مسرحية حروب رؤية تعبيرية متفردة / ظفار المفرجي

قدم العرض مرات عدة منها ، عرضه الأول على المسرح الوطني في بغداد و اخر قدم في المانيا بدعوة من فرقة اور المسرحية للجالية العراقية في مدينة كولون الألمانية ،  كما عرضت على خشبة مسرح الريو في العاصمة التونسية ضمن مهرجان قرطاج ، و العرض من انتاج الفرقة الوطنية للتمثيل و هي فرقة تمثيل المسرح الرسمية في العراق  ،  و المسرحية  مقتبسة عن مسرحية  بعنوان ( حروب كوسوفو ) للكاتب الكوسوفي ماكيلي هاكييف و هي من ترجمة د . سامي عبد الحميد  .

و العرض  له جذور موغلة في التعبيرية لكنه يعد نموذج مثالي للعروض المسرحية  المفهومية العراقية   ، و المقصود بهذه التسمية هو ذاك النوع من المسرحيات التي تقدم تلقيا معززا بالأدوات و الأفكار و المصادر و المفردات ذات المنشأ العراقي ، مع الاهتمام بالمفهوم على حساب القصة ،  على نحو و اساس  تعبيري حداثي معززا بتجزئة و تهشيم اكبر للصورة نتيجة لتأثير اخر معاصر اني ، لكن ليس لدرجة تفويض العرض بالانتماء لعروض ما بعد الحداثة  .

المخرج ابراهيم حنون

المخرج ابراهيم حنون

و كما نعلم ان  التعبيرية (*) تنتمي الى المدارس الحداثية (*) ، و التي تهتم بالدرجة الأساس بأعلاء شأن الفكرة او المفهوم على حساب التصوير الطبيعي للحدث .  و في المسرحية التعبيرية يكون الرابط بين الأحداث الفكرة ، و تنفذ الروابط على نحو اعتباطي لا قواعد تحدها الا ذاتية المخرج و رؤاه الخاصة اي ليس مبدأ السبب و النتيجة الدارج عادة  ، و كل شيء في خدمة الفكرة فالبطل يضحي بكل شيء من اجل المثل العليا او فكرة العرض ، و توظيف الحوار الجدلي  و الحركة  من اجل توصيل الرسالة  التي يبثها العرض ([1]) اما نكراني انتماء العرض لما بعد الحداثة فهو ينبع من اعتقادي ،  ان عروض ما بعد الحداثة تتميز بالمسرحة و المضارعة و الأولى تدل على تحويل شيء لا مسرحي الى وضعه داخل شكل مسرحي ، و الثاني على الأنية ، و كلاهما يؤدي الى الارتجال و اللعب داخل العرض ، و خلا العرض من ذلك ، كما خلا من المصادفة الا في ضبط التوقيتات التي تتغير مع كل عرض و تمرين ، و رغم وجود مظهر اللعب الا ان الحركة خضعت لضوابط صارمة منضبطة داخل العرض . و تهتم عروض ما بعد الحداثة بالتهشيم حد الـ لا معنى احيانا و التجميع  الاعتباطي ( الكولاج ) و التركيز على الجانب البصري ، و هي جميعها مظاهر جلبتها الحداثة سلفا في كل مرة على حدة ، بينما ركبتها الفترة اللاحقة ما بعد الحداثة معا ، ان الانضباط التام يبطل الانتماء لما بعد الحداثة ، كما ان التجميع كان متناغما و من سياق متفق لا تضاد مرجعي فيه الا باختلافات بصرية ، و هو ما يؤكد مرجعية العرض و انتمائه الى الحداثة التعبيرية بامتياز .

ظفار المفرجي

ظفار المفرجي

و حروب تناقش موضوع على قدر من الأهمية يمس حياة المواطن العراقي و كينونته و وجوده في ظل الدولة العراقية الحديثة  مع اطار عام يغلف العرض ذلك هو خصوصية الشأن العراقي الذي يعاني من دموية احداثه المتواصل و تأثيرها على الأنسان العراقي بالإضافة الى جانب اكثر حساسية ، هو الخلاف الطائفي الأبرز ليس لأنه قدم الخسائر الأكبر فقط بل لأنه الأكثر ايلاما على الجسد العراقي نظرا لكونه خلاف بين اعضاء هذا الجسد . و العرض على هذا ينظر الى التاريخ العراقي الحديث نظرة شاملة تبتدئ منذ عام 1958 باعتبارها السنة التي رافقت خسارة النظام الملكي الأكثر سلمية في التعامل مع افراد الشعب من بين الأنظمة اللاحقة تقريبا .

و العرض على هذا لا يقدم فكرة جديدة فالقنوات الفضائية ووسائل الميديا تعيد هذا الكلام على نحو يومي كما تذكره كتب التاريخ و السياسة الا ان تقديمها على اساس مسرحي متحول الى صورة جمالية تفسره  يعد امرا اكثر كمالا من قراءته او سماعه خصوصا انه يقدم حلا لرؤيته هو ان نموذجين من الناس ( من الطائفتين ) يجب ان يرموا في حاويات الأزبال لأنهما سبب النزاع الطائفي ، و العرض يضعهم فيها لتكون تلك نهايتهم ، و هو حل منطقي يشكل عزاءا للضحايا و ذويهم . ان اختيار هذه النهاية هو توضيح ايضا لفكرتين مهمتين جدا ، الأولى : ان سبب الحرب الطائفية لم يكن المواطن العراقي الحبيس في وطنه من جهة و الثانية : ان كل ما حدث من احداث يقدمها العرض هي فضح لمؤامرة اكبر يتعرض لها العراق و سكانه و الدليل ان الخلاف الداخلي حدث عندما اصبح العراق تحت رحمة المحتل ( الولايات المتحدة الأمريكية ) بوصفها الوريث للاستعمار الحديث ( بريطانيا و فرنسا ) دون حدوث حروب مماثلة في العراق منذ دخول الإسلام اليه قبل الف و اربعمائة سنة تقريبا او تعرضه لاحتلالات اقليمية نظرا لتشابه النسيج بين دول الأقليم ، بالإضافة ، الى ان العدو كان دائما يأتي من الخارج الا في هذه الحالة .

أن البحث بالتواريخ على المسرح يؤدي الى اتجاهين يؤدي الأول الى الملحمية المعززة بالوثائقية ، و الثاني الى الوثائقية نفسها ، الوثائقية التي  تستخدم الوسائل المستوردة من الفنون الأخرى ( رسم ، صورة ، فيلم ) منعكس على شاشة او مطبوع على ورق او فليكس ، لكن حروب اختارت طريقا مغايرا ،  فقدمت انعكاس هذه الأحداث على الأنسان ، اي مجموعة عشوائية من الانطباعات الوجدانية المتداخلة للشخصيات لتعبر عن تشوش كل ( المسلمات المنطقية من زمان و مكان ) فلا زمان و لا مكان محدد للانطباعات النفسية و الوجدانية و تلك هي النتيجة التي الت اليها الأمور بعد كل هذا الدمار . و تعد تلك النتائج من اهم ما خلصت اليه المدرسة التعبيرية التي دعت الى تجاوز وظائف المكان الدرامية و الجغرافية و التاريخية و الاجتماعية كفضاء حاوي حيث توجد فضاءات متعددة يخرج فيها من الزمان وظائفه المذكورة اعلاه الى دلالته على البعد الفلسفي و الجمالي للحدث و بالتالي يقدم اللقطات الغير تامة المعمولة بالأدوات المسرحية لإيصال معاني متقطعة تسند الفكرة الرئيسية للعرض . و الصور المتلاحقة تقدم احيانا رؤية مشوهة للواقع مثل الأقنعة البشعة لأشخاص بشعين يعدون نماذج قبيحة بطريقة مبسطة احيانا و مبالغ فيها احيانا اخرى و عن طريق تقديم احداث مفتتة دائما لعكس الدمار النفسي الحاصل في الشخصية العراقية جراء هذ الأحداث الجسام مع خلط الواقع بالرمز و الحلم ايضا .

و القول بالتواريخ يأتي حتما من تكرار ذكر التواريخ و الأحداث تباعا في العرض ، و كما اسلفت ان العروض التي تركز على المفهوم  تغلف اطارها بحدث مسرحي و هي لا تهتم بالقصة لأن تسلسل الأحداث و الأفكار هو الأهم و هي التي تمنح العرض الحياتية المطلوبة التي يتميز بها المسرح و ليس القصة  . و هكذا تتوالى التواريخ تباعا ، التواريخ التي يمكن ان تكون  وثائق  1958 ، 1980 ، 1991 ، 2003 ، 2006 ، لكنها لا تأخذ صفة الوثيقة بل صفة الدليل ( اي انه لا يستورد الوثيقة ) في الجدل الدائر بين اثنين من العراقيين القادمين من الخارج ، من الولايات المتحدة الأمريكية و كل منهم ينتمي الى طائفة و كأنها صورة طبق الأصل للقادمين عام 2003 من الطائفتين ( على ظهر الدبابة ) و هو وصف لكل معارضي النظام السابق القادمين مع قوات الاحتلال ، يطلق لتمييزهم عن المعارضين ممن هم لم يهاجروا الوطن . و قد عرضت تلك التواريخ الأدلة ليس فقط  بوصفها تواريخ لحدوث الحروب ككوارث بل ايضا كتواريخ لحدوث تأثيرات كارثية من الهجرة الجماعية المتلاحقة مع كل كارثة و هي التي افرغت العراق تقريبا من كثير من مثقفيه و اطبائه و علمائه و اساتذته و حتى الناس العاديين . و العرض قدم تلك الأفكار على شكل صور متسلسلة تارة و متداخلة تارة و دائما ما يتم قطعها قبل ان تكتمل بسبب ان معناها قد وصل و هذا ناتج من تكثيف الفعل ربما لضبط الإيقاع و ( تقليل زمن العرض ) ، موظفا اللعب بالتكوين و  الخطوط و المساحات الفارغة على المسرح و ملئها بالأدوات المسرحية المعتادة و المألوفة دون الحاجة الى الحلول الجاهزة التي توفرها الصور و الأفلام المنعكسة في العمل الوثائقي

اما الممثلون فقد ارتدى الذكور منهم زيا رسميا غامقا بينما ارتدت الفنانة ازهار العسلي بوصفها الممثلة الوحيدة في العرض زيا غامقا و هي اشارة مسبقة توحي برسمية الحدث و اهميته . كما ان اسلوب الأداء التقديمي طغى على العرض بسبب الخروج السريع من حالات الدخول في الأيهام و الحوار المقتضب سالف الذكر . و يحتسب للمخرج تقديم هؤلاء الممثلين في المسرح من جديد فالفنان ( أحمد طعمة)  الذي ادى دور احد طرفي النزاع الطائفي ، و هي شخصية احد القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية ، هو ممثل اكاديمي متمكن يمتلك اسلوب أداء ثابت ،  معروف عنه ادائه لأدوار الشخصية الهجومية او ما ندعوه ( بالشقي ) و هو دور اداه بتمكن في التلفزيون و ما يعادله نسبيا على المسرح في مرحلة دراسته ( محارب ، او قائد عسكري )  ، الا ان المخرج نجح في توظيف امكانياته ،  خصوصا انه يتمتع بحسن توقع و استرخاء و انفتاح في التجاوب مع الحركة و الممثل الأخر .

كما تمكن سعد محسن ، الأخر في النزاع الطائفي و القادم ايضا من الولايات المتحدة الأمريكية ، و هو المعروف  بهدوئه الذي يميز شخصيته ما يمكنه من مجاراة اللعبة المسرحية  ، ان الانبساط المعتاد في شخصية الممثل ( سعد محسن )  مكنه من التلقي داخل العرض مع الحركة المتنوعة و البناء على حركات مفاجئة مفترضة متوقعة نظرا لديناميكية المسرحية . مع وضوح قدرته على الارتجال الأني  داخل السياق .

و مكن حضور الفنان علي نجم الفني شخصيته  من البروز فرغم مساحته الصغيرة إلا انه كان هو اضافة لشخصيته ، ما  دعم الفكرة التي يبثها العرض كون ما يمثله هو المحرك الحقيقي للأحداث و هو اليد الخفية للأجنبي الذي يحرك اطراف  النزاع الطائفي .

و قد قدم العرض الفنانة ازهار العسلي عن موقف المرأة من القضية  ، و كانت الزوجة تارة و الأم ايضا ، انها كل ما يخطر في مخيلتنا من دور تمارسه المرأة في المجتمع ، و قد وظفت  امكانياتها الغنائية و صوتها في خدمة الفكرة عبر اختيار انواع من الغناء  مثل اغنية انوار عبد الوهاب ” عد وانه اعد ” لتدعيم استمرار الألم ، او اهات ام عراقية على فقيدها .

و كان الفنان فلاح عبود قد ادى دور الحكم في النزاع و هو دور مارسته كثيرا دول التحالف و الأمم المتحدة و بعض دول الإقليم و اطراف اخرى ارتأت التدخل في الشأن العراقي فقد عرفناه ممثلا ناشطا في عروض شعبية و على شاشة التلفزيون الا انه وفق الى حد كبير في اداء الجزء المحدد على المسرح من دوره .

ان توظيف ممثلين التلفزيون في المسرح يعد امرا ممتازا يحسب للعرض و لهم نظرا لتمتع افراد هذه المجموعة من الممثلين بإمكانيات ادائية مختلفة عن بعضهم سمحت بأسناد التنوع الذي يسعى اليه العرض ما سمح للعرض بأن يمتلك فكرة مشابهه لفكرة تقديم وجوه جديدة مبدعة و لكن مدعمة بنجومية الممثلين .

و في نفس السياق ( التمثيل ) استخدم العرض المجموعة كأداة رئيسية  ، و المجموعة كما نعلم هي “مجموعة من الممثلين يمثلون دوراً اساسياً في المسرحية، مواطنون او نساء وظيفتهم التعليق على الحبكة ويشتركون في تطويرها”([2]) . و قد قدمت المجموعة كونها لاعب اساسي  فهي تؤثر و تتفاعل مع الأحداث من جهة  ، وتحيل الى رجال المهمات الخاصة التي غايتهم حمل صفة تنفيذ وصايا المخرج المحددة لاستمرار و تنوع العرض بالإضافة الى المشاركة في الفعل الجمالي و المساعدة في ابراز الفكرة عبر المشاركة الجماعية . و قد وظفت المجموعة كثيرا على اساس من الخطوط المتعامدة ،  عبر وضع افراد المجموعة كمجموعتين يمثلان كل منهم طائفة ميزهما بالأقنعة الملونة بالأحمر كفريق و الأزرق كفريق اخر و هي ميزة سهلة سمحت بتحقيق الانتباه الى الاختلاف بين المجموعتين ، كما استخدم اسلوب التكرار في حركة المجموعة للتأكيد على استمرارية الزمن بتدافع التواريخ التي ادت الى كوارث متلاحقة في الحروب من جهة و تأثيراتها بالهجرات المتلاحقة ايضا .خصوصا في مشهد لعبة النط و القفز و شد الأعين بين الفنانين (سعد محسن ) و ( احمد طعمة ) و ( فلاح عبود ) ، و قد حقق استخدام المجموعة التنوع في الفعل الحركي ، و المتعة الناتجة عن التنوع في الحركة ، و وصول المعنى من التلقي نتيجة البساطة و الوضوح في التشكيلات . مثل : –

  • تشكيل بالكراسي اخذته المجموعة على شكل خط رأسي متوالي مع رفع الكراسي المطوية اعلى الرأس و ( الكراسي تحتوي على مصباح واحد في كل كرسي ) ما اعطى تأثير مدرج المطار و ذلك تكوين تشكيلي ايهامي و رسم منظر بالجسد للإيحاء بوصول المحتل او معركة المطار او معسكر المطار و البغداديون يعرفون اهمية المطار عند الاحتلال .
  • تداخل المشاهد الواقعية التي مرت كخيالات سريعة ، تصور ما مر في حياة اكثرنا عند الظروف الصعبة ، مثل سماع الأخبار ليلا من الراديو ، جلسة العزاء ( الفاتحة ) ، و مواقف اخرى ، كلها تحيلنا الى الواقع لكنه يخرج منها بسرعة الى موقف اخر ليجمع في النهاية مجموعة من المواقف المتداخلة التي تبرز معاناة و الأم المواطن العراقي اليومية و لكن على نحو شمولي و تلك هي واحدة من ابرز ملامح التعبيري
  • تكوين التشريفات الرئاسية عند حضور ضيف الى الدولة ، المبارزة
  • مشاهد مؤثرة للغاية في الذاكرة الانفعالية مثل مشهد الانفجار و رمي الأحذية للدلالة على انها ما تبقى من عملية الانفجار و كان المعنى بليغا باستخدام ادوات بسيطا و سهلة لإيصال الفكرة و بشكل جمالي متمكن و بسيط
  • اغنية عد و اني اعد لأنوار عبد الوهاب بالإضافة الى الآهات في مجلس العزاء الجماعي الكراسي و مجلس ( قراءة الفاتحة في خيمة العزاء ) العراقي

و قد اعتمد المخرج في الإضاءة على مساقط مفردة متنوعة في كل مرة يستخدم مسقط  بالتناوب مع توالي مشهد  ، كما قدم العرض المساقط الضوئية بطريقة هندسية فتارة يسقط الضوء على الخشبة على شكل مربع و تارة مستطيل متقصدا ابقاء المشهد مهما طال معتمدا على المسقط نفسه لتحقيق فكرة التنوع البصري فالعين تتعود النظر بعد مدة و لا يتم الإبهار الا بعد ان تتأكد من ملامح الشكل المنظور لذا فأن التغيير الحاصل و الممتد على زمن المشهد ما بين دقيقة ( اقل و اكثر)  يليه تغيير بالشكل و الزمن يماثله يسمح بحدوث التنوع البصري و بالتالي تقديم تلقي مقنع بالإضافة الى زيادة الإبهار باستخدام عدد محدود من الأجهزة . و لم تستخدم الإضاءة في اضافة جماليات بصرية على الرغم من حاجة هكذا عروض لها ، و بهذا اقتصرت على الكشف  و التقطيع و اضافة سحر الظلام بوصفه مساحة من الغرابة مقارنة بالضوء المحدود و القليل ، كما سمحت الإضاءة احيانا بأن تكون حدود مساقطها خطوطا تقف عليها عناصر المجموعة ليكتمل التشكيل المفرد في كل مرة . كما وفر اسلوب التركيز بتسليط الإضاءة على الممثل مساحة من الزمن في المكان وسط الظلام  وضحت بالاستخدام المتناوب و التي سمحت بالإيحاء بحدوث مونتاج اختزالي للأحداث   .

و رغم عالمية النموذج في النص الأصلي كونه ليس محليا ، فأنه يمتلك قبول الأسقاط على الشأن  العراقي ليس على مستوى الفكرة كونها متفقة ،  بل ببراهين المعد و المخرج (موارد العرض و الحوارات المتداولة  و ادلة الجدل ) التي اسندت اعداد النص للعرض ، الا انها جعلت امكانية متابعة التلقي مع معلومات العرض صعبة على المتلقي غير المطلع على الشأن العراقي ، على الرغم من ان العراق و احداثه يتصدران الأخبار . و في المفاضلة بين الأمرين كميزان بين عالمية النموذج و محلية الأدلة ، يمكن القول ،  ان المشتركات الأنسانية مع الشأن العراقي القادمة من نص كتب عن الحرب الداخلية في كوسوفو ،  دليل اكيد على ان التوظيف يعمم الخصوصية و يمنحها صفة اكثر شمولا  ليتحول مثلا يعزز من فكرة تدمير الحروب الداخلية  للشعوب و امالها في الوجود . اي  سيصعب على المتلقي غير العراقي متابعة و فهم العرض بوثائقيته المقصودة ، لكنه سيتواصل مع الفكرة التي مفادها ان الحروب تدمر الشعوب ما يعفي العرض من خصوصية و محلية الأحداث معززا بالنموذج العالمي . و ينبغي هنا ان نؤشر بالأضافة الى ما ذكرت ، ( مشكلة المفردات اللغوية المتداولة و تحويلها الى صور ) ما بين العرض على مسارح  الداخل العراقي او العرض في الخارج ، ان تأشير المخرجين و الدراماتورجيا انساق المعاني و تغييرها في العرض الخارجي امر ضروري لتلافي سوء الفهم و هو امر اخر غير عدم الفهم ، رغم ان العرض ” حروب ”  لم يحتوي على مشاكل مماثلة بسبب تلغرافية و سرعة الحوار .

و النص يعتمد فعلا على التلغرافية و الاستلام و التسليم السريع و الغاية ، خلق جو مشحون سريع  ، و من الواضح ان النص تم تأسيسه على التناقض الواضح ما بين مشهد و اخر حد الوصول احيانا الى عكس نظام اللقطة السينمائي على الورق و الخشبة ، و يكون امد اللقطة معتمدا على الفكرة التي تتناقش حولها الشخصيات التي ما ان يتغير الموضوع حتى تتغير اللقطة  ، و القول باللقطة نابع من قصر زمن الفعل و الحدث ايضا ، فمشهد سريع يليه اخر سريع و هكذا دواليك ، و المحافظة على اطلاق الحوار السريع يؤدي الى تكثيفه ان طال و حذف الزائد منه للحصول على نظام يمتد ما بين السؤال و الجواب  ، ما يصنع ايقاعا سريعا و يؤدي لتصور عن الشخصيات مفاده انها شخصيات يمكن ان تمسخ في اي وقت لأنها لا تفكر بل تستطرد و تتجادل حتى تتحول الى ما يشبه الكاريكاتير رغم ان الحدث ليس كوميديا ([3]) و النص ايضا نابع من تجميع لأفكار قائمة و احداث و ادلة و اغاني و العاب و ذكريات عرضية يومية و حوارات لها مرجعية في الذاكرة اليومية العراقية و كل هذا كما نعلم كم كبير من التناص المقصود و غير المقصود يسمح بالقول ان النص هو تجميع من التناصات المقصودة قام المؤلف بتجميع مصادره كالكولاج (*) ثم اعاد كتابته و لا يمكن اطلاق هذه التسمية على العرض فالعرض صورة تنفيذية متقنة عن النص و الكولاج في العرض يشترط استبدالات من المشاهد التي سبق رؤيتها في مسرحيات او عروض او افلام موثقة و اعيد عكسها على شاشة مثلا او تمثيلها و الأمر ينطبق على توظيف ادوات ووسائل من خارج السياق المسرحي مثل السيارات و الديكورات الضخمة التي ليس لها علاقة بمسار الحدث وتدخل على نحو مفاجيء الا ان  العرض يخلو من هذا كله  .

و المكان في حروب رقعة من الأفعال المتجاورة الفطرية و الألوان و الظلال و الأنوار و الخطوط التي بمجملها  جوا من الحركة الدائمة و دورات الأيهام الصغيرة و الصغيرة جدا و التي تخلق مناظرا متخيلة متعددة دون الحاجة الى بناءها بل البناء بالحركة و الجسد في فضاء خالي و  يقول هونزل عن هذا ،  ان المناظر لا تصور ” في أغلب الأحيان تماثلياً بواسطة وسائل فضائية ومعمارية أو تصويرية ، بل قد يشار .. بإيماءة ، وكما يحصل في ( المايم أو البانتومايم ) ” ([4]) و ادى كل ذلك الى خلق جو من القلق ساند الفكرة التي تعرض احداثا تاريخية متحولة . ووظف العرض بعض تقنيات السينما في الشغل المسرحي مثل  ( ايقاف الحركة – الستوب كادر ) و العزل بوصفه لقطة قريبة رغم احاطته بالظلام و هو شكل مسرحي بامتياز نظرا لبراقيه و حدود اجهزة الإضاءة المحدد بالعدسات و البؤر الضوئية التي تحدد خط الظلام و الضوء و تسليطه المائل الذي يصنع من صورة الممثل شكل نحتي مع الظلال في العروض . كما استخدم القطع بالصورة و الصوت الذي يفضي الى نهاية الموضوع  . كما يحسب للعرض تحقيق التنوع المشار اليه بالاعتماد على مكملات ( اكسسوارات ) محدودة مثل  ( الأقنعة ، الكراسي ) الخ .

اما  المخرج ( ابراهيم حنون)  فقد اشتغل في عروض سابقة على المكان الخالي و شغله ( مثل عرض مسرحية الموت و العذراء في عرضه على المسرح الوطني و منتدى المسرح  عبر توظيفه البيئة و معمار قاعة العرض ) ، كما وظف المجموعة في عروض سابقة خصوصا مسرحيته ( الموت و العذراء ) .  و يمكن تأشير نزوعه الى الخروج من دائرة الحوار المتداول بين الشخصيات الى خلق مساحة من الأيهام على اساس ذاتي بإضافة فكرة الى العرض او تفسير جزء من الفكرة في اضافة إيهاميه لن تدوم اكثر من دقائق يكررها كلازمة ، بالإضافة الى تأسيس مكانية تشكيلية يملئها و يحدثها بشكل متكرر في مسرحية ( حروب ) او مؤسسة على المعمار في ( الموت و العذراء ) ، و بهذا لا يقدم نظام ثابت انما المهم في عروضه هو المحصلة التشكيلية و التداخل ما بين الموضوعي القادم من النص و الذاتي القادم من العرض ، ما يجعله يقدم عروضا تعبيرية  ذاتية بأمتياز تقربه من النتائج العبثية و اللامعقولة للـ ( السريالية و الدادائية  ) و كلها متصلة عبر انتمائها للحداثة كما نعلم . و يقول سامي عبد الحميد في هذا السياق ” في اعتقادي فان كلاً من الدادائية والمستقبلية والسوريالية ليست الا فروعاً للتعبيرية حيث تشترك جميعها بصفات أو قواسم مشتركة ” ([5]) و السبب في اشتراكها هو ذاتية التعبير .

و المكان الخالي هو اما حصيلة عقلية تجريدية ، او نتيجة قوة المكان التي تفرض التجريد ، اي التجريد عن غير قصد  ، و التجريد يعني التخلص من الزوائد قدر الإمكان ، و بالتالي فأن ما يتبقى هو ما لا يمكن التنازل عنه لأهميته  ، باستخدام المساحة الفارغة و المناظر الخفيفة صغيرة الحجم و المتحركة ايضا لضمان تنوع المشاهد و تمكين المتلقي من الفصل بينها .  .. لذا فأن كل ما يقدم على المسرح على هذا الأساس من دلالات تحمل خلاصة المعنى من دال و مدلول العرض ، و المقصود بالدال ”  هو صورة سمعية أو بصرية والمدلول هو تصور ذهني غير عادي   ”   ([6])  و بهذا يشير المجمل الى جملة من المشاهد السريعة التي توحي كل منها بحدث واقعي لكن انفصالها عن بعضها بشكل مقصود ، يؤدي الى تكوين شكل عام يشبه الحلم او الكابوس و بهذا حصل العرض على حرية تضمينه انطباعات المخرج و رؤاه الذاتية  . كما استخدم المجموعة بوصفها باك راوند للحدث ممثل لوحده او كلاهما و خلفهما المجموعة بالإضافة الى الحركة الجماعية و وحدة الفعل احيانا للمجموعة ما يخلق تأثيرا اقوى  .

و قدم العرض الحركة فيه على خطوط متوالية عرضية و طولية ايضا ، فالممثل الذي يقدم الحوار او الحركة الأهم يقف في المقدمة و في خلفيته تؤدى حركة او صورة ساكنة بطريقة عمل المثلث الذي رأسه الى الأمام و قاعدته الى الخلف و هي صورة مسرحية تعادل موازين المنظور في اللوحة التشكيلية او الصورة الفوتوغرافية رغم ديناميكية المسرح و لكن التكرار او تكرار استخدام الخط الواحد في حركات مختلفة يؤدي الى التنوع البصري كما نعلم ، و يعد التنوع البصري وحده مدخلا لفهم الصورة المرئية لأن العين تتقبل البساطة اكثر و اسرع  من التعقيد و الغموض . و يحصل التقبل و حتى الإدهاش انطلاقا من بساطة التكوين و التداخل بين اللقطات القصيرة المشار اليها و ان طال بعضها . و يؤدي هذا مع الإضاءة المركزة الى الأيهام بحصول المونتاج ايضا و التقطيع ما يسمح بربط الأفكار و توالي الفهم و الاختزال باعتبارها احداثا متوالية .

كما قدم العرض مداخل غير مباشرة بالإضافة الى المداخل المباشرة ذات التقديم الوثائقي للأدلة بأسلوب المسرح ، و ذلك بتحويل بعض الأحداث الى العاب ذات دلالات دعمت الفكرة مثل النقاش بين الأثنين عن فترة النزاع الطائفي عندما تدخلت عناصر المجموعة لتوثيق اليدين و العينين و القدمين تباعا و تحكيم الفنان ( فلاح عبود ) ، و قفز الممثلين في المكان و حركتهم غير الطبيعية ثم رميهم اخيرا و هم مقيدين على الأرض في معادل صوري للفكرة التي يطرحها المشهد فالنقاش و الجدل الطائفي جزء من لعبة كبيرة ، و الصورة توحي لتذكرنا بالأساليب الممارسة في تلك الحقبة و طرق تقييد الضحايا . ما يشير ضمنا للفكرة بإطار من اللعب و اللعب كما نعلم يزيد المتعة و بالتالي تمسك المتلقي بالتلقي و تركيزه على العرض .

الاستنتاجات

  • ان مجموعة الممثلين تجذب نظر المتلقي و تدهشه اذا ما تحركت المجموعة بوصفها كتلة واحدة سواء كانت الحركة متشابهة او مختلفة  .
  • يصنع المسقط الضوئي ( الساقط على ارضية الخشبة ) دهشة بصرية مؤقتة اذا سلط بطريقة غير معتادة ، او وضعت حدود سقوط ضوئه بطريقة غير معتادة ، و تدوم هذه الدهشة المؤقتة طيلة استخدام المسقط للمرة الأولى ، و تختفي الدهشة متى ما تعودها النظر عند التلقي .
  • ضرورة تغيير المفردات و الأدوات و الإشارات و الأدلة و الوثائقيات المتداولة في الداخل العراقي عند العرض خارج العراق او تقريبها من ذهنية المتلقي في بلد العرض او تدويلها بما يحسن الفهم
  • الحاجة الى التفرقة النقدية بين انتماء العروض الى مرجعياتـها او مذاهبها و بين انتماء العروض الى ما قبل الحداثة او الى زمن الحداثة او الى ما بعد الحداثة
  • يمكن حل مشكلة نقص الممثلين في المسرح الرسمي ( الفرقة الوطنية للتمثيل ) بأشراك اكبر قدر ممكن من الممثلين الأكاديميين في العروض المسرحية
  • التكرار الدائم لتجربة اعادة العروض سواء في المهرجانات الخارجية او الداخلية او حتى العروض المفردة كي لا يقتصر العرض المسرحي المنتج بمبالغ كلفت الدولة على العرض ليومين او ثلاثة . و هذا من شأنه تطوير الكوادر و تحسين التلقي .
  • يقدم المخرج ( ابراهيم حنون ) تصورات عن العرض على اساس لازمة من الخروج عن الحوار المتبادل بين الشخصيات الى دائرة صغيرة من الأيهام لدقائق على اساس فهمه الذاتي
  • ينتمي المخرج ( ابراهيم حنون ) الى المخرجين الذين يقدمون رؤية ذاتية تعبيرية تصل حد العبث و الخلط ما بين التعبيرية و السريالية ، ليبقى داخل اطار الحداثة دون الولوج الى عالم ما بعد الحداثة في عروضه .

* التعبيرية : حركة مسرحية هيمنت على المسرح الألماني مدة في العقد الثالث من القرن العشرين رد فعل حيال الواقعية المسرحية وسعت إلى تصوير الواقع النفسي وليس المظاهر البدنية والأرجح أن الأصل المباشر للتعبيرية يعود إلى المؤلفات المتأخرة لسترندبيرج ، إذ تحاول ( مسرحية الحلم) علناً إلى أن تترجم منطق الحلم وحركته إلى دراما . تيلر،جون رسل: الموسوعة المسرحية ، ترجمة : سمير عبد الرحيم الجلبي ، ج ١، بغداد : دائرة الاعلام ، سلسلة المأمون  ١٩٩،   ص ١٩٥

* مجموعة من المدارس الفنية التي ظهرت في الفترة المحصورة ما بين بداية القرن العشرين و الحرب العالمية الثانية اهمها التكعيبية و المستقبلية و السريالية و الدادائية

[1] –   ينظر سامي عبد الحميد  ، التعبير والتعبيرية في الفن المسرحي ، شبكة الأنترنت ، الحوار المتمدن-العدد: 4258 – 2013 / 10 / 28 – 01:06

([2])  سمير عبد الرحيم الجلبي: معجم المصطلحات المسرحية، بغداد، دار المأمون لترجمة والنشر، 1993، ص42-ص43.

[3] – ينظر أينز،كريستوفر: المسرح الطليعي (من ١٨٩٢ حتى ١٩٩٢ )، تر:سامح فكري(القاهرة مركز اللغات ). والترجمة- اكاديمية الفنون ، ١٩٩٦ )، ص ٨٣

* الكولاج ”  هو تجميع اعتباطي لمواد مختلفة مهملة او متروكة او مختارة ويتم تنسيقها و معالجتها حسب ابعادها سواء ( بالقص و اللصق ) او ( بالتركيب ) لتكوين شكل فني غير مألوف يحمل فكرة جديدة  . ” ظفار المفرجي ، توظيف الكولاج في عروض المسرح العراقي ، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الفنون الجميلة ، جامعة بغداد ، قسم الفنون المسرحية ، فرع الأخراج ، 2015 ، غير منشورة

[4] – اكرم اليوسف ، الفضاء المسرحي ،  المغرب  ، دار المشرق ، ٢٠٠٠  ،  ص ١٠٦

[5] – سامي عبد الحميد ، كواليس التعبير والتعبيرية في الفن المسرحي، جريدة المدى ،  29 / 7 / 2013    –   العدد(28566)

[6] – زياد جلال ،  مدخل إلى السيمياء في المسرح ، عمان ،  المملكة الأردنية الهاشمية ، منشورات وزارة  الثقافة ، ١٩٩٢ ، ص ٢٦

المصدر/ محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *