علاقة الفن بالسلطة تتجلى صارخة في مسرحية ‘عن حق وباطل’

لا يزال الفنان ميشيل بوكيه يقف شامخا على خشبة المسرح، لم تُفقده أعوامُه التسعون رغبةَ التواصل مع محبّيه، ولا قوةَ ذاكرته وحضورَ بديهته، وقد أثبت مرة أخرى، من خلال أدائه الرائع لدور قائد أوركسترا في مسرحية “عن حقّ وباطل” التي تعرض حاليا بمسرح “بيرتيلو“ بباريس، أنه من طينة العمالقة، رغم أنه ينفي، بتواضعه المعهود، تميّزه عن سواه، ويعترف بأنه لا يزال يحس برهبة المبتدئين في كل عمل يُقبل عليه.
بعد خمس سنوات أدى فيها ميشيل بوكيه باقتدار دور الملك بيرانجيه الأول في مسرحية “الملك يموت” ليونسكو، انتقل إلى دور آخر لا يقلّ عنه تعقيدا في مسرحية “عن حقّ وباطل” للكاتب الإنكليزي رونالد هارْوُود، تلبية لرغبة فرنسيس لومبراي الذي يدير مسرح “بيرتيلو” منذ 2013، ويشاركه فيها دور البطولة.
تقوم المسرحية على مواجهة بين شخصين يحمل كل منهما فكرة معينة عن الفن وعلاقته بالسلطة السياسية، الأول هو الألماني فيلهيلم فورتفانغلر (1886/ 1954) أحد كبار قادة الأوركسترا في العالم بفضل أدائه الفريد على رأس فيلارموني برلين منذ عشرينات القرن الماضي حتى وصول هتلر، إلى جانب إبداعاته الموسيقية والسيمفونية، والذي يعتبره أهل الذكر أفضل مؤدٍّ للتراث الفني الألماني والنمساوي. والثاني هو الرائد الأميركي ستيف أرنولد الذي تولى استجوابه في نطاق حملة تطهير المجتمع الألماني من الفكر النازي ومعتنقيه، عقب انتصار الحلفاء ودخولهم برلين، والتهمة الموجهة لذلك الموسيقي الشهير هي: أولا مصافحته الفوهرر عقب عرض موسيقي لفرقة برلين، ثانيا، اختياره البقاء في ألمانيا تحت الحكم النازي، والحال أن أغلب زملائه هاجروا إلى المنافي الأوروبية والأميركية.
 
وبالرغم من أن الرجل كان بعيدا عن السياسة، إذ لم ينخرط في الحزب القومي الاشتراكي ولا في الدعوات النازية، بل إنه أنقذ حياة عدد من الموسيقيين اليهود وساعدهم على الهجرة، فإن مواصلته إدارة فيلارموني برلين وتقديم سهرات موسيقية تحت حكم الرايخ الثالث أثارا كراهية عدد من أهل الفن ممن يحسدونه على تألقه وبروزه، مثل أرتر روبنشتاين وفلاديمير هوروفيتش، ومن جانب من المثقفين الألمان الذين غادروا البلاد، كالكاتب توماس مان الذي وصفه بـ”خادم الرايخ”.
 
المواجهة التاريخية بين الرجلين، التي اعتمدها المؤلف الإنكليزي استنادا إلى مذكرات الضابط الأميركي، كانت ذات علاقة فوقية، بين منتصر ومتّهم بالانتماء إلى المهزومين يحاول الدفاع عن نفسه ما استطاع، وهو الذي عرف عنه ضعف إمكاناته التعبيرية، وغموض خطابه. أما المواجهة الركحية فكانت غير متكافئة، ففرنسيس لومبراي لم يوفق كثيرا في إضفاء العمق على شخصية المستنطِق، وظلت صورة اليانكي متصلبة، فاقدة لتلك التفاصيل الصغيرة التي تضفي على الشخصية نوعا من الغموض، فيما كان أداء بوكيه متميزا كالعادة، إذ استطاع أن يؤلف شخصية معقدة، مليئة بالمتناقضات، وينسي المتفرج فارق السنّ بينه وبين الشخصية الحقيقية (ففورتفانغلر كان عام 1946 في الستين).
 
وبين اتهامات الضابط الأميركي (الحفلات التي قدمت بحضور هتلر، بعض ما ينسب لقائد التخت الأوركسترالي من أقوال معادية للسامية، اتفاقه المزعوم مع الرايخ الثالث للبقاء على رأس البيرلينر..) ودفاع هذا الموسيقي الذي يفضل فاغنر على نيتشه وباخ على بيتهوفن (حاجته إلى البقاء مع شعبه، وأن يكون الضامن للثقافة الألمانية، وجهوده في مساعدة اليهود، ورفضه ترك فرقته للبرابرة..)، تبدو الحبكة ثقيلة أحيانا لولا توسّل المخرج جورج فيرلر بتقنية الأشرطة التلفزيونية المبنية على التصعيد والتشويق و”الفلاش باك”، وإن كان من المعروف تاريخيا أن فورتفانغلر تمت تبرئة ساحته عام 1947، وعاد إلى إدارة الأوركسترا البرلينية إلى أن فقد سمعه عام 1952 أي قبل عامين من وفاته في بادن بادن.
 
لقد عرف ميشيل بوكيه كيف يزاوج بين ما يعتري فورتفانغلر من تحفظ متعال وشغف يائس، فينفعل أحيانا أمام تهم اليانكي الذي لا يرى فيه إلاّ مرتشيا قايض بقاءه بعطايا سَنيّة، ثم يعود ليتخذ نبرة هادئة منكسرة، فيتبدى باردا أو ساخرا أو ناطقا بقيم إنسانية عميقة. وعندما يتحدث عن الفن والتسامي الذي تخلقه الموسيقى، وهو الذي شهد له معاصروه بالنبوغ والتفوق، حتى أن الفنانين الأميركان رفضوا تعيينه على فيلارموني نيويورك في أواسط عشرينات القرن الماضي، خلافا للجمهور الذي انبهر به وبفرقته، حينها يكتسي ملامحَه إشراقُ من حاز أسرارَ الإلهام.
 
وعندما يسكت عن الكلام، يائسا من إمكانية إقناع الضابط ببراءته، تنهض زوجته جولييت كارّيه في دور محامية متطوعة تنفي عنه التهمة وتبعد عنه الشبهة مستعينة بأسماء معروفة في دنيا الفن الموسيقي وقفت مع وكيلها، مبينة بالحجة وجود لوبي من الموسيقيين في العالم يريد إدانة فورتفانغلر للتخلص منه، إما عن سوء فهم لما جرى، وإما بدافع الغيرة والحسد. في خلفية هذه الحادثة التاريخية تبرز وجهتا نظر، يختلط فيهما الحق بالباطل، الأولى تدين كل من يقرب الطغاة، ولو بغير رغبته، وتدعو إلى حسابه حسابا عسيرا ليكون عبرة لمن يعتبر، والثانية تضع الفن في المقام الأول، ولا يهمها إلاّ خدمته، في شتى الظروف ومختلف الأجواء.
——————————————————————-

المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  أبو بكر العيادي – العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *