فــــــــن الأداء.. خـــــــلاصــــــة الــــفــــنـــــــون المـــعـــاصـــــرة د. مازن المعموري

يعتبر الوقت عاملا حاسما في فن الاداء, فهو ممارسة تستند الى الوقت, اذ لا يمكن تجاوز مدة ثلاث ساعات كحد أقصى الا في حالات الاداءات التي تخص موضوعة التحمل, كالاداءات التي تخص الرياضة او مثيلاتها. من هنا تأتي صور عديدة في ذاكرة هذا الفن مثل (كريس بيردن، تبادل لاطلاق النار، / 1971) (مارينا ابراموفيتش, المقابلة وجها لوجه 1980) ( فرانكو, بعنوان أنا انت 2002/ Franko B, I Miss You) حيث مشى فرانكو صعودا وهبوطا المنصة وسط القاعة والجمهور, وهو ينزف من الأوردة من ذراعيه، والدم يلوث طلاء الأرضيات المغطاة بقماش أبيض .
في كثير من الاحيان يعد فن الاداء فنا محفوفا بالمخاطر بشكل عام , ولكن هناك عدة مسارات تخص الحياة العامة واليومية واعمال الوظائف مثل اعمال دينيس أوبنهايم (Dennis Oppenheim) إذ استخدم الفوتو لالتقاط أثر احتراق البشرة على صدره عندما وضع كتابا مفتوحا لفترة محددة ليبقى اثر حدود الكتاب على الجلد عام 1970. كما دعا الفنان جوزيف بويس عام 1972, الجمهور للحوار حول الديمقراطية والسياسة على مدى 100 يوم في دوكيومنتا 5. بامكاننا ان نتصور الفنانة بيبيتي ريست  (Pipilotti Rist) تمشي على طول شارع المدينة وتقوم بتحطيم نوافذ السيارات المتوقفة على جانبي الطريق عام 1997, هذه الفعاليات وغيرها كانت هي الجذر الاساسي لفن الاداء في كل انحاء العالم .
هناك جانب مهم لا بد من الاشارة له, الا وهو تعارض الاداء مع المسرح , فالاداء غير التمثيل بالمعنى الحرفي للكلمة, ان وقت الاداء هو بناء خاص للفنان, ففي عمل كيرا اوريلي (Kira O’Reilly) 2005, تعمل على قص شيء من جسدها قطعة قطعة بالمشرط, حيث يصبح موضوع إيذاء النفس مشهدا تدميريا للذات المقابلة , كلا الطريفين ( المشاهد والفنان ) يعيش تجربة الالم .
ان البداية الحقيقية لفن الاداء هي في 20 شباط 1909, حسب كتاب روزيلي غولدبيرغ ( فن الاداء ) في اليوم الذي نشر فيه أول بيان للمستقبلية في صحيفة لو فيغارو, في محاولة لتأسيس نظرية لتطوير فن التشكيل في ضوء البنائية والدادا والسريالية والباوهاوس, ولا يمكن تجاهل الموسيقار المعروف جون ميلتون كيدج( 1912-1992) , وهو ملحن أمريكي وصاحب نظريات موسيقية وكاتب وفنان. ويعتبر رائد عدم التعيين الموسيقي والموسيقى الكهرسمعية والاستخدام غير التقليدي للآلات الموسيقية، كما كان كيدج واحدًا من الشخصيات البارزة في المسرح الطليعي في فترة ما بعد الحرب, وكذلك ممارسات الفنان الايطالي بيرو مانزرني , والفنان ايف كلاين, وجوزيف بويس, هذه الجذور تبدو منتميه الى الفنون البصرية , لكنه يأخذ ببساطة من جميع الفنون حسب قول غولدنبرغ لفنون الأداء التي تشمل مختلف التخصصات من المسرح والرقص والفنون البصرية والموسيقى وحتى السينما. فيما تظهر لنا عبر تاريخ الفن ثلاث منابع اساية لفن الاداء هي :
1ـ تاريخ المسرح ويبدأ من مطابقته للواقعية .
2ـ تاريخ الرسم ويكسب قوته من اداءات جاكسون بولوك على اللوحة .
3ـ قيمة الجسد وتاخذ قوتها من ممارسة قبيلة الشامان , واليوغا , وممارسات العلاج القديمة .
يشير مك إيفلي (McEvilley), الى ان الانطلاقة الحقيقية لفن الاداء كانت على يد هارولد روزنبرغ, كفاصلة تاريخية في مقاله المعنون (The American Action Painters   / الفعل الاميركي للرسامين ) فيما يشير في معرض حديثه, الى إن ما يحدثه الرسامون على قماشة الرسم ليس صورة وانما الصورة هي نتيجة حدث الرسم او فعله, ان الاعمال الفنية الخاصة بالاداء هي الاحداث المعنية في جوهرها بالمعاش في الحياة , كما لو ان الجسد يتنفس في شكل يؤطره الفن. فالفلم الوثائقي للفنان جاكسون بولوك عام 1950, يقدم لنا وصفة واضحة المعالم عن ادائه على العمل الفني الذي يعتمد الارتجال في رمي ورش الالوان على قطعة القماش .
في تلك الفترة كان الاداء لا يستدعي الجمهور , حتى بدأ العمل على استخدام جسد الفنان ذاته في العمل الادائي, فالاعمال المنجزة في ستوديوهات الفنانين امام الكاميرا باعتبارها مصدرا للعمل بدأ في الفترة من 1966-1967, على يد الفنانين (جلبرت وجورج) مستخدمين خواص النحت والغناء في اعمالهم , ومن ثم بدات حالات الخروج الى الشارع في المراحل القادمة, ففي عام 1980-1981, بقي الفنان تيجنك هسيه (Tehching Hsieh) واقفا في الهواء الطلق مدة عام واحد بالكامل في مدينة نيويورك والناس يمارسون حياتهم الطبيعية, وبعد ذلك انتقل فن الاداء من مرحلته الرمزية حيث يختفي الفنان خلف التصوير والفديو والقصص الى الحياة العامة والاعمال سريعة الزوال, حيث قدمت الفنانة ألينا أوكيلي (Alanna O’Kelly) عام 1995, أداء حيا في مبنى دير سانت ماري في دبلن, وهو مبنى من القرن الثاني عشر في ظل اجواء مظلمة وقديمة, دون استخدام التصوير او الفديو , لكن الموضوع بقي مسجلا في سجلات الكنيسة حتى الان  .
في الواقع. إن فن الاداء يعيش في الحاضر , وهو لهذا أكثر تاثيرا من الاعمال الفنية الاخرى, بسبب تماسه المباشر مع الجمهور, وخلق حوار بين الناس, كل ذلك يأتي بشكل او باخر, ردا على ضغط الحياة المعاصرة وتسليع الفن بصفته موقفا سياسيا وثقافيا واضح المعالم , لكنه معقد وخطير في ذات الوقت . لذا نجد ان الاعمال التي تنتمي لفنون التواصل مع الجمهور قد اخذت جانبا مهما من جوانب فن الاداء , مثلما حدث مع تينو سيغال (Tino Sehgal) الذي قدم عام 2004, ممارسات تتجاوز التصوير والفديو الى اقامة حوارات في قاعات العرض تخص الفن والمفاهيم الجمالية بشكل مباشر بين الاشخاص بمشاركة زوار المعرض في ضوء فكرة سيغال التي تعتمد سياقا خاصا تؤكد فيه على ان مؤسسات الفن يجب ان تكون امتدادا للحياة والمجتمع وليس بديلا عن الفن, فيما يقدم لنا أدريان هيثفيلد (Adrian Heathfield) محاولة جديدة لوجود شخصين او اكثر ليعيشوا فترة من الوقت في مفارقة أثنين برغبات مستحيلة, ليكون حاضرا في هذه اللحظة , مع وجود الفديو والتصوير بشكل خفي.
إن حركة الابداع العالمي وبالذات تلك الاعمال الادائية تشكل احد اهم مظاهر الفن المعاصر اليوم بكل تفاصيلها التي تضعنا امام تساؤل كبير عن جدوى البقاء في ظل أساليب فنية غابرة , لم تعد قادرة على العطاء والتفاعل مع الحياة , وفي العراق بالذات مازال الفنان العراقي متمسكا بافكار الفن القديمة والتي أكل الدهر عليها وشرب, والسؤال اليوم هو ماذا يفعل الفنان لمواجهة كل هذا العدم الذي نعيشه؟

المصدر/ المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *