صبري وعبد الحافظ: مسرح القاسمي رؤية للواقع واستشراف للمستقبل

meo – مجلة الفنون المسرحية 

 

قدم الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي العديد من الأعمال المسرحية التي استلهم من خلالها التاريخ العربي والإسلامي لكي يضيء الكثير من الأحداث التي تجري على الأمة العربية والإسلامية الآن، ويكشف آليات وقوانين الانتصار والنهوض بالأمة وعودتها إلى درب الريادة والتقدم والوحدة، من هذه الأعمال  “كتاب الله: الصراع بين النور والظلام”، “داعش والغبراء”، “علياء وعصام”، “الحجر الأسود”، “طورغوت”، “الإسكندر الأكبر”. 

وكانت تجربته هذه محور الندوة التي استضافها جناح مؤسسة بحر الثقافة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 28، وجاءت بعنوان “إعادة قراءة التاريخ في الأدب.. مسرح سلطان القاسمي”، شارك فيها الكاتب د. محمد حسن عبدالحافظ، والكاتب والشاعر عبدالفتاح صبري، حيث ناقشا خلالها إشكالية تحويل التاريخ لأعمال أدبية من دون الإخلال بالنصوص الأصلية.

في البداية قال عبدالفتاح صبري إن إشكالية معالجة التاريخ إبداعيا نالت قسطا واسعا من الدراسات والبحوث، لكن التاريخ له أضابيره وأبحاثه وأدواته ومنهجه الذي يؤطر لكتابته، والأدب من زاوية أخرى ليس معنيا بالتاريخ ولا  تطبيقه ولا نقل القصص الحقيقية للمتلقي، بمعنى أنه لكل محور منهج، فالتاريخ له منهجه العلمي الذي يبحث في الدلالات والأفكار والمقاربات قارئا مختلف المصادر والروايات والوثائق ليصدر بالنهاية معلومة مؤكدة وموثق بأن هذا الملك أو تلك المعركة حدث فيها كذا أو نتج عنها كذا. فالتاريخ منهج أكاديمي يهتم فقط بالتدوين والمعلومة المؤكدة الموثقة، أما الأدب فيقدم رؤية وإبداع صاحبه، ويستلهم لحظة تاريخية أو شخصية أو واقعة أو قيمة أو مفصلا تاريخيا يمكن الاستشهاد به على ما يجري الآن في الواقع، لكنه لا يقدم حقيقة، يقدم قصة أو استشهاد من زاوية إبداعية لها مقاييسها ودراميتها الجمالية والفنية، فالأدب بمختلف أجناسه من رواية أو قصة أو مسرح أو شعر ليس معنيا بأن يقدم الحقيقة التاريخية.   

وأضاف “إذا أخذنا تجربة الشيخ د. سلطان القاسمي فهي تجربة فريدة في استلهام واستقراء التاريخ والمعالجة بمخيلة فنية وجديرة بالتأمل والدراسة لما تحمله من رؤى وأفكار، وبالطبع هذه التجربة تختلف عن أي تجارب أخرى في الإطار ذاته كون الشيخ القاسمي حاكم وصاحب سلطة وله في السياسة، وأيضا لديه الإمكانية لطرح أي قضية بحرية وجرأة دون توجس أو محاذير من المكبلات القانونية والمجتمعية. 

ومن هنا فإن فرادة تجربته تأتي من كونه مبدعا وحاكما في ذات الوقت ويقدم رؤية المؤسسة الحاكمة حينما تكتب، لقد استهلهم التاريخ واستحضره واستطاع أن يقول إن هذه الأمة المنهزمة الآن، نستطيع أن نأخذ لحظات تبصيرية في التاريخ العربي والاسلامي كانت لحظات انكسار وانهزام، نستطيع أن نستحضر هذه اللحظات لإعادة التوازن لهذه الأمة والنهوض بها برؤية تكشف مواطن الخلل وتعالجها، وبالتالي فإن كتاباته تحمل نوعا من الأمل وسعيا إلى إشاعة هذا الأمل سواء في كتاباته المسرحية التي دائما ما تنتهي بالانتصار وإشاعة روح الأمل، ففي مسرحياته العشرة يوظف الرؤية التاريخية في استعادة الأمل والتأكيد على أن هناك من يستطيع أن يقود نحو انتصار الأمة والنهوض بها”. 

ورأى د. محمد حسن عبدالحافظ أن الشيخ د. سلطان القاسمي يشكل حضورًا فريدًا على المستويين الفكري والثقافي في العالم المعاصر، وهو، بحكم وعيه وتكوينه وجمعه بين العلم بوصفه مؤرخًا والسلطة بوصفه حاكمًا، يمثل تجربة استثنائية تجسدت ملامحها في مجمل أعماله، لاسيما المسرحية، إذ استهدف بها إنارة المستقبل بضوء الماضي، والكشف عن تحديات العصر ببصيرة، والوقوف على مكامن الضعف والقوة في مسيرة الحضارة العربية والإسلامية. 

وقال انتهج القاسمي مسلك المسرح السياسي، بأقنعة تاريخية، واتخذ منه وسيلة لتحريك الواقع، وإضاءة الراهن، واستشراف المستقبل، وإعادة قراءة التاريخ والإفادة من عبره، على نحو ما جاء على لسان الشاهد في مسرحية “القضية” متحدثًا عن التاريخ: أناس لم يقرؤوه فلم يستفيدوا منه، وأناس قرؤوه ولم يفهموه، وهؤلاء لم يستفيدوا منه أيضًا.. وأناس قرؤوه وفهموه ولم يعملوا به، وهؤلاء لم يستفيدوا منه أيضًا (بل أهدروه عمدًا)، وأناس قرؤوه وفهموه وعملوا به، وهؤلاء يستفيدون من التاريخ..”. 

ويستهدف القاسمي بمشروعه المسرحي إيصال رسائل إلى جمهور عريض، بل دفعه إلى التفاعل العضوي لتحريك الواقع نحو مستقبل مختلف عما حدث في الماضي. وتمتد رؤية القاسمي ومشروعه المسرحي إلى وعيه الباكر، منذ شارك في المسرح المدرسي بشخصية “جابر” في مسرحية “جابر عثرات الكرام”، سنة 1955، وكان القاسمي آنذاك في المرحلة الإعدادية، ثم كانت نقلة أخرى في الاتجاه ذاته في فرع آخر هو الكتابة، حيث كتب نص “نهاية صهيون” سنة 1959. وبما أن القاسمي قد قرأ التاريخ قراءة واعية واستوعب معطياته، فإنه قد شكل بذلك ظاهرة أدبية فريدة في التعامل مع التاريخ وتوظيفه دراميًّا، مستندًا على إلمامه بتفاصيل كل واقعة تاريخية تناولها، ومعطيات تلك الواقعة وطبيعة عصرها الذي تنتمي إليه، وبذلك رسخ منهجه في تأصيل المسرح السياسي العربي ومسرحة التاريخ.

وأضاف د. عبدالحافظ أن الشيخ القاسمي ذهب إلى أن حركة تجديد وتأصيل المسرح العربي توزعت بين تيارات عدة: الأول: يرى أن النتاج المسرحي العربي يفتقر إلى الرؤية الدرامية التي هي شرط الإبداع المسرحي، وأن الوعي الدرامي يتعارض مع العقلية العربية الإسلامية، وانطلاقًا من هذا المنظور يرفض المنتمون لهذا التيار الاعتماد على أشكال الفرجة العربية، وعلى المأثور الشعبي، ويعدونها غير كافية لبناء مسرح عربي. 

الثاني: ينفي صفة الكونية عن المسرح الغربي، ويؤكد ارتباطه بحضارة المدنية القامعة للإنسان، ويرى أن المسرح العربي المعاصر هو نسخة شائهة من المسرح الغربي، ويدعون إلى التخلي عن تقليده وبناء مسرح عربي اعتمادًا على أشكال التعبير في الموروث الثقافي العربي الإسلامي مثل: فن الراوي والحكواتي المقتبس من السير الشعبية العربية.

الثالث: يرى أنه من الخطأ البحث عن ظواهر مسرحية في التراث العربي مقننة بضوابط المسرح اليوناني القديم والأوروبي الحديث، وأنه من الضروري إعادة قراءة التراث العربي للبحث عن منطقه الداخلي وعن الضوابط التي تحكم صور الفرجة العربية الممكنة، ولا يرى مدعاة لقطع الصلة بالمسرح الغربي لتحقيق هوية المسرح العربي، ويدعو أصحابه إلى العودة للأصول وإعادة الاعتبار إلى الموروث الثقافي العربي وإلى تقاليد الفرجة الشعبية دون انقطاع عن الروافد الغربية والإنسانية.

وأكد أن الشيخ د. سلطان القاسمي يقف إلى جانب التيار الثالث الذي يرى فيه أنه يشكل الأصلح للعالم العربي، حيث تمثل هذا التيار بنتاجات سعد الله ونوّس المسرحية، وتجارب الفرجة الاحتفالية في المغرب، وتجارب متعددة في المسرح المصري كمسرح الجيب التي ارتبطت بـ سعد أردش و كرم مطاوع، والمسرح المفتوح عند بهائي الميرغني وحازم شحاته وعبده طه، ومسرحة التراث لدى يوسف إدريس وألفريد فرج ودرويش الأسيوطي على سبيل المثال. 

إن التاريخ، في أعمال القاسمي المسرحية، قناع أكبر لرموز دلالية تومئ لأحداث وأشخاص معاصرين، ولا غرابة في أن نجده يستحضر التاريخ ويصطفي مشاهده وفق خطين متوازيين:

الأول: أقنعة الأحداث التاريخية، ويتبدى هذا في مسرحية “القضية” التي ركزت على الأسباب الجوهرية لسقوط غرناطة. ومسرحية “الواقع.. صورة طبق الأصل” التي تسلط الضوء على الأصول التاريخية للقضية الفلسطينية، وتحديدًا ملف القدس، ومسرحية “الحجر الأسود” التي ترصد جذور التطرف خلال فترة الحكم العباسي. 

الثاني: أقنعة الشخصيات التي تنتمي إلى حقب وأزمنة تاريخية مختلفة، كمسرحية “عودة هولاكو” التي تدور حول شخصية هولاكو المغولي، الذي استهل عمليات غزو العالم الإسلامي بدءًا من بغداد عبر إيران، ثم الموصل، ثم الشام، كما وضعت المسرحية يدها على الضعف الداخلي والخيانة الداخلية (العلقمي ثم ابنه) التي سهلت مرور المغول. ومسرحية “الإسكندر الأكبر” التي تدور حول غزوه للعالم، وانتهاء أحلامه عند بوابة بابل في العراق، حيث دفن. وينسحب قناع الشخصية التاريخية على مسرحيات “شمشون الجبار” و”النمرود” و”طورغوت”. 

وأوضح أن هناك ما يجمع بين الخطين كمسرحية “داعش والغبراء”. وفي لجوئه إلى عالم المسرح كملاذ للكتابة الإبداعية، استند القاسمي على عدد من المرجعيات الفكرية والجمالية النابعة من التاريخ العربي بشكل خاص، حيث وظفها توظيفًا دلاليًّا عبّر عن الواقع العربي الراهن بكل مأساويته، محاولًا إعادة قراءة التاريخ وقراءة الذات الجمعية العربية التي تحفل بالمعاناة والألم.

ولفت د. عبدالحافظ إلى أن الشيخ د. سلطان القاسمي أحكم بنيان نصوصه المسرحية، ورصفها بثقافته العربية الأصيلة وبمعرفته بالتاريخ العربي، فوثق العناصر التي انتقى منها مواضيعه لمسرحة التاريخ، فاختار التاريخ من المعطى الموجود، وإحضار الواقع المنسي بعوالمه المسدودة وإدراجه في الكتابة الدرامية لفهم دروسه وعبره وأحداثه معناه فهم التاريخ وفهم الوجود العربي في هذا التاريخ. 

والقاسمي يجعل من التاريخ في مسرحه عاملًا مساعدًا يعين على كشف الواقع التراجيدي العربي، وما العودة إلى التاريخ العربي الإسلامي إلا لتقديم رؤية واحدة وقضية مشتركة  ترصد تراجيديا التاريخ الاجتماعي العربي، وما يحدث للشعوب المغلوبة من قتل وسلب ونهب واستنزاف. 

وبما أن القاسمي قد وظف في مسرحه وقائع تاريخية اشتملت على أحداث وشخصيات أثرت في حركة التاريخ، فإن أعماله المسرحية تندرج تحت ما يسمى بمسرح الوثيقة السياسية، وتأخذ توصيف “التراجيدي – ملحمي”؛ لأنها تخوض في غمار البحث في موضوعات تاريخية واسعة أفقيًّا وعميقة عموديًّا من أحداث رئيسة مرت في حياة الأمة الاسلامية – العربية، ثم تتوغل هذه التآليف في كشف هذه الأحداث، عبر مراحلها المختلفة، عارضة ومحللة محنها المصيرية وكاشفة بقوة لحظة الانهيار الهائل لمراكز الحضارة العربية الإسلامية. 

وخلص عبد الحافظ إلى أن الشيخ القاسمي اتخذ من التاريخ مادة لبناء جل نصوصه المسرحية، ولم يكن التاريخ غاية في حد ذاته، بقدر ما تعامل معه بوصفه وسيلة ملهمة من شأنها أن تحقق له القدرة على الخلق الدرامي الكاشف عن معاني الأحداث التي يريد أن يتمثلها، ضمن رؤية تنبثق من رؤيته للواقع واستشرافه للمستقبل.

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *