مخرج برتغالي وخشبة فرنسية لعودة آنا كارنينا / عمار المأمون

 

 

عرض باريسي يتجاوز بأصواته حدود المكان والزمان والمسرحية تبدو اختبارا لميتات كارنينا، وكيف يمكن أن يدفعنا الحب للموت.

بدأ التعاون بين المخرج البرتغالي تياغو رودريغز وفرقة “ستان” المسرحيّة منذ عام 1997، حين شارك رودريغز في ورشة عمل أقامتها الفرقة في ليزبون، وخلال السنوات التالية ازدادت شهرة رودريغز كواحد من الأسماء المميزة في المسرح الأوروبي، إذ قدم مقاربة مغايرة لمفهوم النص وحفظه ودوره في العمل المسرحيّ، كما حصل العام الماضي في عرضه “عن ظهر قلب” الذي نفى فيه مفهوم النص المسرحيّ والممثل المحترف، داعيا الجمهور المتغير في كل عرض إلى لعب أدوار ابتدعها له مراهنا على ثنائية النسيان والتذكر.

ضمن فعاليات مهرجان الخريف لهذا العام، يستقبل مسرح الباستيل في العاصمة الفرنسية باريس عرض “الطريقة التي تموت بها” من تأليف تياغو رودريغز بالتعاون مع فرقة تي جاي ستان. العرض المقتبس عن رواية آنا كارنينا لليو تولستوي يحاول أن يختبر قدرة القراءة على تجاوز الحدود الزمانيّة والمكانيّة والأنواع الأدبيّة، وكيف يمكن لكتاب يقرأه أربعة أن يفعل في مخيلتهم ويغيّر علاقتهم مع بعضهم البعض، خصوصا أن الكتاب يتنقل بين زوجين في ليزبون في الستينات، إضافة إلى زوجين آخرين في أنفيرز في الزمن الحالي، لنرى أنفسنا أمام قراءة معاصرة لرواية تعبر الزمن، يختبر عبرها أربعة آلام البُعد عن الحبيب وتقلبات العشق والخيانة والغضب.

بين الأدب والحياة اليوميّة

يقرأ المؤدون على الخشبة مقاطع من الروايّة التي تتسلل إلى حياتهم اليوميّة وصراعاتها، ليتداخل النص الأدبيّ مع تقلبّات مشاعر الشخصيات، التي تتحرك ضمن ديكور بسيط وتقوم بتغيير ثيابها وأدائها للإيحاء بما يحصل، إذ يحاول العرض أن يختبر قدرة الممثل على الأداء، ودور النصّ في نقل المشاعر وتجسيدها خصوصا إن كانت عن الحبّ، المشابه لذاك الذي تمثّله كارنينا، التي تعشق رجلا لا تستطيع نيله وتخون زوجها في سبيله، مُنتظرة مصيرها التراجيديّ الذي تُعمّق المسافات أثره.

يقرأ المؤدون على الخشبة مقاطع من الروايّة التي تتسلل إلى حياتهم اليوميّة وصراعاتها
يقرأ المؤدون على الخشبة مقاطع من الروايّة التي تتسلل إلى حياتهم اليوميّة وصراعاتها

يُقدم العرض بثلاث لغات ينتقل بينها الممثلون، وهي الفنلنديّة والبرتغاليّة والفرنسيّة، كما أنّه مقتبس عن رواية روسيّة. هذا التنوع ذو هدف جماليّ لرصد أثر الترجمة على فعل القراءة، لا بوصفها فقط أصوات منطوقة لذات “المعانيّ”، بل أسلوبا لتبني الكلمات ومعانيها التي تختلف بين اللغات ما يترك أثرا على المخيّلة والفعل المسرحيّ، لتتجاوز “الرواية” وظيفتها كنصّ يردد الممثلون كلماته، وتصبح غرضا سحريّا يعيد تكوين العلاقات بينهم، يقتبسون منها ويقرأون حيواتهم وعواطفهم عبرها، فالرواية لا تغادر الخشبة، بعكس الشخصيات التي نراها أمامنا، لنرى أنفسنا أمام حياتين يعيشهما الأزواج، الأولى يوميّة باردة بلا مشاعر، والأخرى في الروايّة، حيويّة ومليئة بالعواطف.

تتحرك الرواية بين الأيديّ، فالكتاب الذي يقرأ منه الممثلون أشبه بباب نحو عوالم تُشابه الحقيقية، وتحوي احتمالات جديدة يمكن أن تجمع المُحبيّن وتتيح لهم تسميّة ما يشعرون به، وهنا تكمن قدرة الروايّة النفسيّة، فهي تضفي معنى لا فقط على الواقع، بل على الفعل المسرحيّ نفسه، وتدفع الشخصيات نحو احتمالات أخرى لم يكونوا يدركونها، كحالتنا نحن حين نقرأ ونختبر “الحقيقة المتخيّلة” بوصفها خلاصا ما، وأملا يدّلنا على أخطائنا أو ما نعجز عن تحقيقه.

هذا الغرض/ الرواية ذو تاريخ متغيّر، فهو في أنفيرز حيث الزوجين الأولين، ميراث من والدة فرانك، الذي يقرأ منه حين يكتشف خيانة زوجته له، أشبه بدليله لحل مشكلاته، لنراه معادلا عن وجهة نظر الرجل، في حين أنه في ليزبون يقدم وجهة نظر المرأة، تلك العاشقة التي تريد أن تهجر زوجها لأجل من تحبّ، ليصبح الكتاب مساحة للحوار بين الأربعة، خالقا صدقا مُتخيلا يعبّر عن مشاعر كل واحد منهم.

تتفكك الرواية حولنا، رمزيا وفيزيائيا، إذ تتناثر صفحاتها على الأرض الخشبة، وكأنها أصبحت “حقيقية”، كما تستبدل الشخصيات أحيانا تفاهة الحياة اليوميّة بكلمات آنا كارنينا الأدبيّة، ليطرح هنا السؤال عن الفرق بين الواقع والمتخيل، بين ما قرأناه واختبرناه في الرواية وبين ما نعيشه يوميا، لتبدو القراءة كأسلوب لبناء الذات وإعادة تكوينها، فكل ما نقرأه يُصبح جزءا منّا، يعلّمنا ويعيد تكويننا أمام أنفسنا وأمام “الحقيقي” الذي نختبره، خصوصا أن المسرحية ليست إعادة إنتاج مسرحيّ لآنا كارنينا، بل محاولة لجعلها جزءا من الصراع الدراميّ.

ميتات كارنينا

القراءة تعبر الزمان والمكان
القراءة تعبر الزمان والمكان

أسلوب عمل رودريغز مع الفرقة مثير للاهتمام وهذا ما يقوله الممثلون في لقاء معهم، فهو يدوّن كل شيء يدور، حتى لو كان خارج إطار العرض، ويعتمد آراء الممثلين بخصوص ما أحبوه من الرواية وما يريدون قراءته، لتكون علاقتهم مع النصوص عضوية وعاطفيّة، بوصفهم أفرادا لا مجرد ممثلين يؤدون شخصيات، كما أن رودريغز لا يعتمد فقط على كسر الجدار الرابع، بل يراهن على الانتقال بين “الممثل” وبين “الشخصيّة” لخلق لحظة التصديق التي يتشاركها كل من الجمهور والمؤدين، هذه اللحظة التي تتحول فيها الخشبة إلى مساحة متخيّلة، وينقلب كلام من عليها من مجرد “ترديد” للحوار إلى أداء يرتبط بهم جسديا وعاطفيا ويعكس “تصديقهم” لما يقولونه.

اختيار العنوان يأتي من رغبة أعضاء الفرقة ورودريغز لعكس أشكال الموت التي تنتهي بها كارنينا،  فهي تنتحر حين ترمي نفسها تحت قطار في القرن التاسع عشر، لكن معنى هذا الموت وشكل القطار وأسلوب الانتحار يختلف لدى الشخصيات، فكل يقرأ بلغة وضمن زمن مُختلفين، وهنا تبرز قيمة العرض كأسلوب للحوار مع الفنّ الروائيّ وتقنيات الترجمة، والأشكال المتعددة التي تأخذها القراءة، سواء كانت “متخيّلة” يجسّد فيها القارئ النص أمامه كما يحدث على الخشبة، أو “شخصيّة “نمارسها بصمت مع الكتاب، ما يجعل الرواية قادرة على احتلال المكان الواقعي ومساءلة تعريفنا ضمنه وكيفية شعورنا تجاهه؟

يرى رودريغز أن هناك سرّاً في الشخصيات التراجيديّة المؤنثة ككارنينا ومدام بوفاري وأوفيليا وأنتيغونا، هي تأسرنا لأننا لا نفهمها، وكأنّها تحوي جزءا خفيّا وسحريّا يجذبنا لها، مع العلم أن هذه الشخصيات الكبرى معروفة المصائر، لتبدو المسرحية اختبارا لميتات كارنينا، وكيف يمكن أن يدفعنا الحب للموت مهما كانت الحقبة التي يحدث ضمنها.

____________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني