مسرح إبسن بين المتخلفات والمتغيرات المعرفية المتلازمة – دراسة في حيرة الباحث المسرحي/أبو الحسن سلام

 

 

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

يقع الباحث المسرحي لإبداعات هنريك إبسن في حيرة عند شروعه في وضع مجمل المعارف التأسيسية الظنية المنسحبة أمام تيار المعارف اليقينية التي شمر عنها إبسن أكمام فكره التنويري ، ووضعها تحت منظار الدراسة المنهجية التأصيلية (مادة وشكلاً وتعبيراً) بما يفرض عليه عندئذ الاستعانة بنصوص إبسن المسرحية ذاتها لتمده بالنظرية الملائمة لسبر غور بنائها المعرفي والدرامي والجمالي بانعكاساته التراثية والحداثية على المستوى الاجتماعي والإنساني وأثر امتزاج واقعية الأحداث برمزية الشخصيات في تعبيرها المسرحي هذا الامتزاج الذي عنده يجد الباحث نفسه متحيراً ما بين توظيف النظرية العلمية لقياس (المتخلفات والمتغيرات المعرفية المتلازمة) وتوظيف (نظرية العامل) في سبر غور أصالة ريادة إبداعه المسرحي في تأصيل زيف الكثير من رسوبيات الثقافة التراثية والمعارف الظنية ومطاردة فلولها المتشبثة بمواقعها في حياتنا الفكرية المعاصرة بطاقات المعارف اليقينية، عبر إتاحة الفرص أمام شخصياته المسرحية لتكشف عما يتنازعها من ضرورات الانفلات الوجودي المادي للأنا مع حتمية الالتزام الوجودي المثالي ؛ دون أن تذوب في الآخر.. ومع أن البناء الدرامي في مسرحياته يعوّل على المظهر النقاشي بين الأنا والآخر ؛ إلا أن ذلك لا يحصر الصورة في إطار صراع الأفكار ، ذلك أن إبداع إبسن المسرحي لا يلقي بشخصياته الدرامية في مواجهة تيار الوعي عزلاء ولكنه يجسد تعطشها الإنساني إلى المعرفة ويجتهد في خلق جسور اتصال بين الذات في ضرورات انفلاتها من أصر البيات الثقافي الدائم في رسوبيات التراث وحتميات التزامها بثوابت تلك الثقافة نفسها ؛ وبذلك تمكن إبسن عبر إبداعه من إتاحة الفرصة أمام الشخصية لكي تبوح بأشواقها الرومنسية لكل ما لا يمكن الحصول عليه أو تحديده: (عندما نبعث نحن الموتى) كما جسد المحاولات الدائبة للذات لمجاوزة حدود إنسانيتها : (بيرجنت) وجسد كذلك فردية الإنسان بعقده وتزمته وتمرده في سبيل تحقيق جوهر وجوده : (بيت دمية) وجسد أيضاً تعطشه للذة وللشهوة وللإشباع الجنسي:(الأشباح) (ملهاة الحب) وجسد محاولات استرجاعه لما فاته من متعة الانفلات ببعث روح الشباب والحنين إلى المجهول : (عندما نبعث نحن الموتى) كما جسد تعطشه لاكتناز الأموال : (أعمدة المجتمع) وجسد صور تسلط الأنا على بنى جنسها (عدو الشعب) كما جسد فناءها في سبيل فكرة ما: (القس براند) كذلك جسد محاولات الذات في التطهر من شوائب الأوهام والهواجس: (حورية البحر) لقد تراوحت صورة الإنسان عبر مسرحه بين الانتهازية والنبل والخسة ، بين العدل والظلم ، الحرب والسلم ، بين الأمانة والخيانة ، الحب والكراهية ، الانتقام والتسامح ، بين الصدق والكذب ، الجد والهزل ، بين الأمن والإرهاب ، سواء انطلقت معطيات الكتابة المسرحية عنده من حكم الذات على الموضوع الخارجي أم من حكم الموضوع الخارجي على الذات .
لكل ما تقدم يقف الباحث المسرحي متحيراً أمام أمرين :
أولهما : الحيرة في محاولة الإمساك بالخيط الفكري الناظم لمنظومتي (المعارف الظنية) و(المعارف اليقينية) وحيرة شخصياته الدرامية في رحلة العبور من خضم بحر الظنون التراثية إلى شواطئ أمان المعرفة اليقينية التي اطمأن إليها إبسن نفسه .
ثانيهما : حيرته عند تحديد المنهج العلمي المناسب لدراسة خصائص وفاء أساليبه المبتكرة في الكشف عن غرابة شخصياته وعجائبية رسمها في بنية الأحداث الواقعية .
وفي محاولة فض الباحث المسرحي لحيرته الأولى أمام تداخل منظومتي المعرفة في مسرحه وتداخل أساليبها الدرامية والفنية والجمالية .
يصطدم الباحث بتزاحم دراميات الأفكار التي تعكس عمق تجربة إبسن الإنسانية وطليعية بنيته المسرحية ما بين (واقعية الحدث ورمزية الشخصيات – دائرية التعارض بين منظومة الزواج والحب – الفاعل الفلسفي في علاقة الأنا بالآخر – الأقنعة الفكرية المتداخلة والملتبسة – نشيد الذات الابسنية في البدء والتم – أصداء الكلاسيكية في مسرحه – الالتزام الوجودي الديني والانفلات عند شخصياته – عذوبة الأكذوبة في صوره الدرامية العجيبة – القلق الإنساني في مسرحه – ازدواجية شخصياته – البوح الإنساني عبر الحكي على ألسنة شخصياته – رحلة الاغتراب والغربة في مسرحياته – دور الهوية في البناء والهدم – شخصياته المسرحية وفناء الأنا في الفكرة – شخصياته واستحالة فناء الأنا في الآخر – التضحية بالمرأة في مسرحه ) .
أما حيرة الباحث بإزاء تحديد المنهج فتحسمها معطيات نصوصه المسرحية نفسها ، وهنا لابد من الأمثلة التطبيقية .

نماذج تطبيقية

أولاً : المتخلفات المعرفية المتلازمة في مسرح إبسن :
يتضح تلازم المتخلفات المعرفية في الظاهرة أو في الصورة أو في الموقف عن طريق الاستنباط . فظهور الضباب وفق النص الإرشادي الموازي لنص الحوار في مسرحية (الأشباح) متلازم مع الحالة الضبابية التي تعيشها مسز إلفينج ، وكل من له علاقة بها . غير أن المتلقي يربط عن طريق الاستنباط بين تلازم ظهور (الضباب) مع حالة التعمية والتعتيم الذي يسود علاقات كل من في الحدث الدرامي . فالضبابية النفسية تلازمت مع الضباب الطبيعي الذي نص عليه الإرشاد الموازي في المشهد المسرحي نفسه ، غير أنها وقفت خلف الضباب المادي (الحقيقي) – المصنوع في المنظر المسرحي نفسه – وحالة القتام والتعتيم الذي ران على الشخصيات الدرامية نفسها .
كذلك الأمر نفسه بالنسبة لطعن (تورفالد هلمر) على والد زوجته (نورا) المتوفي ، ومقارنة فعلها بفعل سابق من والدها ، إذ مات مديناً بمبالغ استدانها وفق صك مع آخر . وهلمر هنا يستعيد حدثاًَ من متخلفات ماضي والد زوجته ليقارن به فعل زوجته في حاضرهما الأسري المعيش – الصك الذي استدانت بموجبه أموالاً من كروجشتاد غريمه – بما يحط من شأن فعلها الذي رأه مخزياً . إذاً فقد تلازم فعلها مع فعل ماض لوالدها حيث أعادت هي إنتاجه في واقع أسرتها المعيش استدعاء غريزياً وراثياً وهو بذلك استدعاء فعل من المتخلفات الوراثية أضافه وعي الذاكرة عند زوجها إلى فعله المناظر له ومن ثم تلازم الفعل الماضي المضاف إلى الفعل الحاضر المعيش معاً ليغير موقف الزوج تورفالد هلمر من نورا زوجته فيتحول خطاب المداعبة والهدهدة (يا بلبلتي – يا عصفورتي – يا أرنبتي الصغيرة – أعز كنز لدي – الجمال الذي أمتلكه وحدي) . إلى خطاب زجر وتوبيخ لمجرد دخوله إلى غرفة مكتبه وخروجه منها بعد أن فض مغلف رسالة كروجشتاد :
” دعينا من الحجج السخيفة ” ” أيتها التعسة ”
” دعينا من الحركات المسرحية ” ” أتدركين مغبة عملك ”
” يا لها من صحوة مفجعة . ثماني سنوات وأنا أعقد عليها أملي في الحياة ، وأنظر إليها بخيلاء .. فإذا بها منافقة كاذبة ، بل أسوأ من هذا .. مجرمة . إن بشاعة اللفظ وحدها تثير الاشمئزاز ، يا للعار ، يا للعار ! ”
” لقد حطمت سعادتي ودمرت مستقبلي ” (بيت دمية ف(3) ص ص 138 – 1399)

ثانياً : المتغيرات المعرفية المتلازمة في مسرح هنريك إبسن :
في مسرحية (الأشباح) يتلازم التغير الذي تحدثه مسز إلفينج على حياة ابنها – مع تغير حياته حيث تدفعه للرحيل إلى باريس ليدرس فن الرسم- مع التغير باكتشاف زوجها متورطاً بفعل فاضح وعلاقة غير شرعية مع خادمتها . فكلا الفعلين متلازمين في تغيرهما .
وفي (بيت دمية) أدى تغير معاملة (لند) لصديقها القديم الذي هجرته إلى تغير موقفه المتعنت من (نورا وهلمر) بعزمه على فضح تعاقد نورا معه وإرساله صك اقتراضها المال منه إلى زوجها – عدوه – هذا التغير في موقف محبوبته (لند) نحوه استلزم تغير عزمه الهجومي – بغض النظر عن أنه قد (سبق السيف العزل) حيث حدث التصالح بين لند وكروجشتاد ) بعد أن ألقي بمغلف يحتوي على الصك في صندوق بريد هلمر .
ثالثاً : العامل المستقل للمتغيرات المعرفية في مسرح هنريك إبسن
ترتبط نظرية العامل المستقل للتغيرات المعرفية والأفعال بمبدأ السببية فأسباب تحول (هلمر) من مظهر الرقة ولطف التعامل ورقته مع زوجته (نورا) إلى مظهر الغلظة والتوبيخ تتمثل في اكتشاف تعاقدها مع موظف غير شريف تم طرده من البنك فور قيام هلمر بإدارته ، ففعلها نابع من رغبتها وعزمها القوي على تحقيق هويتها الذاتية وتحررها الذي هو رمز داع إلى تحرر جنسها في أواخر القرن التاسع عشر وهو فعل مستقل من هذه الناحية ومن ناحية أخرى هو رد فعل من حرصها على إنقاذ زوجها من مرض خطير ألم به ؛ إذ كان إقدامها على نقله إلى مشفى منعزل يستوجب الكثير من التكلفة ، فمرضه مع حرصها على إنقاذه وضيق ذات يدهما دفع بها إلى الاستدانة من أقرب وسيلة (كروجشتاد) على الرغم من انتهازيته المعلومة لها .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *