في المسرح، اذ تميزت مسرحياتهم بنكهة مأساوية وطابع جدي، وكان أغلب أبطالها شخصيات مختارة من الطبقة الوسطى وتعتبر تلك المسرحيات تطوراً للماسأة العائلية التي كانت معروفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث اعتبرت شخصيات الطبقة الوسطى صالحة لتحل محل نماذج طبقة النبلاء التي كانت تتميز بها تلك المسرحيات.‏ 

كتب اندرسون مسرحيات عدة كوميدية وتراجيدية، غنائية وغير غنائية، وميلودراما، وتطور في الكتابة إلى اختيار أساليب خشنة في المسرح عندما كتب( كلا الدارين لك) التي يهاجم فيها سياسة الكونغرس، ثم كتب سلسلة من المسرحيات التي يحاول فيها تقديم المشاكل المعاصرة، كما في مسرحية( الليل فوق الفضيلة) و( حداد الوادي) و( العربة الممتازة).‏ 

أما بيرمان فيقترب أكثر من الإتجاه الكوميدي حيث حاول في مسرحياته الكشف عن التناقض بين أصحاب الثروات الكبيرة والمستأجرين وتناول إلى جانب ذلك السلوك والعادات في لمحات كاريكاتيرية مفزعة. ولعل أهم أعماله المسرحية (لاوقت للفكاهة) التي سجل فيها جانباً من حياته وتجاربه.‏ 

أما روبرت شيرود، فهو الكاتب المميز الذي استطاع الانتقال من الكوميديا الرفيعة إلى الدراما ذات الأثر الجاد التي تعالج مشكلة إنسانية، وكان قد كتب في عام 1931 كوميديات حظيت باهتمام كبير بتعرضها لنظريات التحليل النفسي، كما هو الحال في مسرحية (اجتماع عائلي في فينا)، وبعد أربع سنوات عالج شيرود بنظرة متشائمة موضوعات الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف في أمريكا آنذاك، كما هو الحال في مسرحية (الغابة المتحجرة) التي تعتبر من أفضل المسرحيات التي كتبت عن المشاكل الاقتصادية وتتفق جميع الدراسات والآراء على أن اندرسون وبيرمان وشيرودكانوا أفضل مؤلفي المسرحيات الاجتماعية وأصحاب حرفة في مجال التأليف المسرحي. وتطورت الدراما الاجتماعية على يد الكتاب المسرحيين في مرحلة الثلاثينات التي شهدت مسرحيات تعالج قضايا العمال وظروف استغلالهم، كما هو الحال في مسرحية(في انتظار ليفتي) لكليفود اوديتس حيث انتزع الكاتب اعجاب الجمهور الأمريكي من خلال تصديه لمعالجة الأزمات الاقتصادية، كما واصل معالجة تلك الافكار في مسرحياته اللاحقة( استيقظوا وغنوا) ومسرحية( الفتى الذهبي) و(صاروخ إلى القمر). وتعتبر الكاتبة ليليان هيلمان أكثر واقعية في مسرحياتها التي تتحدث بها عن الآمال العريضة التي يتوقعها الجنس البشري من التقدم الصناعي والتكنولوجي. وفي مسرحيتيها (ساعة الاطفال) و( الثعالب الصغيرة) اللتين تعتبران اجمل ما كتبت والتي ناقشت فيهما نماذج اجتماعية لها ارتباط وثيق بفكر وفلسفة واتجاهات الحياة في تلك الفترة.‏ 

وبعد تجاوز مرحلة الحرب العالمية الثانية وظهور التطورات الكثيرة في حياة المجتمع الأمريكي. فإن الاحترام الكبير الذي حصلت عليه أعمال الكتّاب يوجين أونيل وآرثر ميللر وتنيسي وليامز وأدوارد البي وضعتهم في مصاف المبدعين المتميزين. ولم يكن أونيل قبل الحرب كاتباً مسرحياً عالمياً لكنه كان كاتباً للمسرح من الطراز الأول في الولايات المتحدة ألأمريكية، ووجدت شهرته قبولاً في الخارج، فظفر ثلاث مرات بجائزة بولتيزر عن أحسن مسرحية أمريكية، وتلقى في سنة 1936 جائزة نوبل للآداب. اما آرثر ميللر فقد بدأت حياته المسرحية بميلودراما واقعية هي( كلهم أبنائي)، وبعد عامين قدم للمسرح مسرحية بهرت النظارة هي (موت بائع جوال) ومسرحية (الاختيار القاسي) وأخرى بعنوان (مشهد من الجسر). أما تنيسي وليامز فهو نجم ذو بريق خاص يبرز في أفق المسرح الأمريكي ولعل مسرحيته (بيت الحيوانات الزجاجية) أهم مسرحية كتبت في العصر الحديث.‏

تنيسي ويليامز والمسرح الأمريكي

ولد توماس لاينر ويليامز عام 1914 في كولمبوس بولاية ميسوري وهو ينتمي إلى عائلة فقيرة. كان ابوه خشن الطباع جاف المعاملة يكسب قوته من عمله في محل بيع أحذية، وكانت أمه ابنة قسيس من الجنوب غرس في ذهن ويليامز الصغير العديد من القصص الشعبية الفولكلورية والدينية. وفي عام 1931 التحق بجامعة ميسوري الا أنه فصُل منها بعد ثلاث سنوات لعجزه عن تسديد مبالغ الدراسة.، فالتحق بوظيفة كتابية في محل بيع الأحذية الذي يشتغل فيه والده. وازداد اهتمامه بالمسرح عندما شاهد مسرحية (الأشباح) لهنريك أبسن، ثم تأثر بنظرية فرويد وكتابات د. هـ.لورنس وتعمق كثيراً بعوالم فولكنر حيث الغموض والجو الشاعري الرمزي. ومن هنا بدأت تراود ويليامز فكرة الكتابة للمسرح.على الرغم من الظروف الاقتصادية السيئة التي كانت تحاصره على الدوام، إذ يعمل في النهار ويكتب ويقرأ في الليل. وبعد اشتداد الأزمة الاقتصادية استغنت المصانع الصغيرة والكبيرة عن الأيدي العاملة فانتشرت البطالة وكان ضمن العاطلين ويليامز الذي بدأ رحلته مع شبح الفقر. كان يبحث بشكل دائم عن عمل يحصل من خلاله على رغيف الخبز له ولأسرته فعمل بواباً في دار للسينما، واجتهد ليكتب السيناريو السينمائي لشركة ” متروغولدين ماير”. وبعد أن أتم السيناريو الأول الذي كان عبارة عن فكرة مبسطة لمسرحيته المشهورة (الحيوانات الزجاجية) واجهته الشركة بالرفض وامتنعت عن التعامل معه. وبعد ذلك الفشل القاسي عمل ويليامز في مهن عديدة منها كاتب برقيات في دائرة البريد ونادلاً في مقهى ليلي ومنشد أغانٍ في تجمع للطبقة المترفة. كانت ذاكرة ويليامز تسجل كل التفاصيل وتختزنها ألا أن ثمة انحرافاً خطيراً برز في حياته عندما صار يعاقر الخمر بنهم شديد ويتسكع في الشوارع العفنة حتى أصابه انهيار حاد ودخل مصح الأمراض العقلية. وبعد مغادرته المصح في عام 1936 التحق بجامعة أيوا، وهو يصف تلك المرحلة بأنها كانت صعبة للغاية، حيث كان تفكيره يتوزع بين استرجاع الذكريات ومحاولة تسجيلها في أعمال أدبية كالقصة أو المسرحية. وكانت البداية مع مسرحيات الفصل الواحد كما فعل يوجين أونيل في عام 1939 عندما حصلت مسرحيته الأولى (معركة الملائكة) على جائزة مالية. اقترح اعضاء مؤسسة روكفلر الأدبية منح ويليامز العضوية وحصل بعد ذلك على منحة علمية أتاحت له دراسة فن الكتابة للمسرح بشكل متميز. وفي مجال الدراسة تعرف على الناقد جون جاسنر وتيريزا هلبيرن وعرض عليهما بعض كتاباته. وأظهرا أعجابهما بمسودة مسرحيته الطويلة( معركة الملائكة). ويرى ويليامز آنئذ انها كانت الخطوة الأولى في عالم الكتابة للمسرح. وعندما نتأمل حياة الكاتب تنيسي ويليامز نجد ان ثلاث مراحل مهمة اتسمت بها تجربته ؛ الأولى التي اصر على تسميتها بمرحلة تجريب الأفكار الشعرية والغنائية بقوالب وصيغ مسرحية، والثانية التي ظهر فيها باحثاً ومتأثراً ومبدعاً في مجال استلهام المورثات الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية وبرز فيها التأثير الديني وتأثره بالميثولوجيا اليونانية، وكذلك الإيمان بأفكار فرويد، والثالثة التي حاول فيها تنيسي ويليامز ابتكار صيغ وافكار جديدة للمسرح بقصص مألوفة ذات اتجاه جديد مؤكداً أن عذاب البشرية لايمكن ان ينتهي الا بتطوير تجارب الانسان باتجاه خلق وضع اجتماعي جديد يلغي كل أشكال التخلف والمعاناة. كما حاول ان يربط توجهات الإنسان نحو السمو الديني بالوعظ الخفي والتأكيد على ان الخالق كفيل بحل المشاكل المعقدة ووضع الحل الابدي لعذابات البشر.‏ 

كتب ويليامز مجموعة من المسرحيات القصيرة تحمل عنوان (أحزان الامريكيين).، صدرت بعد نجاح مسرحيتي (مجموعة الحيوانات الزجاجية) و(عربة أسمها الرغبة).وجاءت أفكار تلك المسرحيات سريعة قصيرة مقتضبة الا انها اعتمدت أساليب مبتكرة للمعالجة الدرامية في مسرحية( معركة الملائكة) التي صدرت عام 1940.استغل ويليامز للمرة الثانية أحداث التشرد في حياته، وتبدو المسرحية كأنها فكرة مقدسة سيطرت على ذهن الكاتب فهو يتناولها في أكثر من مسرحية. ويقول ويليامز عن مسرحية( معركة الملائكة) بأنها المسرحية التي استطاع من خلالها دخول عوالم هوليوود من أوسع الأبواب مع كونها مسرحية ذات بيئة محدودة لم يتجاوز تأثيرها حدود مدينة بوسطن.‏ 

ويصفها في مذاكراته ” كانت مسرحية يكثر فيها السرد وتمر بعمق فوق أحداث تبعث في النفس الوحشة والألم، عقدة المسرحية ترتكز على موضوع ذي جاذبية جنسية يشق طريقه إلى مدينة عتيقة الطراز في احدى ولايات الجنوب الأمريكي، فتتصاعد ضجة كبيرة تحتل مساحة واسعة في أحداث المسرحية” ويعتقد النقاد بأن ويليامز كان متأثراً إلى حد بعيد بطريقة فولكنر في رسم الشخصيات من خلال تحديد المستويات الثقافية المتباينة في المسرحية. وهناك اعتقاد آخر بتأثر ويليامز من خلال الموضوع الذي تبشر به المسرحية بكتابات الروائي د. هـ.لورنس. يقول الناقد هنري بوبكين في كتابه( مسرح تنيسي ويليامز): ” ان الكاتب اضاف إلى اضطراب المسرحية صيغة رمزية تتشابك خطوطها ضمن الموضوع وضمن أفكار الشخصيات والعقد الثانوية الصغيرة حيث يمكن أن يقال أنها مستمدة من التوراة أو المثيولوجيا اليونانية القديمة.”.‏ 

ان تأثير أيام الشقاء والتعاسة والمصير المجهول ظل مسيطراً على ويليامز في أعماله سواء في المسرح أو في القصة، وظلت تلك الافكار تتردد في حوار ويليامز المسرحي، كذلك تبنّى افكاراً مقاربة لأفكار د. هـ. لورنس وحصل ويليامز بفضل (معركة الملائكة) على جائزة روكفلر، وقد اشار الناقد جون جاسنر إلى فشل المسرحية في كتابه ” المسرح في مفترق الطرق”. كذلك أكد ويليامز ذلك في مقدمة مسرحيته (الماضي والحاضر) ان اعماله ذات الأفكار التي تقترب من مناقشة الأزمات والمشاكل الجنسية لم يحالفها الحظ بل قاطعها المجتمع دائماً على الرغم من تضمينها افكاراً مهمة واساليب جديدة في الكتابة للمسرح. وقد تحولت هذه المسرحية إلى سيناريو سينمائي في عام 1958 واخرجته هوليوود فيلماً عنوانه (صنف المشردين). حاول ويليامز تفسير آراء الكاتب الذي تأثر به كثيراً وهو د. هـ.لورنس، فكتب مسرحيته (هتفت العنقاء اصعد لهباً) وهي من مسرحيات الفصل الواحد في عام 1951. ولهذه المسرحية أهمية خاصة لأنها تروّج لآراء عدة كان يجاهر بها لورنس وتكرر ظهورها في أكثر مسرحيات ويليامز. والجديد في المسرحية الأسلوب الدرامي الذي استخدمه ويليامز في خلق شخصية على نمط شخصية أديب يأسف في اخر ايامه أن حياته أنتهت في مجال الكتابة ولم يتحرر من قيود الواقع المر حيث كان طموحه العيش في عالم يحقق فيه ذاته على النحو الذي يريد. وقد سادت هذه الأفكار جميع مسرحيات ويليامز الأولى، والشخصية الرئيسة في المسرحية مكتوبة على نمط شخصية لورنس حيث كان اهتمام ويليامز محصوراً بتصوير لورنس صاحب رواية (أبناء وعشاق) التي أستطاع بمهارة أن يصور فيها التضاد بين الجنسين في العلاقة ويلقي الضوء على الجنس بوصفه دافعاً اساسياً للحياة. وبعد نجاح مسرحية( الحيوانات الزجاجية) قدمت مسرحية لها نهج خاص في مسرح ويليامز، هي (لقد أثرت عواطفي) التي عرضت على مسرح كليفلاند. والمسرحية، كما تشير أغلب الدراسات مستوحاة من إحدى القصص القصيرة للورانس كما أن طريقة البناء الدرامي في المسرحية تبدو مختلفة نوعاً ما في الشكل والأفكار والمضمون. وتكونت من ثلاثة محاور تتوزع بين الكوميديا وعرض الموضوعات الفكرية الجادة والمناقشة اللاذعة لمشاكل حياتية مهمة .‏ 

وهي تطابق آراء العديد من النقاد السائدة آنذاك في المسرح الأمريكي والتي تهدف إلى بناء المسرحية الاستعراضية مع إشارة مهمة إلى أن مسرحية (لقد أثرت عواطفي) تحوي الكثير من عيوب التأليف المسرحي رغم محاولة الكاتب اللاهثة لتضمينها اشارات وافكاراً رمزية كثيرة. انها تجربة في مجال الكتابة المشتركة حيث كتبت المسرحية بالاشتراك مع الكاتب دافيد ويندهام بعد ظهور أعمال كثيرة أعتمدت مفهوم المشاركة في الكتابة أمثال مؤلفات الكاتب بوير، وبولتون، وهاريت فورد، ووليم دي ميل، وراسل كروز.‏ 

ان من سمات التأليف المشترك تلك الرغبة التي تنتج عن اشتراك مؤلفين أحدهما يتطوع في ابتداع العقد المسرحية وخلق الموضوع، والآخر يهتم في بناء الحوار ويمتلك وعياً نظرياً في فن الكتابة. والتأليف المشترك لايخلو من المخاطرة وأوجه السوء حيث تواجه أحد الشريكين في الكتابة صعوبة تحقيق وحدة الانطباع وخلق الشخصيات وتوفير الجو والمزاج النفسي المطلوب. وهناك احتمال أختلاف وجهتي النظر في الفكرة، إذ يكمن الخطر في عدم وضوح الفكرة المراد مناقشتها، وغالباً ما تكون المسرحية عملاً فجاً وقد يعزى إلى هذا السبب فشل مسرحية (لقد اثرت عواطفي) وهي التجربة الوحيدة التي قام بها ويليامز في مجال التأليف المشترك.‏ 

وأهمية هذه المسرحية تتأتى من ان الكاتب حاول جاهداً رسم آرائه بنظرية الجنس التي كانت عقيدة لورنس في الكتابة، وهي مقتبسة عن قصة قصيرة كتبها لورنس في بداياته الأدبية، وهكذا حاول ويليامز أن يجرب حظه في عدة اشكال من التأليف قبل ان يتقدم بخطوات أكيدة ويحرز نجاحه الباهر كاتباً مسرحياً مبدعاً. ان اغلب النقاد يعتقد أن تنيسي ويليامز لم يقدم شيئاً جديداً بعد مسرحياته التجريبية الأولى بل فكر بشكل ذكي في كل ما كتب وسعى إلى تحوير تلك المسرحيات واضافة أفكار جديدة لها. كما أعاد رسم شخصياتها بعمق وشكل يتفق مع النضج الفكري والفني الذي وصل إليه، وبالتالي فقد عمد إلى طريق البناء الداخلي لأفكار مهمة سبق واختبرها في التأليف لعله يفيد من تجربة ترميم مسرحيات “الأسرار في الكنيسة” التي عرفت في العصور الوسطى وكانت موضوعاتها تستوحى من تعاليم الكتاب المقدس.‏ 

وفي أمريكا، ابتدأت بعض الفرق المسرحية تعيد عرض مسرحيات شكسبير ودريدان التي أعادت نبض الحياة إلى المسرحية الشعرية وفتحت ابواباً واسعة أمام تجارب الكتاب الشباب في جيل ويليامز لمحاولة الكتابة للمسرح الشعري.‏ 

أن “المسرحية الشعرية” شكل خاص من اشكال المسرح العالمي حيث تقدم الواقع الذي ينعكس من خلال وعي الشاعر وأحاسيسه وأعادة الخلق المباشر لظواهر الحياة التي تحيط بالانسان. ويصف الشاعر الالماني “غوته” ابداع الشاعر في المسرح “بأنه يجسد ما يشغله بصورة الفرح والحزن بتكوينات يصفي بها الحساب مع نفسه”. وتأتي مجموعة قصص قصيرة بعنوان (ذو الذراع الواحدة) لتؤكد تطور كاتب يشق طريقه بين عوالم الشعر والقصة والمسرح. ففي هذه القصة جميعاً يسترعي انتباه القارئ دقة الكاتب في أختيار الجمل والكلمات التي يرسم من خلالها الجو العام ليكون نسيجاً درامياً شائقاً ويضمن تلك القصص أفكاراً عن الانحرافات مع اضفاء الغموض على بعض أجواء تلك الروايات. وبعد فوز مجموعة مسرحياته القصيرة( أحزان الأمريكيين) بجائزة محلية، بدأ نجاح ويليامز ككاتب درامي يتطور ويؤكد بعد كل عمل أدبي في المسرح أو في القصة بأنه يسير بالاتجاه المؤثر في تكوين المسرح الأمريكي.وقد قدمت جميع المسرحيات التي كان يتضمنها كتاب” أحزان الأمريكيين” على خشبة المسرح ومنها (ابنة موني لاتبكي) و( الغرفة المظلمة) و(وجبة العشاء غير المشبعة) و(قضية شجرة الطباق المهشمة) و(عشر بنات على الطريق الرئيسي). وتكاد تكون تلك المسرحيات ذات أجواء مختلفة وتناقش موضوعات شتى إلا أنها عالم واسع الأرجاء متصارع الأفكار والنظريات. ولقد اعترف تنيسي ويليامز ذات مرة بأن مسرحياته الطويلة المهمة التي كتبت في مراحل متعددة تنبع من المسرحيات الأولى ذات الفصل الواحد أو من قصصه القصيرة التي كتبها قبل شروعه بالكتابة للمسرح. وعموماً، كانت تلك المسرحيات والقصص غير ذات تأثير ولم تكن مهمة كذلك، وتأتي فكرة أعادة كتابة تلك الموضوعات لتؤكد بحث ويليامز الدائم في الأفكار التي تمت تجربتها والتعامل معها بصيغ جديدة أكثر أبهاراً واقناعاً واقتراباً من مضامين العصر وفلسفة تطور الدراما. وهذا ما يتأكد فعلاً في مجموعة المسرحيات القصيرة بعنوان (سبع وعشرون عربة معبأة بالقطن) التي صدرت في وقت لاحق بعد صدور أعماله الأولى، حيث تعد تلك المسرحيات بداية دخول ويليامز في عوالم التجريب الواقعي في المسرح حتى أن النقاد هللوا كثيراً بظهور اتجاه جديداً في المسرح الأمريكي له خصائص متميزة. وتعتبر هذه المسرحيات المفتاح لمعرفة موهبة الكاتب الذي استطاع أن يحتل مكانة متقدمة بعد رحيل يوجين أونيل. اذ طرح الأفكار التي عبرت عن القيم المسرحية القديمة بقوة وجرأة.‏ 

إن اغلب مسرحيات ويليامز. التي كتبها في بداياته الأولى كانت تتضمن مناظر كتبت بمهارة وحذق، يجري الحوار فيها بين الشخصيات بشكل دقيق ينم عن وعي كبير بالبناء الدرامي مع انها تضمنت اساليب حوت التحايل واصطناع بعض الحلول الجاهزة.‏ 

لقد وضعت مسرحية( الحيوانات الزجاجية) ويليامز في مقدمة الصف الأول من كتاب المسرح، وكانت المسرحية السابعة التي كتبها ويليامز وصادفت النجاح على خشبة المسرح في شيكاغو في عام 1945، وفازت بجائزة الدوائر الأدبية للدراما في نيويورك عام 1956، وهي من مسرحيات الذاكرة ومكتوبة في سبعة مناظر تمثل السمات الأساسية لمسرح تنيسي ويليامز وتختلف عن مسرحياته السابقة. وعلى الرغم من وجود ايقاع هادئ ساد المسرحية فإنها تغرز الحاضر بسموم الماضي وتتداعى الذاكريات كالاحلام الوردية أو كأعواد قاسية مغروسة في الذاكرة للبحث عن الحلم والحقيقة. ويرتكز الحدث في المسرحية على تفاعل يقوم بين الشخصيات الثلاث الرئيسة أذ أن لكل منها مأساة ذاتية تقف متماسكة على أرضية الواقع السلبي المرير، كل شخصية تحاول الهروب من الأزمة إلى وضع يشبه أحلام اليقظة والتمسك بالصورة المثالية التي رسمتها كل شخصية من الشخصيات الثلاث لنفسها.‏ 

اعترف ويليامزفي مقدمة كتابه(خمسة شعراء امريكيين في مقتبل العمر) أنه اعتاد خلال السنوات التي عمل فيها موظفاً في مصنع الأحذية ان يختبئ في دورة مياه الرجال لكتابة قصائد مقفاة، وعندما اكتشف صاحب المصنع ذلك فصله من العمل. وبطل المسرحية ينتمي لفريق من الرجال انصرفوا إلى التجارة والسلطان ولم يهتموا بالعواطف الانسانية، ولم يفكروا لحظة بعواطف الحب وتكللت حياتهم بالنجاح الكبير في مجالات الصناعة والتجارة الا ان الفشل لاحقهم في علاقاتهم الزوجية. وعندما يذكر ويليامز أن المسرحية ليست واقعية فهو يعطينا طابع الإثارة ويجعل المتفرج أو القارئ يفكر بأبعاد ثانية لموضوع المسرحية. وتبدو قدرة ويليامز ككاتب في مسرحية( الحيوانات الزجاجية) ذات الحوار الذي يعد أجمل حوار تفتق عنه ذهن أي كاتب درامي أمريكي بابتداعه مناظر عاطفية رقيقة وشخصيات مؤثرة.‏

———————————————————————————————————————–

المصدر :  مجلة الفنون المسرحية – شاكر الحاج مخلف – فصل من كتاب “تنيسي ويليامز والمسرح الاميركي”

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *