فولتير وروسو يتخاصمان على خشبة المسرح : أبو بكر العيادي

 

المصدر : العرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

فولتير وروسو” مسرحية تستعيد الخصومة التي نشبت بين عبقريين من عباقرة القرن الثامن عشر، بين فولتير الخطيب المفوه والناقد اللاذع والأرستقراطي المهذب، وجان جاك روسو المفكر الموزع بين مثله الأخلاقية السامية وصعوبة عيشه في مجتمع البشر.

لا تزال الخصومة بين فولتير المناهض للكنيسة والداعي إلى التسامح، وبين روسو المدافع عن المساواة بين البشر والتائق إلى عقد اجتماعي ينظم علاقتهم بعضهم ببعض يرتد صداها حتى الآن في الوسط الثقافي الفرنسي، وقد استوحى منها جان فرنسوا بريفان مسرحيته الجديدة، واكتفى باسمي العبقريين عنوانا لها “فولتير – روسو” بتسبيق الأول أي فولتير(1694 /1778) لكونه أكبر سنّا من خصمه روسو (1712-1778).

والرجلان يختلفان في كل شيء (باستثناء سنة الوفاة) بدءا بالنشأة، ففولتير (واسمه الحقيقي جان ماري أرويه) ولد في عائلة برجوازية وحظي بما يحظى به أبناء الموسرين من تعليم ورفاه، ولكنه نفي إلى إنكلترا بسبب نقده اللاذع للكنيسة، ورغم أنه اكتشف في منفاه الإنكليزي الممارسات الديمقراطية لذلك البلد، فقد دفعه حب التشريفات إلى مخالطة الملوك إثر عودته من المنفى، من لويس الخامس عشر إلى فريدريخ الثاني ملك بروسيا الذي اعتبره “طاغية مستنيرا” لشغفه بالفلسفة، وليس غريبا أن يتماهى مع البرجوازية الثقافية ويخص الكنيسة الكاثوليكية بمقالاته اللاذعة حتى صار يلقب بالملك فولتير.

أما روسو فقد رأى النور في عائلة بروتستانتية متواضعة بجنيف، وعرف التشرد في صباه قبل أن تحتضنه عائلة برجوازية في منطقة شامبيري، ثم انتقل إلى باريس وتعرّف إلى دالمبير وديدرو، ولم تتجل موهبته إلاّ بعد أن شارف الأربعين عندما نشر كتاب “خطاب في العلوم والفنون”، تأسيسا لمنظومة فكرية ستكون سببا في ذيوع صيته.

ولئن كان فولتير جسورا جريئا حامي الطبع، فإن روسو كان ذا حساسية مفرطة، ينزع إلى التأمل وحيدا، ليؤكد أن الإنسان خيّر بطبعه وما انحرف إلاّ بسبب الحضارة والمدنية، وأن ظهور حق الملكية هو مصدر كل الشرور، ومن ثَمّ يدعو إلى إقرار الديمقراطية، ومساواة الجميع أمام القانون، بفضل عقد اجتماعي يشرف عليه شعب ذو سيادة مطلقة.

وكان أن قابل فولتير تلك الأفكار بسخرية، لا سيما تلك التي تتعلق بآداب الطبقة الأرستقراطية، لصلته المتينة بالملوك والميسورين، وندد بإدانةِ روسو الراديكاليةِ للفوارق الاجتماعية، ثم تصاعد الخلاف تدريجيا عبر رسائل نارية متبادلة حتى عاب فولتير على خصمه إهماله لأطفاله الخمسة، فتأثر روسو تأثرا بالغا دفعه إلى تأليف كتاب “الاعترافات”.

فولتير كان جسورا جريئا، في حين كان روسو ذا حساسية مفرطة، ينزع إلى التأمل وحيدا، ليؤكد أن الإنسان خير بطبعه

وتنطلق مسرحية “فولتير – روسو” عام 1765، حين طُرد روسو من سويسرا وجاء يزور فولتير في مسكنه بفيرني وسط فرنسا، ولم يكن له من غاية سوى التأكد ما إذا كان مؤلف “كانديد” هو صاحب المقالة الهجائية المجهولة التي اتُّهِم فيها بإهمال أطفاله الخمسة وتركهم في مستشفى عمومي.

تبدأ المسرحية في شكل كوميديا بوليسية مثيرة تتخللها تقلبات مفاجئة قبل أن تتحول إلى خصومة فلسفية، من خلال جدل حام وشجار أشبه بشجار الأزواج يتبادل الرجلان البارزان الشتائم، ويتقاذفان الأطباق وقطع الأثاث، ويتنازعان الأفكار عن التربية والله والمساواة والحرية والمسرح.. فيكتشف المتفرج ما يفرّق ويوحّد هذين العملاقين من رؤى سابقة لعصرهما، سوف تجني منها الإنسانية فوائد جمة، وهي رؤى ناجمة عن نفس المشغل الفكري: الإنسان وتطور المجتمع.

والخلاف بينهما كما يتبدى في هذه المسرحية ناجم عن الفرق العميق الذي يتمثلان به العالم، والإنسان، والمبادئ الكبرى التي يقوم عليها المجتمع، ورغم اهتمام كل واحد منهما بما ينشره الآخر، ومتابعته والتعليق عليه، فإنهما لم يتفقا على شيء، فكلاهما كان صورة حية لما ينبذه الآخر.

ولئن كانت وضعية الانطلاق متخيلة، فإن فحوى الجدل الذي دار بينهما، واتخذ وجه الخصام الحاد، مستمد في الغالب من أعمالهما، كان فولتير في الواقع يعيب على روسو ارتكابه قدرا كبيرا من الرذائل والجرائم أفظعها في رأيه عدم احترامه الدين.

ويذكر المؤرخون أن فولتير كان نشر في جنيف عام 1764 مقالة لاذعة غير موقعة بعنوان “شعور المواطنين”، يصف فيها روسو بالمهرج ويتهمه بالإساءة إلى الديانة المسيحية، قائلا “أن تكون مسيحيا وتريد تدمير المسيحية، فذلك ليس كفرا فقط، بل خيانة”، وكتب أيضا في المقالة نفسها “.. هذا رجل لا يزال يحمل الآثار المعيبة لفسوقه، ويجرّ تحت قناع المهرج الذي يتبدى فيه أسوأها.. إذ عرض أطفاله على باب أحد المستشفيات، متنكرا لكل مشاعر الطبيعة تنكُّرَه للشرف والدين اللذين خلعهما عنه”، وهو ما لم يغفره له روسو.

والمسرحية في النهاية تتناول مواضيع لم تفقد راهنيتها، إذ تبيّن أن أي مسعى أيديولوجي يمكن أن يحوي بذورا توتاليتارية، فروسو هنا هو مستبد خطر باسم الفضيلة، مهيأ لتصحير حياة الناس، لا سيما حديثه عن الآثار الشريرة للمسرح، ولكنه يتبدى أكثر صدقا من فولتير، وأقرب إلى واقع الحال في فرنسا اليوم بفضل طريقته في تمجيد الفرد، وقد أبدع جان بول فارّي في دور فولتير وسرعة غضبه وحدة لهجته، مثلما تميز جان لوك مورو في إظهار روسو كرجل حساس، مثير للشفقة والسخرية أحيانا، ولكنه ذو مشاعر إنسانية عميقة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *