مسرح الزنوج في أمريكا

في القرن التاسع عشر بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة درامية تتمثل في مسرحيات كتبت بوساطة الزنوج ومن أجلهم وحولهم. ويعتبر بعض النقاد أن عروض المغنين المتجولين في أوائل القرن التاسع عشر هي الجذور الحقيقية لمسرح الزنوج أو المسرح الأسود في أمريكا الشمالية. ولكن في البداية كانت هذه العروض يكتبها ويمثلها البيض بوجوه سوداء ويشاهدها أيضا البيض.
وبعد الحرب الأهلية الأمريكية بدأ السود يشتركون في عروض المغنين المتجولين ثم أنتجوا بعد ذلك عروضاً موسيقية سوداء كان الكثير منها يقوم السود بكتابتها وإخراجها وتمثيلها وقد عرضت في عام 1823 أول مسرحية كتبها زنجي أمريكي يدعى جيمس براون بعنوان (الملك شوتاواي), ثم كانت مسرحية (قفزة من أجل الحرية) هي أول مسرحية سوداء نشرت عام 1858. أما أول مسرحية سوداء حققت نجاحاً كبيراً فهي مسرحية (راشيل) عام 1916.
ومع حلول العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بدأ النمو الفعلي للمسرح الأسود بظهور مجموعات تجريبية وفرق مسرحية سوداء في شيكاغو ونيويورك سيتي ومدينة واشنطن. وكانت مسرحية (مظاهر) عام 1925 للكاتب الزنجي جارلاند أندرسون هي أول مسرحية عرضت في برودواي, وهو أكبر حي للمسارح في نيويورك سيتي. وبحلول عام 1940 كان المسرح الأسود قد ثبتت أقدامه في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد الحرب العالمية الثانية نما المسرح الأسود وتقدم كثيرا وأصبح أكثر راديكالية وأكثر قوة وحماسا, وبدأ يعكس مثاليات ثورة زنجية تحاول نشر ثقافة زنجية لها أساطيرها ورموزها الخاصة بعيدا عن ثقافة البيض, وأنشئت مجامع لمحو استخدام القوالب والشعارات العنصرية في المسرح وإدماج كتّاب مسرح الزنوج في التيار الأساسي للدراما الأمريكية. وقد صورت مسرحية (زبيب في الشمس) وغيرها من المسرحيات الناجمة في الخمسينيات من القرن الماضي الصعوبة التي يعانيها الزنوج في تدعيم هويتهم في مجتمع يحتقرهم وينبذهم.
وبحلول عقد الستينيات من القرن العشرين انبثق مسرح أسود جديد أكثر غضبا وأكثر تحدياً من المسارح السابقة, عرضت فيه مسرحيات الزنجي (بَرَكة), ومن بينها مسرحية (الدوق) التي حصلت على جائزة في عام 1964, والتي صورت بصراحة وجرأة استغلال البيض للزنوج. وينسب لهذا الكاتب المسرحي الفضل في إنشاء ( مسرح تراث الفنون السوداء) في هارلم (حي الزنوج في نيويورك سيتي) عام 1965, كما أنه شجع كتّاباً آخرين على خلق حركة فنية سوداء في المسرح الأمريكي.
والآن نصل إلى أوجست ويلسون وهو أكثر الكتّاب المسرحيين قوة وإنتاجا وأهمية في إحداث حركة بعث جديدة في المسرح الأسود في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن.
أوجست ويلسون
أوجست ويلسون الزنجي الأمريكي كاتب مسرحي وشاعر وكاتب مقالات فاز مرتين بجائزة بوليتزر, وهي أرفع جائزة أدبية أمريكية, وهو من أبرز كتاب المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولد في عام 1945 في منطقة تدعى (التل) تسكنها أجناس مختلفة في مدينة بتسبورج بولاية بنسيلفانيا. أبوه خباز أبيض من أصل ألماني, وأمه زنجية تعمل عاملة نظافة, وهو الرابع من ستة أطفال, وتربى في شقة من غرفتين خلف مخزن للبقالة. وكان أبوه يعمل في منطقة بعيدة ونادراً ما كان يراه أوجست.
بعد طلاق أمه وزواجها مرة ثانية انتقل مع أسرته إلى ضاحية كل سكانها من البيض حيث عانى كثيراً الاضطهاد العنصري. وفي عام 1961 اتهم ظلماً بسرقة أدبية لمقالة كتبها عن نابليون فطرد من كلية جلادستون. ولما فشل في العثور على عمل يرضيه التحق بالجيش عام 1963, وبعد عام اشترك في شجار حاد كان سبباً في تسريحه من الجيش.
وفي أول أبريل من عام 1965 قرر أوجست أن يصبح كاتباً فاشترى أول آلة للكتابة. وفي أواخر هذا العام انتقل إلى منزل واسع وبدأ في ممارسة سلسلة من الأعمال الحقيرة لكي تساعده في اكتساب قوته.
وفي ذلك العام نفسه اشترك في تأسيس ورشة عمل (بمسرح شعراء سنتر أفينيو) واستمع للمرة الأولى إلى تسجيلات المغنية السوداء (بيسي سميث), التي كان لها تأثير كبير على تصميم أوجست ويلسون على تناول تجربة الزنوج الثقافية والتاريخية في أعماله الأدبية, والتي ظهرت في أولى قصائده الشعرية باسم (بيسي) في صيف عام 1971.
واستمر ويلسون بعد ذلك في صقل مهاراته الأدبية وأصبح عضواً عاملاً في (مجمع الكتّاب الإفريقيين الأمريكيين), وساعد (روب بيني) في تأسيس (فرقة الآفاق السوداء المسرحية).
كتاباته المسرحية
بدأ أوجست ويلسون اتجاهه نحو الكتابة المسرحية في بداية السبعينيات من القرن العشرين. وبعد كتابة عدة مسرحيات لم تلق نجاحاً كبيراً انتقل في عام 1978 إلى سانت بول بولاية مينيسوتا ليكتب مسرحيات للمخرج كلود بيردي ويعمل كاتباً للمادة العلمية لمتحف العلوم.
  وفي العام التالي كتب مسرحية جيتني Jitney وهي من فصلين وتصور حياة السائقين في بتسبورج, وعرضت في عام 1982.  وفي عام 1981 تزوج أوجست ويلسون زوجته الثانية (جودي أوليفر) وهي أخصائية اجتماعية بيضاء تعمل بإدارة التعليم المحلية.
مسرحية (مِقْعَدَة مارايني السوداء)
عرضت هذه المسرحية في برودواي عام 1984 ولاقت ترحيبا كبيرا من النقاد ودفعت ويلسون إلى أضواء الشهرة. كانت ما رايني مغنية جاز أثرت على بيسي سميث التي صممت الكثير من الاستعراضات الكلاسيكية. تدور أحداث المسرحية بمدينة شيكاغو عام 1920, وفيها تظهر ما رايني بطلة الاستعراض مع الموسيقيين الذين يكونون خلفية لها. كانت ما رايني تقول عن موسيقى فرقتها (الشعوب البيضاء لا تفهم موسيقى البلوز. إنهم يسمعونها ولكنهم لا يعرفونها, إنهم لا يعرفون أنها طريقة للكلام في الحياة. إننا لا نغني لكي نشعر بالراحة. إننا نغني لأن الغناء هو طريقة لفهم الحياة).
وبهذه المناسبة نذكر أن البلوز نوع من الغناء المثقل بأحزان السود والأفارقة معا الذين جلبهم البيض بالقوة إلى القارة الأمريكية ليكونوا عبيداً لهم. والبلوز هو أقرب إلى الندب والمراثي الذاتية.
يتناول موضوع المسرحية الاستغلال الاقتصادي للموسيقيين الزنوج بواسطة أصحاب شركات التسجيل البيض, والوسائل التي يتبعونها ليدفعوا الزنوج, ضحايا التمييز العنصري, لتوجيه غضبهم وكراهيتهم إلى بعضهم البعض بدلا من توجيهها إلى مستغليهم وأعدائهم من البيض, كما أن المسرحية تواجه الأضرار التي تنتج من توجيه هذه الكراهية توجيهاً خاطئاً. إن ليفي بطل المسرحية لا يتقبل تخليص ميراثه من المغتصبين, بل يذبح الرسول الأسود الذي يذكره بالأوضاع السيئة والاضطهاد العنصري. إن ليفي يقتل توليدو بدلاً من الرجال البيض الذين اغتصبوا أمه, وأولئك الذين يرفضون موسيقاه الآن.
وبفضل هذه المسرحية تعرّف ويلسون على لويد ريتشاردز, وهو رجل أسود يعمل مديراً فنياً لمركز يوجين أونيل المسرحي, الذي يعمل أثناء الصيف ويقوم باكتشاف وتشجيع الكتّاب المسرحيين الموهوبين.
ومن بين أكوام هائلة من النصوص التي عرضت على ريتشاردز التقط مسرحية (مارايني) التي قال عنها: (لم أكن قد سمعت أبداً عن أوجست ويلسون, ولكن مسرحيته عن الموسيقيين الزنوج في شيكاغو في العشرينيات تحتوي على شخصيات مليئة بالحيوية إلى حد أنه خيِّل إليّ أنني أعرفهم).
وقد مد ريتشاردز يد المساعدة لويلسون ليضع مسرحيته في صورتها النهائية, وعرضها في مسرح (ييل للريبرتوار) الذي يديره. وفي عام 1984 قدمت هذه المسرحية في برودواي مائتين وخمسا وسبعين ليلة ونالت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وقالت عنها جريدة (نيويورك تايمز): (إنها تقرير لاذع عما تفعله العنصرية البيضاء بضحاياها, وهي أيضا مسرحية حسِّية مسلية غنائية مملَّحة).
مسرحية (سياجات) أو (أسوار) FENCES
انضم ويلسون إلى (الكتّاب المسرحيين الجدد) بنيويورك سيتي عام 1983. وقد أراد ويلسون أن يثبت للنقاد أنه يستطيع أن يقتفي أثر الشكل التقليدي للدراما الأوربية الأمريكية بالتركيز على شخصية واحدة أساسية, فأنتج مسرحية (سياجات) التي يدور موضوعها حول صراعات أسرة من الطبقة العاملة لتحصل على الأمان الاقتصادي في الخمسينيات من القرن الماضي.
إن تروى ماكسون, الزنجي جامع القمامة ولاعب كرة البيسبول سابقاً, قلق أشد القلق لأن التفرقة العنصرية لن تسمح لابنه بالانتفاع بمنحة كرة القدم التي حصل عليها ابنه.
ومسرحية (سياجات) تعرض شريحة من الحياة في مبنى يشتمل على عدة شقق تسكنها العائلات الفقيرة بمدينة بتسبورج في أواخر الخمسينيات وحتى عام 1965. إن تروي ماكسون يفخر بأنه حافظ على إعالة أسرته, ولكنه يشعر بالإحباط والتمرد عندما يكافح من أجل تحقيق المساواة في مجتمع لا يؤمن بها. ولذلك, فهو يبني سياجاً حقيقياً حول منزله ويبني سياجات مجازية بينه وبين كل شخص آخر في المسرحية.
إن تروي يصارع فكرة الموت الذي يعتبره شيئاً يمكن التعامل معه, أما رمز البيسبول BASEBALL فيستخدم كتعبير مجازي عن الموت خلال المسرحية كلها. إن الإحباط الذي صادفه في ممارسة لعبة البيسبول في الاتحادات الرياضية للزنوج يؤثر على علاقته بابنه كوري CORY
إن ويلسون يستعرض في هذه المسرحية العلاقة بين الأب والابن كجزء محوري, وهذه العلاقة تتعقد بفعل تصادم المشاعر القوية بالفخر والاستقلالية من الجانبين.
أما علاقة الأب تروى بزوجته (روز) فلا تخلو من مشكلة خطيرة, فإن خيانته لزوجته وعلاقته بامرأة أخرى أنجب منها طفلاً تضطر زوجته لإعالته, يحطم حياته الزوجية تماما.
وفي نهاية المسرحية جميع الشخصيات تستضيفها المؤسسات الخاصة أو الحكومية. فالزوجة تلجأ إلى الكنيسة, وإحدى الشخصيات تقضي بقية حياتها في إصلاحية الأحداث, وأخرى في مستشفى للأمراض العقلية, والابن يلتحق بالمارينز الأمريكية. أما الشخصية الوحيدة التي تظل حرة فهي ابنة تروى التي ترمز إلى الأمل في المستقبل.
وقد عرضت مسرحية (سياجات) بمسرح ييل للريبرتوار عام 1986, وبعد عرضها بمسرح (الشارع رقم 46) بنيويورك سيتي عام 1987 حازت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وجائزة بوليتزر وجوائز أخرى. وبلغ دخلها اثنى عشر مليوناً من الدولارات, واختارت مجلة (شيكاغو تريبيون) أوجست ويلسون (فنان العام), كما حصل أيضا على جائزة (جون جاسنر) لحلقة النقاد الخارجية باعتباره أحسن كاتب مسرحي.
مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه)
بينما كانت مسرحية (سياجات) تسجل نجاحاً هائلاً في برودواي عام 1988, افتتح عرض مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه) في مسرح إيثيل باريمور.
كتب أوجست ويلسون هذه المسرحية عام 1984 ويقول عنها إنها أحب أعماله إليه بالرغم من أنها أقل مسرحياته نجاحاً من الناحية التجارية. وهذه المسرحية تحكي قصة أبناء وبنات العبيد السابقين الذين حاولوا أن يؤسسوا عائلات جديدة في عام 1911 شمال الولايات المتحدة الأمريكية, والكارثة الشخصية والثقافية التي نتجت عن ذلك.
تدور أحداث المسرحية في فندق بمدينة بتسبورج, وهي حلقة من سلسلة مسرحيات حول تجربة السود في أمريكا, وقد فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), كما أضافت مكتبة نيويورك العامة اسم ويلسون إلى قائمة (أسود الأدبLIONS Of  LITERATURE.
مسرحية (درس البيانو)
هذه المسرحية هي مسرحية ويلسون الرابعة التي عرضت في برودواي والثانية التي فازت بجائزة بوليتزر, كما فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك) وجوائز أخرى.
كتبت في عام 1986 وعرضت بمركز أونيل المسرحي ومسرح ييل للريبرتوار عام 1987. وبعد جولة طويلة بالمسارح الإقليمية عرضت بمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1990. وأثناء تلك الفترة انتقل ويلسون ليقيم بمدينة سياتل.
تدور أحداث المسرحية بمدينة بتسبورج أثناء الانهيار الاقتصادي في الثلاثينيات من القرن العشرين, وتصور صراع عائلة بشأن إرث عائلي مشترك عبارة عن بيانو قديم مزين بصور محفورة ذات أسلوب إفريقي كان قد حفرها على البيانو جد هذه الأسرة الذي كان نجاراً يعمل عبداً في إحدى المزارع.
وهذا البيانو يشكل حلقة الاتصال بحقبة الرق. وفي هذا الصراع نجد امرأة عنيدة مصممة على الاحتفاظ بالبيانو الذين يمثل ميراثاً عزيزاً من جدها يذكرها دائما بماضي العذاب والألم الذي عاناه الإفريقيون السود, في حين أن أخاها يريد أن يبيعه ليشتري بثمنه قطعة أرض في ميسيسيبي كان أفراد العائلة قد عملوا فيها عبيداً أو مزارعين لقاء جزء من المحصول. ويقوم بين الأخ وأخته صراع يصور أهمية الاحتفاظ بتراث الأجداد. ولكن مهما حدث للبيانو فإن كاتب المسرحية يوضح بشكل جلي أن الموسيقــــى في (درس البيانو) ليست للبيع لأنها تنتمي للناس الذين عاشوها.
مسرحية (قطاران يجريان)
انتخب أوجست ويلسون عضواً بالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام 1991, وكان قد كتب مسرحية (قطاران يجريان) عام 1989 وعرضت بمسرح ييل للريبرتوار عام 1990, وبمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1992 واستمر عرضها سبعة عشر شهراً وفازت بجائزة (جمعية نقاد المسرح الأمريكي). هذه المسرحية تعطي مثلاً حياً لمقدرة ويلسون الفائقة على مزج الكوميديا والدراما والشعر في صورة متلألئة لحياة الزنوج.
إن القطارين في عنوان المسرحية يشيران إلى الخدمة الناقصة للسكة الحديدية بين الشمال والجنوب, كما يرمزان أيضاً إلى الموت والحب اللذين يعرضهما المؤلف بصورة متكررة في المسرحية.
تدور الأحداث في مطعم في أحد أحياء بتسبورج الحقيرة أواخر الستينيات من القرن العشرين. تدخل المطعم شخصيات متعددة لطلب الطعام والصداقة في الوقت نفسه. كل الزبائن من الزنوج وأغلبهم لديهم مشكلات. وأحد هؤلاء الرجال يدعى ينج سترلينج متخصص في سرقة البنوك ويحاول التوبة بعد أن قضى مدة عقوبته في السجن. رجل آخر اسمه هولوواي نقّاش متقاعد يحب الفلسفة.
الرجل الثالث اسمه مستر وست حانوتي المنطقة وأغنى زنجي فيها. أما ريزا فهي امرأة شابة شوهت ساقيها لتبعد عنها المعجبين من الرجال. أما أسوأ الجميع فاسمه هامبون وهو رجل فاسد ضخم الجثة, ثقيل الحركة بشكل محزن, وقد غشه رجل أبيض جزار, باع له فخذ خنزير فاسدا. ولا يكف هامبون عن التجوال في أنحاء الحي وهو يصيح: (أريد فخذ خنزيري). ويحوم حول الجميع شبح العمة إستر وهي امرأة يقال إنها تبلغ من العمر 322 عاماً وتملك القدرة على إزالة جميع المصائب والبلايا إذا ذهب أحد لاستشارتها. ومن خلال جميع هذه الشخصيات يبث أوجست ويلسون أفكاره ببصيرة حاذقة ذكية.
يقول الحكيم العجوز هولوواي: (الناس يقتلونني بالحديث عن الزنوج الكسالى. إن الزنوج أكثر الناس حباً للعمل في العالم. عملوا 300 عام من دون أجر ومن دون أن يستريحوا ساعة واحدة لتناول الغداء).
إن الممثل البارع الذي قال هذه الكلمات يرى أنها تؤكد براعة ويلسون المميزة في استخدام الكلمات ويضيف قائلا: (إنه لا يقل جودة عن يوجين أونيل, وهو ينفذ إلى الأعماق النفسية للشخصية مثل أي واحد من عظماء الكتّاب المسرحيين, كما أنه يعرف كيف يستدعي الذكريات العنصرية بتفوق يثير الإعجاب). إن هولوواي أيضاً هو الذي يقول إحدى العبارات التي لا تنسى بعد أن وقع سترلينج وريزا في الحب… وهي رسالة عن الحب والموت تمثل مفتاح المسرحية. هذه العبارة هي: (الموت يبحث عنكما يجب عليكما أن تبحثا عن الحب). إن الهدف من هذه المسرحية هو التركيز على ضرورة المصالحة مع الماضي قبل محاولة التقدم إلى الأمام.
سبع آلات جيتار
تتناول هذه المسرحية المأساة المفجعة لعازف الجيتار فلويد بارتون وتفتتح أحداثها بجنازته, ثم تعود أحداث المسرحية إلى الوراء بطريقة الفلاش باك, أي استرجاع الذكريات, لتقص أحداث الأسبوع الأخير من حياة فلويد. وهذه المسرحية هي أول إنتاج مسرحي ضخم لأوجست ويلسون من دون إخراج لويد ريتشاردز الذي تنحى عن المسرحية بسبب مرضه.
تدور أحداث المسرحية بعد الحرب العالمية الثانية بمدينة بتسبورج حيث يجتمع بعض الأصدقاء بعد جنازة الطالب فلويد بارتون. لقد انتهت حياة فلويد في اللحظة التي كان على وشك أن يمارس فيها مهنته في عالم (قطع الرقاب), وهو عالم صناعة الموسيقى في المدن. ويتحدث أصدقاؤه عن الملائكة ذوي القبعات السوداء الذين ظهروا في مكان المقبرة وحملوا فلويد معهم. وعندئذ تعود الأحداث إلى الوراء بطريقة الفلاش باك لتسترجع ذكريات الأيام الأخيرة في حياة فلويد.
أثناء عودة فلويد إلى منزله بعد تشييع جنازة والدته وجيوبه فارغة يستوقفه رجال البوليس للقبض عليه بتهمة التشرد ويلقونه في ملجأ للفقراء حيث يكتشف فلويد أن شريط التسجيل لأول أغنية له حقق أكثر المبيعات ولكنه لم يقبض شيئاً من النقود. وبعد الإفراج عنه يصله خطاب من الرجل الأبيض مُنتج الشريط يطلب إليه فيه العودة إلى شيكاغو لتسجيل شريط آخر. ويعتقد فلويد أن هذا الاستدعاء يعني أنه سيصبح نجماً, وكل ما عليه أن يفعله إيجاد طريقة لجمع المال الكافي ليعود إلى شيكاغو مع فرقته الموسيقية.
تجمع أفراد الفرقة الموسيقية في فناء المنزل وأخذوا يغنون بانسجام, كل واحد بصوته المميز, وكل واحد يسبح في ملكوته.
إن هيدلي, المصاب بمرض السل, يحلم بأن بودي بولدن منتج شريط التسجيل, سيعود من نيو أورليانز ويعطيه نقوداً لشراء مزرعة, أما ريد فإنه سيعود إلى شيكاغو (إذا استطاع فلويد أن يحفر له طبوله), وكينويل عازف الهارمونيكا مازال يحلم بالشهرة, ولذلك يريد أن يثبت جدارته.
أما نساء المسرحية اللواتي يقاسين في حياتهن فيغنين للحب الذي فشل. إن فيرا, عشيقة فلويد, تستعيده بعد أن تركها من أجل امرأة أخرى. ولويزه مالكة البنسيون تزعم بأنها لا تريد أي أحد أن يطرق بابها. أما روبي, العاهرة وابنة أخت لويزة, فقد هربت من ألاباما بعد أن قتل أحد الرجال رجلاً آخر لأنه ضبطه وهو يمارس الحب معها.
في هذه المسرحية نجد أن عالماً بأكمله قد تجمع في فناء المنزل الذي يصفه أوجست ويلسون بأنه (حلبة صراع, ميدان قتال, مقبرة, وحديقة ينمو فيها شيء… إنها حياة جديدة, النقطة النابضة للثقافة السوداء في عام 1948).
ويضيف ويلسون قائلا: (إن موقف الزنوج كان مشحوناً بالأمل بعد الحرب. كنا نعتقد أننا عندما نحارب ونموت في سبيل بلدنا فلن نعود مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن سرعان ما وجدنا أننا ظللنا موصومين باللون والثقافة. إن المشكلة لا تتعلق باللون, بل بالأحرى تتعلق بأفعالنا التي تضع الأفارقة الأمريكيين في وضع متخلف. إن الحقيقة تتلخص في أننا نتصرف بطريقة مختلفة, ونفكر بطريقة مختلفة, ونواجه العالم بطريقة مختلفة. واختلافنا هذا هو الذي يجعلنا ليس لنا نظير. ولذلك, يجب علينا أن نحتضن ثقافتنا وإلا فسنختفي ونضيع).
مسرحية (الملك هيدلي الثاني)
هي آخرمسرحيات أوجست ويلسون, وقد عرضت في برودواي عام 2001, وتقع أحداثها عام 1985 بمدينة بتسبورج.
في مطاردة للأحلام والكوابيس يسكن شخوص المسرحية عالماً مليئاً بالنزاعات العائلية العنيفة بسبب أشياء تافهة, وبالتنبؤات الخرافية والمزاج السوداوي, ومع كل ذلك فهم يظلون متجهين نحو المستقبل. إن جيوبهم مبطنة بالأمل المتجدد وإيمان لا يتزعزع بقدراتهم وبطولاتهم. والمسرحية حافلة بأغاني الرعاع وحثالة الناس وتلعب بالعواطف التراجيدية والكوميدية, كما يغوص أوجست ويلسون في أعماق عهد ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان مستكشفاً نكباته بالنسبة للتمييز العنصري وسيادة العنف والانهيار الحضاري.
وهذه المسرحية, تصور انتصارات ومحاولات مجتمع يواجه مشكلات الأسرة والبطالة والجريمة. بطل المسرحية سجين سابق يصارع ماضيه وحاضره, وكفاحه مع الحياة, بالإضافة إلى علاقاته مع زوجته الثانية, وأمه, وعشيقها السابق, وأصدقائه, وجيرانه مما يحمل في طياته تراجيديا ملحمية. ومع ذلك فإن المسرحية لا تخلو من الدعابة وإثارة الشفقة على هذه الشريحة من دراما الحياة المغموسة بلحظات إنسانية جداً من المزاح الكوميدي. ومع ذلك فإن مسرحية (الملك هيدلي الثاني) تتحدث بفصاحة وصراحة عن إمكانات خلق بدايات جديدة.
مفهوم المسرح عند أوجست ويلسون
منذ أن بدأ أوجست ويلسون حياته المسرحية كانت نظرته إلى المسرح بأنه وسيلة لرفع مستوى ضمير المجتمع كله بالنسبة لحياة زنوج أمريكا في القرن العشرين.
ولذلك, فقد آلى على نفسه أن يكتب سلسلة من عشر مسرحيات تعيد كل واحدة منها كتابة تاريخ عقد من عقود ذلك القرن لكي تصبح حياة الزنوج جزءاً معترفاً به في تاريخ المسرح الأمريكي. إن مسرحياته تعرض تجربة فريدة تجبر جمهور المشاهدين على البحث عن استنتاجاتهم وخلاصات أفكارهم السياسية كامتداد لمواقف حياة شخصيات مسرحياته.
ولما كان ويلسون واسع الخيال وعميق التفكير, فإنه يعتبر ناطقاً مسرحياً بلسان التجربة الإفريقية الأمريكية. وقد ساعده على ذلك أن أعماله المسرحية تتميز بمقدرته الهائلة على إدماج لغة الحياة اليومية مع مادته الشعرية المتدفقة في نسيج متكامل جذاب. ومع أنه لم يعد يعتبر نفسه شاعراً, فإن موهبته الشعرية هي التي أهلته لكي يصبح من أهم كتّاب المسرح في الدراما الأمريكية المعاصرة.
———————————————————————————————-

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *