عسكري سابق يحتجز زوجته وحفيده في نيران حرب وهمية – عواد علي

 

ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر عرض المخرج العراقي عماد محمد مسرحية “رائحة حرب” على مسرح السلام في القاهرة، وهي مسرحية اشترك في تكييف نصها الكاتبان مثال غازي (من العراق)، ويوسف بحري (من تونس) عن رواية “التبس الأمر على اللقلق” للروائي الفلسطيني أكرم مسلّم.

تتطلب الكتابة المسرحية التي تقتبس نصا أدبيا التحوير فيه، تتطلب الخشبة اشتغالا مختلفا على النص المسرحي، الذي يذهب بدوره في رحلة بحث وفهم أخرى لدى المتلقي، وهذا ما يجعل من المسرح فنا حيا متجددا دائما.

نصان شكلا المسرحية

في الرواية يسرد مسلّم مأزق الهوية الفلسطينية المركبة والمحاصرة في ظل الاحتلال، وإشكالية الحدود بين فلسطين والأردن، خاصة في ما يتعلق بسكان الضفة الغربية الذين تمارس السلطات الإسرائيلية عليهم سياسة قطع التواصل بينهم وبين أقربائهم في الأردن بدواع مجحفة أقلها الدواعي الأمنية. أما النص المسرحي المكيّف، والمكتوب بصيغة انزياحية، فيقوم على ثلاث شخصيات فقط هي: الرجل العجوز، أو الجَدّ (أدّى شخصيته عبدالستار البصري) الذي يرتدي ملابس جنرال، متشبثا بدوره العسكري المنقرض، وبحدّة طباعه العسكريّة، ويدعو إلى الحرب، متوهما أنها نموذج للحياة الطبيعية، ويسخر من الخائفين منها، والشاب الحفيد القلق (أدّى شخصيته أمير إحسان) الذي مات أبوه في الحرب فجزع من كل ما يتعلق بالحرب، وهو يمثّل شريحة واسعة من الجيل الشاب العراقي والعربي الذي يحاول تجاوز ذكريات الحرب الأليمة، ويبحث عن النقاط المضيئة، والمرأة العجوز، جدة الشاب (أدّت شخصيتها بشرى إسماعيل) التي تعرف كل أسرار زوجها الجنرال وخياناته وحماقاته.

تطرح المسرحية فكرة الالتباس السياسي والديني والاجتماعي في المجتمع العراقي والعربي، وما حدث لاحقا من حروب وتطرف وإرهاب جاءت نتيجة لهذا الالتباس. بمعنى أن كاتبيها التقطا فكرة الالتباس فقط من الرواية، وتجاوزا كل التفاصيل التي تسردها، باستثاء ما يتعلق بحادثة قتل الجدّ لزميل له في الجيش، وزيارة الحفيد لعمه السجين، الذي يُشار في المسرحية إلى أنه سجين بسبب فراره من الجيش ورفضه المشاركة في الحرب، لذلك يتهمه الجدّ بالجبن ويرفض زيارته.

أدار الكاتبان المسرحية في فضاء واحد هو غرفة في بيت متواضع تتوسطها طاولة، وتتوزع على جدرانها صور كثيرة للأبناء القتلى في الحرب، وصورة للجَدّ باللباس العسكري، وبدآها من موقف متوتر، يظهر فيه الجد غاضبا بسبب انتشار التراب في كل أجزاء الغرفة. وحين يتهم الجدّ زوجته بأنها قد كبرت وهرمت، وما عادت تنفع لشيء، ينفجر الصراع بينهما، ويهجم أحدهما على الآخر، لكن الحفيد يتدخّل ويمنعهما من التصادم.

من مفردة الحرب تنكشف شخصية الجَدّ الذي تقاعد عن منصبه العسكري، لكنه لا يزال متقمصا دوره، وطباعه الصارمة، وأسلوبه الدموي المناهض لأي تفاهم، فهو لا يستسيغ سوى لغة الدم والموت والقتل، حتى حين يسأل أقرب الناس إليه؛ زوجته وحفيده، هل أنا على قيد الحياة؟ يكون سؤاله مضبّبا بالشك، فهو رجل لا يعرف غير الموت. وعلى الرغم من أنه يتنفس هواء الحياة ظاهرا فإن روحه ميتة تماما. وإيغالا في تجسيد نزعته المتعطشة إلى أجواء الحرب والقتال، على نحو غير معقول، يتوهم أن ثمة حربا تحيط بالبيت.

ولأن الجَدّ عزل حفيده وزوجته عن الحياة، وأرغمهما على المكوث في البيت طوال الوقت، حتى تحول المكان إلى سجن يحف به الخوف والترقب والحذر، فإن الحفيد يعلن بأنه لم يعد يطيق التحمل، ويقرر الخروج والتحرر، لكن الجدة تحذره لئلا تفقده بعد أن فقدت جميع أبنائها. أما الجَدّ فيأمره بالإذعان له والبقاء في البيت ليحيا طويلا. إلا أن الحفيد يرد عليه قائلا “هل تعرف يا جدّي لماذا تريدني أن أحيا طويلا؟… لأنك بحاجة إلى مَن يتذكّر بطولاتك وأمجادك حين يرحل الجميع”.

المسرحية تطرح فكرة الالتباس السياسي والديني والاجتماعي في المجتمع العراقي والعربي، وما خلفه من حروب وإرهاب

ثم نسمع طرقات على الباب الخارجي تتزامن مع رنين الهاتف المنزلي، لكن الجَدّ يمنع حفيده وزوجته من فتح الباب والرد على الهاتف؛ متوجسا من أن العدو يريد أن يتأكد من وجودهم في البيت! ويعقب ذلك صراع طويل تُفتح فيه ملفات الماضي وجرائم الجَدّ لتنتهي المسرحية بمغادرة الجدة والحفيد البيت، وسماع صوت إطلاقة رصاص إشارة إلى انتحار الجدّ. وبهذه النهاية أراد غازي وبحري التأكيد على انتصار الخير وموت الشر، وهي بالتأكيد نهاية ميلودرامية مغلقة، بدلا من أن يجعلاها نهاية مفتوحة قابلة للتأويل. لكن هذا ما كان في النص بينما المسرحية عرفت تعديلا في النهاية وفي الحوارات.

الإخراج والتقنية

تعديلات عديدة طالت نص عرض المسرحية خلال عملية الإخراج، بحيث أضيفت إليه حوارات بالفصحى وباللهجة العراقية على لسان الشخصيات الثلاث. وينتهي العرض بنزول ثلاث شاشات تحمل صور الدماء والقتلى والضحايا، بينما يقف الجَدّ في المنتصف، ويقرر الحفيد والجدة الفرار، ويطالبان بفتح الأبواب ثانية، لكن دون جدوى، ويتحول المكان إلى براكين من النيران التي اندلعت لتلتهمه، ويموت الجَدّ، وتصرخ الجدة مخاطبة الربّ العظيم “اكتب على قلوب الأمّهات أن يتعلمن لغة الأعداد والحساب لأجل من فقدن من الأحبة والأبناء”.

استعان المخرج عماد محمد بتقنيات سينمائية تعرض خرائط متنوعة للعراق حسب تصوّر كل طائفة، وقضبانا تغلق في وجه الشاب، ومقاطع من نشرات إخبارية تستعرض صور الضحايا والاحتجاجات والدمار، كما وظّف إيقاعات موسيقية صاخبة، مع تداخل لصلوات وآيات من القرآن الكريم تفضح تجار الدين والسياسة، ووضع جدرانا تشبه القضبان، وفي الخلفية عرض شلالات دماء ونيران تبدو كأنها تلتهم خشبة المسرح، وصورا متتابعة من صحف تنعى ضحايا، ومظلات ممزقة، وتجمعات نسائية متشحة بالسواد، مصممة بطريقة تشعر المتلقي بتتابع المشاهد وتلاحقها، وتؤكد مسألة استمرار الحرب وتأثيرها السلبي، وستائر معدنية تختبئ وراءها الشخصيات. وتشير الخرائط المختلفة إلى المشاريع السياسية لمستقبل العراق، ومنها خارطة دولة “داعش” التي تضع حدودا للبلاد وفق تصوراتها، وخارطة الشرق الأوسط التي رسمتها القوى العظمى.

كما أجرى المخرج بعض التغييرات الجوهرية على عناصر المسرحية البنائية والدلالية، فاختزل أحداثها وشخصياتها، وفقا لمقاربات درامية تجريبية، وحاول إسقاطها على قضايا سياسية تشغل بال مكيّفيها. لكن في الحالتين اتسم أغلبها بحرفية مسرحية متقنة، لم تشوّه أصولها أو تتلاعب بها.

 

https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *