‘فاوست’ أميركي في عرض مسرحي غنائي/عمار المأمون

يعتبر المخرج الأميركي روبرت ويلسون من روّاد المسرح التجريبي في القرن العشرين، وقد عمل مع العديد من الأسماء العملاقة في عالم المسرح مثل هاينر ميولر وإيزابيل أوبيرت، وخلال هذا العام يستضيف “تياتر دو فيل” في باريس سلسلة من العروض المسرحيّة التي يتعاون فيها معه كمخرج ومع فرقة “برلين أنسامبل”، أول هذه العروض هو “فاوست” للألماني غوتة، حيث يأخذنا ويلسون في رحلة تمتد أربع ساعات في العوالم الجهنميّة للخيميائي والفيلسوف والطبيب فاوست، وبحثه عن المعنى والحب الذي فقده، ومعاناته إثر الصفقة التي أجراها مع الشيطان والتحولات التي مرّ بها إثر ذلك.

يقول ويلسون في لقاء معه إن أول التحديات التي واجهته قبل إنجاز العرض هي إخضاع نص غوتة الطويل “للمونتاج”، وخصوصاً أنه يعمل على فرضية تجعلنا نفقد القدرة على التمييز بين فاوست ومافيستو، وضرورة بناء المَشاهد بصرياً بما يتلاءم مع هذه العلاقة الملتبسة.

فالعرض الذي يستند إلى نص غوتيه بجزأيه عبارة عن أوبرا معاصرة، أو بصورة أدق “pop opera” وما يحمله هذا النوع من غنى بصري وموسيقي، إذ نشاهد الفرقة الموسيقية في فجوة الأوركسترا، كذلك العدد الكبير من الممثلين المشاركين في العرض، ليتداخل الأداء مع التمثيل والرقص والموسيقى المعاصرة تأليف هيربيرت غرونماير، إلى جانب المراوحة في الإيقاع، بين البطء المتوجس الذي يميز اشتغالات ويلسون، إلى الحركة والرقص الصاخب الذي يعكس عوالم فاوست الغارق في اكتشاف لذّاته وخيباته في ذات الوقت.

تداخلت في العرض عناصر شتى وبرز الرقص والغناء وخفة الإيقاع في الحوار

“اثنان يساوي واحد” هذه الصيغة التي اعتمدها ويلسون لبناء العلاقة بين فاوست ومافيستو (الشيطان)، فكلاهما يتحول إلى شخص واحد، مترافقان دوماً، لا حدود فاصلة بينهما، أشبه بكائن “مخنّث” حسب تعبير مافيستو، لا فصام بينهما، هما اليمين واليسار مجتمعان معاً، وهذا التضاد يبرز في القسم الثاني من المسرحيّة بصورة واضحة، ففي البداية نرى فاوست أربعة أشخاص وغريتشن ثلاثة، هذه الانقسامات تتلاشى لاحقاً، كلما أمعن فاوست في بحثه وتوطدت علاقته مع مافيستو، أي كلما ازداد انحيازاً لصفقة الشيطان، يترافق ذلك مع الكوميديا بوصفها هزءاً من القواعد وإمعاناً في السخرية منها، بوصفها تنتمي للعقل والمنطق، لا كفاوست الذي يتجاوز هذه المفاهيم.

نلاحظ في العرض أن مافيستو يمتلك صلاحية الحديث مع الجمهور، هو الوحيد الذي يدرك أن ما يحصل على الخشبة هو اختبار لفاوست نفسه، واستعراض لقدرته كشيطان على الغواية والإقناع، هذه القدرة يغذّيها طمع فاوست وشبقه للمعرفة من جهة ولغريتشن من جهة أخرى، هذه الصيغة تبرز الكوميديا مرة أخرى، وهذا ما يصرح به ويلسون “لا يمكن لتراجيديا أن تكون عظيمة دون كوميديا في داخلها”، إذ نرى مافيستو يهزأ من العازفين ومن الآلهة نفسها، يمتد الأمر لفاوست نفسه الذي يبدأ بإدراك الاختبار، إذ يكسر مافيستو أحد قرنيه ويعطيه لفاوست، ما هو كوميدي يتحول إلى تراجيدي، التخنيث بوصفه حالة “مَسيخة” مرافقة لكلّ من يطلب المعرفة، كحال أي بطل تراجيدي، لا بد من عيب بيولوجي كي يحدث التحوّل نحو المأساة.

تنعكس العوالم التي يحويها النص ضمن فضاء العرض، ففاوست حسب تعبير ويلسون “تارة هنا، تارة هناك” وهذا الانتقال يترافق مع تغير الفضاء بصورة دائمة، إذ تتابع الأحداث والرحلات وكأنها قفزات في الزمن، ضمن آلة عملاقة ألوناها وأضواؤها تتغير في كل رحلة، من الفراعنة إلى اليونان، يكتشف فاوست التاريخ ويلامسه عن قرب، لكن دون أيّ إحالة مباشرة إلى “الآن وهنا” إلا ضمن التقنيات المستخدمة، لا ضمن بناء العرض الحكائي نفسه، فحسب تعبير ويلسون “الأعمال الكبرى” تحوي موضوعات “الآن” في ثناياها، ولا حاجة لطرحها مباشرة، كمن يبحث عن هاملت في السوبر ماركت.

المصدر/ العرب

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *