“مسرح الجريمة” دراما هزلية لبيتي توتل في “مونو” حبكات طريفة مترابطة بمهارة وخفة وذكاء

من الأسباب التي تشد المشاهد إلى “مسرح الجريمة” ما جاء بكلمات بسيطة على لسان كاتبة المسرحية ومخرجتها بيتي توتل: “أن نبحث عن الضحية لأصحّ من البحث عن المذنب”. ثمة كلمة رائجة يتداولها المتشائمون في هذا البلد، السوداويون: “عصر لبنان الذهبي أصبح في خبر كان، مسرح اليوم مقفلة أبوابه”. بل ينبغي أن نقرأ ما في فطنة جيل ما بعد الحرب التوّاق اليوم

إلى مسرح من صميم وجع هذا الوطن.
هذه بيتي توتل التي أخذها الغرام إلى المسرح من دون أن تتطفّل على قدسيته، بل من وعي إنسانة مثقفة، حملت وزر الاستهتار والتلاشي، الممعن ببيروت المدينة الحبيبة، بقلمها ككاتبة ومواهبها في خلقها من كتاباتها مسرحا يطال الشعب ويتقاسم معه جرائم ما يحصل، والجرائم عديدة لا تحصى، آخرها النفايات ولها في “مسرح الجريمة” دور أساسي لم يكن متوقعا، ظل مستترا حتى النهاية، حيث كما في القصص البوليسية ينكشف المجرم وتنحل عقدة البحث عن الفاعل.
الطرافة الفودفيلية لم تكن لتكتمل على الخشبة إلاّ في الانسجام بين ممثّلين من خلال معايشتهم قضية عبثية، كوميكية، استطاعوا أن
يفرقعوا الضحك المقتلع من مآسي البلد.
بطاقة الدخول إلى مسرحية “مسرح الجريمة” لا بد أن تذكّرنا بما أنجزته بيتي توتل حتى الآن. امرأة شابة شيّدت مسرحا ذكيا، فاعلا في ضمائر الناس، مبتكرا من مراقبتها الواعية لما يجري في المجتمع الذي تعيش فيه، وتحويله إلى كوميديا، بما تتمتّع به من حس الظرافة والفكاهة، نذكر منه “آخر بيت بالجمّيزة”، و”الأربعا بنص الجمعة” و”باسبور رقم 10452″.
على “مسرح مونو” امتزج التمثيل الحي بالمشاهد المصوّرة في البداية والنهاية. ففي مستهل المسرحية، ينقل الفيديو حوارا بين وليم الشاب الفرنكو لبناني الذي قرّر السفر إلى بيروت لغرضين، زيارة جدته التي اشتاق إليها وكان عرفها في صغره ممثلة كبيرة، وإجراء بحث عن تاريخ المسرح وصالات المسرح في بيروت، وبين صديقه اللبناني الذي يحاول ردعه عن السفر بحجة أن نصف شباب لبنان يتلقى العلم في باريس بينما هو الفرنسي يريد العودة إلى طفولته.
المشهدان اللذان ركبت عليهما المسرحية، المخفر أولا، القيّم عليه القوميسير (جاك مخباط) ومساعده عبدو المتذاكي، الفهلوي (كميل يوسف)، للتحقيق مع الرجال وأوّلهم هشام الممثّل (هشام خدّاج) الذي كان في الباركينغ في وضع مخل بالآداب في سيارته مع حبيبته ميريام (ميريام وطفا) ثم ملحم (جورج دياب) صاحب البناية التي وقع في محاذاتها الانفجار واقتيد إلى المخفر بثياب النوم، ووديع (وديع أفتيموس) الذي اعتاد في مثل هذا الوقت من الليل أن يكزدر كلبه، وجميعهم مشتبه فيهم في قضية القنبلة المنفجرة في أحد أحياء بيروت التي راحت ضحيتها امرأة عجوز، أنيسة كنعان، ومن بينهم مهندس فرنسي من أصل لبناني وليم (سيريل جب)، والنظارة للتحقيق تحت عين المراقبة المختارة (جوزيت أفتيموس) مع صونيا (جيسي خليل) المسؤولة عن الباركينغ المشبوه بأمانتها، وميريام المرتعشة خوفا، ووردة (لمى مرعشلي) الملقّبة بالدكتورة.
تحت التهديد واللكم يضطر هشام أن يمثّل ويداه مكبلتان، كي يبرهن للقوميسير، المكبّل بسلطته التعسفّية، بأنه فعلا ممثل بأدائه أمامه دوراً ما، فلا يجد هشام سوى قصة الذئب والقبعة الحمراء، وتقع فورا الشبهة عليه حين يدق على باب الجدة في نية أكلها.
الظروف العبثية، الفكاهية المتتابعة برشاقة، ترسم بالشكل والمضمون طبيعة كل شخصية وغالبا شخصيتين في واحدة، كالقوميسير مثلا الذي نفحت فيه بيتي توتل عاهات المستبد، الطاغية والذائب غنجا ودلعا مع وردة التي تغويه باقتحامها الجريء حياته. ولكن تبقى كل شخصية، كما جسّدها كل من الممثلين، طافحة
بحلاوة الأداء وإيصال الدور بفكاهته وظرافته إلى النقطة الجوهرية، الوطن المختصر في مخفر سيّده يزهو بسلطته، يرافع عن القانون من دون ذرّة معرفة به.
المجموعة بكاملها جاءت متناغمة الأداء، فقد رسمت نموذجا من مواطن بأسلوب عفوي، تلقائي، صانت به المستوى الفودفيلي بإتقان. المفاجأة في النهاية كانت صدمة للباحث عن تاريخ المسرح حين يعلم ان المرأة المتوفاة ليست سوى الجدة التي جاء إلى بيروت مشتاقا لرؤيتها.
على الشاشة نقرأ: “هذه المسرحية تحيّة إلى روح الممثّلة الراحلة سعاد كريم التي فارقت الحياة بعد معاناة مع المرض في 25 شباط 2015”.

http://newspaper.annahar.com/

م. م.

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *