مسرحية الحريق، حلم يتحق في طنجة المشهدية محمد سيف/باريس

lplمسرحية الحريق كانت بالنسبة لي بمثابة حلم ظل يراودني منذ اليوم الذي استلمتها فيه وهي عبارة عن اوراق، موضوعة في ظرف اسمر اللون، مكتوبة بخط أنيق لأستاذ الاجيال الجليل قاسم محمد. حلم يشبه إلى حد كبير الواقع، ظل يعيش معي دائما، لا اعرف كيف احققه، ولا اين، ولا بأي طريقة، أو كيف السبيل إليه ! ليس لأنني وعدت استاذنا بإخراجه فقط، وانما لأنه كان يتنبأ فيه بالكارثة التي وقعت ولازالت تعيش بيننا مثل مصير قدري لا يمكن التخلص منه؛ كارثة تحاكي وقتنا الحالي من خلال شخصيات قادمة من ثلاثة قرون فائتة لكنها، لازالت قادرة على محاكاة ومقاضاة أوضاعنا المأساوية التي فاقت بشاعتها تراجيديات العصور الماضية. إنها تناص حر، وحي، مع حاضر لازالت آثاره تنحت مستقبلنا الغامض، الذي لم نعد نتعرف فيه على ملامح وجوهنا؛ تناص مع الالة الجهنمية للملك لير وعبثه وتلاعبه في مملكته مثلما يقول، وليس الوطن، والناس، والقانون، والحياة؛ تناص مع لير ما بعد العاصفة، وما بعد تخلي بناته عنه، وما بعد موت الجميع وتحولهم إلى رماد، على انغام هسيس النار الجاهزة دوما وابدا للإشعال في أية لحظة. لهذا لم يبق لصمت بهلول ولا لسخريته مكان في هذه المسرحية. صمت يعبر عنه عجز الكلام والأفعال إزاء تهور الحكام ورعونتهم التي لم تعرف الحدود، وكأنهم انبياء بعثوا لا لكي يصلحوا الأرض، وإنما لكي يتسببوا بالكوارث، وبحمامات الدم، وبالحروب الطائفية، وبتزوير اللغة والاسماء، والقوانين من أجل تبرير أفعالهم.
في هذه الحرائق التي اشتعلت وبات من الصعب اخماد نارها، نرى لير وبهلول وهما يبعثان من الرماد، مثل طائرين فينيقيين، انبعثوا لا لكي يحافظوا على عفة الارض فحسب، وإنما لكي يحدثانا عن تاريخ الخراب الذي حل فيها، وعن اسبابه، وعن امكانية اعادة بنائها من جديد.
لقد كتبت قاسم محمد، هذه المسرحية قبل اندلاع الربيع العربي الذي لم يكن ربيعا، بحصر المعنى، وكأنه كان يتنبأ بما سوف يحدث، مثل راء يعلم بالغيب وبخفايا المستقبل، أو مثل مسرحي يعرف ان يقرأ طالع الايام والأزمان, إن المسرحية تضعنا منذ الوهلة الأولى، في المحرقة والحريق دون مباشرة، تجعلنا نراهما قبل وقوعهما وبعده، وتسمعنا ما قيل من قبل ومن بعد، وما يمكن قوله في المستقبل. لهذا تحتاج منا الرجوع الى الوراء قليلا، لكي نستطيع ان نتقدم معها إلى حيث ما يقودنا قدرنا المسرحي، وبحثنا عن لغة آنية تخاطب المتفرج الذي صار اليوم أكثر وعيا ودراية، ولكي نبتعد عن الاشكال التقليدية المعروفة، سواء في الاداء أو طريقة معالجة العرض، كان لابد لنا أن نلجأ في عملنا الى الفنون الاخرى، مثل: السينما، الفيديو، والفنون التشكيلية، من أجل توفير فائدة للنموذج المسرحي الذي نود تقديمه، وتوليد الخيال فيه بطرق مختلفة، رغبة منا في ادخال جماليات، وعلاقات زمكانية اخرى، تزعزع التماسك السردي للنص، أولا، وتشرك المتفرج في مغامرتنا المسرحية، ثانيا. كل هذا كان بالنسبة لنا، مصدر خوف وحيطة وحذر، دفعنا للتأمل والتفكير بطريقة تجعلنا نبتعد عن نص قاسم محمد وتناصه الحر مع شكسبير، من اجل العثور عليهما ثانية فيما بعد! نبتعد لكي نقترب، ونقترب لكي نذهب بعيدا في آن واحد، في بحثنا عن الشخصيات التي اضعفت وجرى تفكيكها في الكتابات المعاصرة، واصبح مفهومها في الكتابات الركحية موضع تساؤل وتم استبدالها بشكل منظم من قبل الممثل الذي صار يدخل خشبة المسرح دون أن يرتدي شخصية وهمية، كاشفا فيها عن نفسه أولا، ومزيلا ثانيا، القناع الذي كان يختفي وراءه، دون ان يبال بالعواصف التي لم تؤسس بقدر ما تؤخر. لهذا عزمنا انا ورفيقي بالتجربة (عبد الجبار خمران) منذ الوهلة الأولى، بالذهاب إلى قلب الوردة مباشرة، وذلك من خلال الانفتاح على جوهر اللعب في تمريننا للنص إلى الخشبة، بما في ذلك من وجهة نظر الغموض بين الخيال والواقع؟ فصرنا نتساءل بشكل وجودي ويومي: هل بإمكاننا كممثلين ان نصبح حقا اشخاص أخرين أم لا ؟ وإلى أي مدى سنكون نحن ونكون الشخصيات في ذات الوقت ؟! ومتى نبدأ نحن وأين سننتهي لكي تبدأ الشخصيات ؟ أية معادلة شاقة، مثلما يقول قاسم محمد؟! واذا استجبنا كممثلين للتحديات المفروضة من قبل الكتابة المعاصرة، سواء الأدبية أم المسرحية، ما هي الهيئة التي ستمنحها هذه الكتابة وهذا التناص، للعب داخل الإبداع الذي يجب أن يكشف عن الممارسة الشاملة؟ وما هو دور لعب الممثل في مثل هذه المغامرة ؟ كيف يمكن لتمثيلنا أن يكون تطبيق مسرحي معين؟ إذا كان يتغير وفقا أو على أساس تنوع الأساليب الفنية التي تجد نفسها في مواجهة؟

محمد سامي / موقع الخشبة

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *