صباح الأنباري وأعماله الكاملة

د. أسماء غريب – مجلة الفنون المسرحية 

(1)

لماذا الأعمال الكاملة؟أيُّ سرٍّ هذا الّذي يُحَفِّزُ العديدَ مِنَ الأدباء عَلى التّفكير في لحظةٍ مُعيّنة مِن حياتِهم، بإصدارِ “أعمالهم الكاملة” في مُجلّد أو مجلّدات عدّة، يجمعُون فيها كلّ ما ألَّفُوه طيلةَ حياتهم الفكريّة؟! هلْ في هذا الأمرِ إعلان عنْ قرب النّهاية؟ أو اعتراف ضمنيّ بأهمّية ما تمَّ تقديمُه مِن عملٍ يُعتَقَدُ في أحقّيتِهِ بالجمعِ والتوثيقِ ليَنْتَفِعَ بهِ ومنهُ الآخرون؟ وماذا عن موقف دُورِ النّشر في هذه القضيّة؟ أو بعبارة أخرى؛ ما الّذي يدفعُ بناشر مَا إلى خوض هذه التجربة، والمغامرة بالنّشر لكاتبٍ قرّر أن يجمعَ أعمالَهُ في زمن قلّ فيه إقبالُ القرّاءِ والنّقّادِ على الكِتاب والكُتّاب والأدباء بشكلٍ عامّ؟! 

لا أحدَ غير مَنْ يعملُ في مجال الكتابة ويعرفُ دهاليزَها الشّائكة، ويَخْبِرُ معاناة الأدباء والنّاشرين معاً، يُمْكِنُهُ أنْ يجيبَ عن هذه التساؤلات بكلٍّ حيادية وتوازنٍ ورصانةٍ، وعليهِ أقولُ: إنّ الّذي عادةً ما يُشَجِّعُ كاتباً مَا على نشرِ أعماله الكاملة ليسَ فقط الإحساس الذّاتيّ أو الشخصّيّ بأهمّية ما تمَّ تقديمُه خلال سنوات العمر الماضية، وإنّما هُو الاعترافُ الجمعيّ والغيْريّ بمَا لهذه الأعمال نفسها من قيمة أدبيّة وعلميّة عالية، وهو الأمرُ الذي لا يمكنُ الأخذ به في غياب عنصر التراكم الكمّيّ والكيفيّ، والذي أعني به مجموعَ ما تراكَمَ من موادّ ونصوص وكُتُبٍ فَرَضَتْ ليس على الكاتبِ وحده وإنّما على النّاشر والنّاقد والمهتمّين مِن الأساتذة الأكاديميين وغيرهم من ذوي الخبرة الاعترافَ الصّريحَ أو الضّمنيّ بأهمّية تجربة كاتب ما سواءً كانَ شاعراً، أو روائياً أو مؤرّخاً أو مسرحيّاً وهلمّ جرّاً، وبأحقّيَتِهِ أكثر من غيره بأنْ تُوثَّقَ أعمالُه وتُجْمَعَ في مجلّدات تُجَنِّسُ لما يُسَمّى بـ (الأعمال الكاملة).

وبما أنّني بصدد تناوُلِ تجربة الأديب المسرحيّ صباح الأنباريّ، أقولُ إنَّ صاحبَ كتابِ (المجموعة المسرحية الكاملة) الذي صدرَ مؤخّراً الجزءُ الأول منه (1)، قد تحقّقَ في مسيرتِه الإبداعيّةِ عُنْصرُ التّراكُم بامتياز، إضافة إلى عُنصرَيْ التّجديدِ والخصوصيّة اللذان يُشَكّلان ركيزة مُهمّة يعتمدُ عليها النّقدة والبحّاثة وكذا النّاشرون ليُقرّوا مدى أحقّية أديب ما في جمع نتاجاته بين دفّتيْ مُجلّدٍ أو مجلّديْن أو ربّما أكثر.

وأمّا عُنصر التّراكُم عند الأنباري فتؤكّدُه إصداراتُه التي تجمّعت على امتداد السّبعِ عشرة سنوات الأولى منَ القرن الواحد والعشرين، انطلاقاً من (طقوس صامتة) ووصولاً إلى (مذكّرات مونودرامية) (2)، إضافة إلى العديد منَ المقالات التي كتبَها في مجال المسرح والنّقد المسرحيّ والتي تتجاوزُ الخمسين مقالةً نُشِرتْ في العديدِ مِن الجرائد والمجلّات كـ (الموقف الثقافي)، و(العرب العالمية)، وجريدة (الحياة)، و(طريق الشّعب)، و(المدى)، و(الزمان) و(التآخي)، ومجلة (دجلة)، وغيرها منَ المنابر الثقافيّة والإعلاميّة، دون نسيانِ المسرحيـّاتِ التـي أخرجَها للخشبة ضمنَ أنشطة (فرقة مسرح بعقوبة) كمثلِ مسرحية علي سالم (بهلوان آخر زمان)، ومسرحية (المفتاح) ليوسف العاني، ثم مسرحية (قضيـّة ظـلّ الحمـار) لفردريش دورنمات.

كما لا يفوتني أنْ أسجّلَ أنّ الأنباريّ حظيَ باهتمام العديد من النقاد والمتتبّعين الأكاديميّينَ لرحلتِه وتجربتهِ المسرحيّة والّذين بلغتْ كتاباتُهم عنهُ ما يفوق التّسعين مقالة، أذْكُرُ منهم على سبيل المثال لا الحصر كلّاً من تحسين كرمياني (3)، ود. فاضل عبود التميمي (4)، ود. فائق مصطفى، ود. إبراهيم علي محمود، وسعد محمد رحيم (5)، ثم علي مزاحم عبّاس (6) وشاكر مجيد سيفو وبلاسم إبراهيم الضاحي (7)، وكذا محيي الدّين زنكنة (8). ويضافُ إلى هذا العديد من اللقاءات الصحفيّة التي أجْرِيَتْ معه، ونُشِرتْ على صفحات العديد من الجرائد داخل أو خارج العراق (9).

أمّا لمنْ يسألُ عنْ عُنْصُرَي التّجديدِ والخصوصيّة في التجربة الأنباريّة، فالمرادُ بهما نجاحُ الأنباريّ في تجنيسٍ جديدٍ بمجالِ الكتابة المسرحيّة بطريقةٍ حوّلَ معها وبهَا النصَّ الصامتَ مِنْ سيناريو متخصِّصٍ فنّيّاً وتقنيّاً بخشبة المسرح إلى نصٍّ مقروء منَ الناحية الأدبيّة، وذلك لخبرة الأنباريّ الطويلة في مجال المسرح الصّامت الذي هو بالنسبة له فنٌّ بصريٌّ يشتغلُ على الصّورة التي يُحَرّكُها الفعلُ والرّغبة والهدفُ بغرض تشكيلٍ معنى مُعيّن يكونُ قادراً على التجسُّد في هيئة نصّ مُدَوّنٍ على الورق، أو عرضٍ فوق خشبةِ المسرح، وهذا ما جعل الأنباريّ يحظى بهذه الخصوصيّة التي تُمَيّزُه عنْ غيره من رواد المسرح العربيّ لأنهُ يُعَدُّ أوّلَ مَنْ أسّسَ صرحَ أدبيّات المسرحيّة الصّامتة، على الرغم مِنْ ما في كتابةِ النصّ المسرحيّ الصّامتِ مِن صعوباتٍ قدْ تجعَلُ في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ مهمّةَ الإبداعِ والتميُّزِ في هذا الجنسِ الأدبيّ الجديدِ أمراً مستحيلاً، لا سيما إذا كانَ الكاتبُ غيْرَ مُتَمَرّسٍ في العمل الإخراجيّ المسرحيّ، ولا خبرة لديه فيه، وذلكَ لأنّ كتابةَ النصِّ الصّامت تقتضي بالأساس معرفةَ شروط وقواعد الخشبة والتّمثيلِ معرفةً دقيقةً، تُكَمِّلُ ما يكونُ قد تراكَم عند الكاتبِ عبر السنوات منْ ثقافةٍ مسرحيّة شاملة وعالميّة تكونُ تطبيقيّةً أكثر منها نظريّة، حتّى يستطيعَ اللّعبَ بمرونة على حبلِ الخيالِ والابتكار الجديدِ المُتجدّد والمُتحرّرِ مِنْ ربقات التناصّ المسرحيّ الذي غالباً ما يجرُّ رجلَ المسرحِ إلى اجترار ما سبقَ أنْ كتبَهُ الآخرون، أو استلهام النّصوصِ مِن تجارب أخرى عالميّة كانت أو وطنيّة أو محليّة. وكلّ هذا يعني أنّ صباح الأنباريّ قد نجحَ بخبرته العميقة ليس فقط في تجنيسِ المسرحيّة الصّامتة وإنّما في إيجاد لغة إنسانيّة عالميّة مُشْتَرَكَةٍ للتثاقُفِ والحوار البنّاء وتبادل الخبرات دون الحاجة إلى التّرجمة، لأنّ هذا النوعَ من الإبداع أثبتَ مع الأنباري، أنه الأقدَرُ على تمكينِ الإنسانِ من التواصل مباشرةً مع أخيه الإنسان كيفما كانت لغته، وديانته واعتقاده، كما الرياضيات والموسيقى بالضّبط، التي هي لغة السّماء.

(2)

الطّريق إلى الأعمال الكاملة

قد يبدو لمُتَتَبّعي إصدارات صباح الأنباري في مجال المسرح الصّامت، أنَّ البدايات كانت منذ سبع عشرة سنة فقط، أيْ حينما أصدرَ سنة 2000 (طقوس صامتة)، في حين تقولُ لائحة الجرد البيبليوغرافيّ لأعماله المسرحيّة الصّامت منها أو الصّائت، إنّ نقطة الانطلاق الحقَّة كانت سنة 1974، أيْ حينما أخرجَ مسرحية (بهلوان آخر زمان) التي ألّفها علي سالم، وأعدّها عبد الخالق جودت، وقدّمتها فرقة مسرح بعقوبة، لكن هل حقّاً تُسَجَّلُ بدايات المُبدع معَ أوّل عملٍ يُقَدِّمُهُ أو يُصْدِرُهُ؟ أعتقدُ أنّ الأمر فيه حيف وظلم ما بعده ظلم، فالبدايات لا تسجِّلُهَا الأوراقُ والكتبُ فقط، ولا العروضُ ما دمنا بالآداب المسرحيّة منشغلين في مقالتنا هذه، وإنّما تُسَجِّلُهَا الأماكنُ، والتّجَاربُ المعيشة فيها ومن خلالها منذ أن يرى المبدعُ النّورَ إلى آخر يوم في حياته الدنيويّة، وقَوْلِي هذا يُشَرِّعُ لي سؤالي الجديد عن دوْر الأماكنِ في حياة صباح الأنباري، والبدايةُ ستكونُ من بعقوبة.

وُلدَ صباح الأنباريّ حسبَ ما هو مسجّل في الوثائق الرسميّة في مدينة بعقوبة عام 1954، لكن حسبَ ذاكرة والِدِهِ فإنّ الولادة الحقّة كانت عام 1952. وبعقوبة هذه تقعُ على نهر ديالي المرتبطِ بنهر دجلة في جنوب محافظة بغداد، ويصبُّ فيه نهر الوند قربَ مدينة جلولاء، كما يحتضنُ بحيرتيْن ذواتا جمالٍ خلّاب هما حمرين ودربنديخان في محافظة السليمانية. ومن تعدُّدِ هذه الأنهار وروافدِها وبحيراتها وُلدَ اسم المدينة الثاني لبعقوبة والذي يعشقُ صباح الأنباري على وجه التّحديد أن يناديها بـهِ، وهو (مدينة البرتقال)، وقد يعترضُ بعضُ القرّاء على قولي هذا مؤكّدين أن كلّ أهل العراق يحبّونَ مناداة المدينة بهذا الاسم وليس الأنباريّ فقط، إلّا أنّني أنظرُ إلى الأمر بعين داخليّة لا تتحدَّثُ سوى بحرفِ الاندهاش المصحوب بسحريّة الجمال ورهافة الحسّ، فأنا لستُ منَ العراق كي أرى ما يراه عمومُ النّاس من هذا البلد الأثير، وإنّما مِن مغرب جبال الأطلس وأنهار أمّ الربيع ودرعة وتانسيفت، وكلّ ما يصلُنِي من بلاد الرّافدين هو جديد عليّ وعتيق في الوقت نفسه، وضاربٌ في جذور انتمائي الكونيّ لكوكبِ الرّوح وكنوزه الدّفينة، ألجُه بقلبي الطّفل وأقولُ بلسانه ما لم يقله غيري من قبل، ولذا، فإنني أرى أنّ اسم (مدينة البرتقال) وهو يُتَهَجَّأُ حرفاً حرفاً في قلب وبين يدَي صباح الأنباري لهُ وقع خاصّ فيه منَ الجمال والسِّحْر ما يحتاج إلى التوقّف أكثر فأكثر عند هذه المدينة.

بعقوبة هي بيْتُ الصّبر والدّمع والجَلَد، وهي قبلَ هذا وذاك حوضُ الذّهب، وإذ أقول هذا فإنّي أعني الأرضَ الّتي ظهرتْ فوقها خيراتُ الله متجلّيةً في حقول البرتقال والليمون والرّمَان والنخيل، والزهر والورد الفوّاح، والنباتات العطريّة من ياسمين وميرمية وعطرشيّة أو ما يسميها البعضُ بنبتة اللقلقيّ النّفّاذ، ترمزُ كلُّهَا إلى الدّفء والمحبّة والوفاء والإخلاص، لأنّ أبناءَها، ولا سيما منهم أهلَ الحرفِ والتّقوى، استمَدّوا كلّ هذه الصّفات النبيلة من عطور نباتاتِ مدينتهم وألوان زهر النارنج فيها، وعرفوا باكراً أنّ سرّ السّعادة لا يكمنُ في الاعتناء بالفراشة وأجنحتها السّاحرة، وإنما في الاهتمام بالأرض والحقل والوفاء لهُما والدّفاع عنهما بكل تفانٍ ونُكْران للذّات، حتى تؤمّهُما بعد ذلك كلّ فراشات الكون، وتصبحُ الأرضُ وطنَ النّور والعشقِ المنبعث سحرُه في كلّ القلوب. وليس غريباً أن نجد الأنباريّ قد تعلّم من مدينته الكثير، لأنه نبتَ كما شجرة البرتقال فيها، ففاح أريجه وامتدَّ إلى أبعد بقاع الله في الأرض؛ استراليا حيث يقيمُ اليوم هو وأسرتُه الفاضلة الكريمة.

وشجرةُ البرتقال البعقوبيّة حاضرة في كلّ شيء خطّتهُ يداه، بدءاً من بداياته الشّعريّة إلى نصوصه المسرحيّة الصّامت منها والصائت (10) ومروراً بنصوصه في النّقد المسرحي والشعريّ، ولعلّ أكبر دليل على ما ذهبتُ إليه هو كتابُه (الرّسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال) (11) والّذي ظهرتْ فيه بعقوبة بأبهى صورها عبر توثيق الأنباريّ لإبداعات رواد الرّسم والفوتوغراف فيها كالفنّان ناظم الجبوري، وسامي مسعد وأكرم الخزرجيّ وعدنان حسين مطر، وكذلك عبر تجلّيات جماليّة لا تجيدُ احتضانَها مدينة أخرى غير بعقوبة لأنّ لها منَ الأبناء مَن هُم وحدهم قادرون على مدّ جسور المحبّة انطلاقاً مِن مساحاتِ طبيعةِ مدينتهُم المفتوحة وفضاءاتها وحقولها وبساتينها اليانعة التي شربوا منها جميعاً إكسيرَ التمدّن والتحضّر والحوار والتآخي والتآلف مع الآخر (12) ليس فقط لأنّها قريبة من العاصمة بغداد وإنّما لأنّ حجرَ العشق والحكمة والفلسفة والعرفان كامنٌ فيها وهذا ما يبرّرُ تسميتي لها آنفاً بحوض الذّهب.

لكن ما الذي حدثَ لبعقوبة فيما بعد؟ من هشَّمَ قلبَها وأهرقَ دمعَها، وأحرقَ أشجارَهَا، وجفّفَ أنهَارَهَا؟ أينَ ذهبَ بياضُ القيمر وصفاؤه، وعطرُ الدولمة والبرياني والكباب في مطابخ البيوت البعقوبيّة الكريمة؟ بل أينهم البعقوبيّون البسطاء الّذين كانوا يتحلّقون حول المذياع لينصتوا بكلّ شغفٍ إلى مصطفى جواد وهو يطلُّ عليهم ببرنامجه الإذاعيّ اللغويّ الشيّقِ (قل ولا تقل)، وحول شاشة التلفزيون العتيقة ليتابعوا مؤيد البدري في برنامجه (الرياضة في أسبوع)، ويستأنسوا بالمسرحياتِ والمسلسلات التي خلدت في الأذهان كمسلسل (تحت موس الحلاق) ضاحكين منْ أعماق القلوب من كلّ ما كان يقدّمُه سليم البصري (حجّي راضي) وحمودي الحارثي (عبّوسي) وهُما يعالجان قضيةَ محو الأميّة لا سيما في حلقات خاصّة أذْكُرُ منها حلقةَ (تلميذ مسائي)؟ أين ذهبَ كلّ هذا البهاء والجمال والسعادة؟ الجواب يوجدُ في أعمال صباح الكاملة: إنّها الحرب تلك التي كان يحاولُ والدهُ أن يُبْعِدَ شبحَها عنهُ وعن بقيّة إخوته، وهو الرجل الذي خبِر ويلات الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، ويعرفُ جيّدا ما تخلّفه الحروب كلّها بدون استثناء من دمار وخراب. لكن هيهات هيهات، فحروب بلاد الرافدين الكثيرة ابتلعتْ أهل الأنباري، ولم تتركْ له لا أبا ولا أخا ولا أمّا ولا أختا، وأذاقتهُ باكرا مرارة السّلب والحرمان والموتِ الخاطف الغادر، فأصبحَ مثله مثلَ العديد مِنَ البعقوبيين شجرةَ برتقالٍ قُطِعَتْ أوصالُهَا، ونُسِفَتْ أوراقُهَا وغُيّبَتْ شمسُها عن المدينة، ولم يبقَ أمامها سوى أن تحمل ما تبقّى مِن جذعها المُقاوِم لأوار الحقد والكراهية والتعصّب الطّائفي لتذهبَ وتغرسَه في أرض أخرى لا حربَ فيها علَّ الجذعَ يُنْبِتُ أغصاناً جديدةً تورِقُ زهراً عَطِراً وفاكهةً تسرُّ النّاظرينَ، لتحتفظَ مِن خلالها على صِلَتِها بنهر الحكمة الأمّ، وتعيدَ الحياةَ إلى حوض الذّهب ومكنوناته البهيّة.

(3)

في حضرة اليمامة والقمرية

في أرضِ المهجر (أديلايد) اختمرتْ ونضجتْ فكرةُ جمع كلّ ما أنتجَه صباح الأنباري خلال مسيرته الإبداعيّة في مجموعة شاملة هي (المجموعة المسرحية الكاملة)، وعبر منشورات ضفاف اللبنانية وصلَ الجزء الأول إلى مناطق مختلفة منَ العالم منها مصر، أرض الفنون ورواد المسرح العربيّ الأوائل، هناكَ حيثُ وُزِّعتْ العديدُ مِنَ النّسَخِ على طلّاب الدراسات العليا بقسم المسرح في جامعة طنطا باعتبار أنَّ هذا الجزءَ قد أصبح مقرّرَهم الدراسيّ لهذه السنة الأكاديميّة الجارية، وجسراً للتواصلِ بينهم وبين صباح، وبينهم وبين الجامعات العربيّة من خلال أستاذهم الدكتور سيد علي إسماعيل (13).

يتكوّنُ الجزء الأول من (المجموعة المسرحية الكاملة) من فصليْن جامعيْن هُما (المسرحيات الصوامت وأسسها النظريّة والتطبيقية) و(نصوص المسرحيّات الصوامت) الذي يضمُّ ثلاثَ مجموعاتٍ جمَعَ الأنباريّ في الأولى منها كلّ الصوامت التي صدرتْ عام 2000 في كتابه (طقوس صامتة)، وأعادَ نشرها في (كتاب الصوامت) الذي صدرَ عام 2012. أمّا في المجموعة الثانية فجمعَ كلَّ الصوامت التي صدرت في (ارتحالات في ملكوت الصّمت) بدءاً من مسرحية (الالتحام في فضاءات الصّمت) وانتهاءً بـمسرحيّة (حجر من سجّيل) (14). وفي المجموعة الثالثة أدرجَ إحدى عشرة مسرحية، اثنتانِ منها سبقَ أنْ صَدَرَتَا في (كتاب الصوامت) (15) وهُما (قطار الموت) و(عندما يرقص الأطفال)، أمّا التّسعُ الباقيات فهي نصوص جديدة نُشِرَتْ واحدة منها ورقيّاً في جريدة (تاتو) (16) وثانية رقميّاً على موقع (بصرياثا) (17) وثالثة منها ورقيّاً أيضاً في مجلّة (الجديد) (18) أمّا المسرحيات الستّ الأخرى فنُشِرَتْ كلها ورقيّاً في جريدة (العالم) عام 2014، وهي المسرحيات التي سأختارُ من مجموعها كاملة (19) مسرحية لا غير، وأعني بها مسرحية (الهديل الّذي بدّد صمتَ اليمامة) (20)، وذلك لأنّي أعتبرُهَا أكثرَ النّصوص اختزالاً للمسار الأنباريّ كاملاً، ولأنّهُ يحكي عن بعقوبة وعن شيَم الوفاء والعفاف والكفاف والغنى عنِ النّاس التي تُمَيِّزُ هذا الأديب والتي تجلّتْ في إهداءاته سواءً منها التي افتتحَ بها (المجموعة المسرحيّة الكاملة) أو تلك التي تصدّرتْ (كتاب الصوامت) أو نصّ المسرحية ذاته، وهي الإهداءات التي سأجردها كما يلي:

– في المجموعة المسرحيّة الكاملة:

((إلى الّتي لا أزال على قيد محبّتها، وإلى أبنائي… وصمتي المناهض للتهريج، والضجيج، والثرثرة العالمية)) (21)؛

– في كتاب الصوامت:

((إلى الّتي طوّقتْ بهديلها الشجيّ صمتَ انتظاري الطّويل، وفرشت ظلّ جناحها الوارف على ملكوتي الدّرامي، إلى زوجتي لول (كما يحلو لي أن أسمّيها)، أهدي هذا السّفر من الصّوامت)) (22)؛

– في مطلع مسرحية ((الهديل الّذي بدّد صمت اليمامة):

((إلى اللائي انتظرن عودة يمامهن طويلاً. وإلى زوجتي مع خالص الهديل)) (23).

الجميل في هذه الإهداءات التي تفيضُ محبّة وإخلاصاً وسمواً واحتراماً لشريكة العمر والحياة هوَ حرصُ صباح الأنباري الشّديد على الدقة في اختيار الكلمات ومعانيها، فهو لمْ يستخدم كلمة (الحمام) مثلاً، وإن كانت تدلّ على معاني لطيفة ساميةً أهمّها السلام والاطمئنان الرّوحيّ، ولكنّه انتقى مصطلحَ (اليمام) ليخاطبَ زوجتَهُ والقرّاءَ من خلالها داعين إياهم للتعمّق في فحوى نصوصه، وذلك لسعة وغزارة ثقافة هذا الأديب ومعرفتهِ للفرق بين كلا النّوعين من الطّيور، وهذا ما يؤكّده جمعه بين اليمام والهديل والصّمتِ، ليلخّص المعنى الحقيقيّ لمسرحياتهِ الصّامتة.

اليمامُ في عرف المختصّين بعلم الطيور (Ornithology) أشدّ وفاء وإخلاصاً من الحمام، وأكثر حبّا للحريّة، لذا، فإنّه منَ الصّعب جدّا قنصُه، إضافة إلى أنه لا يطيق أن يستسلم للإنسان ليروّضَهُ على العيش حبيسا بين الجدران، وإذا حدثَ وحُبِس فإنه لا يفرّخ إلا نادراً، وإذا أفلت من سجنه فإنه لا يعود إليه أبداً، ويحبّ الهجرةَ كثيراً بحثاً عن أوطان أكثر أماناً واستقراراً، وإذا عشقَ كثُر هديل ذُكْرانِه.

وفي اللغة العربية لا يوجدُ مذكّر مصطلح “اليمام”، إذ اليمامة كما الحمامة والنملة والنحلة ونحو ذلك تطلقُ على الذكر والأنثى، فإن قصدوا التمييز بين الذّكَر والأنثى ميزوا بينهُما بوصف كأن يقولوا نحلة ذكر مثلا، أما اليمام فقد وضعوا لأنثاه اسماً خاصّاً بها هو القمرية. وبناء على هذا التمييز بين الجنسين فإني أجدُ نفسي بين يمامة وقمرية: يمامة هي صباح الأنباري وقمرية هي حبيبتُه (لول) كما يعشقُ أن يسمّيها، ولهذا فإنّ من يقرأ للأنباري بعينِ المحبّة لا بدّ سيجدُ زوجتَه وقمريتَهُ السّيدة لميعة الناشئ حاضرةً بشكل أو بآخر في كلّ نصوصهِ الصّامت منها والصّائت (24). وهكذا يصبحُ جليّا لماذا اختار نصّ (الصّمت الذي بدّد هديل اليمامة) وأهداهُ لها بكلّ تفانٍ ومحبّة، لأنهُمَا معاً معنيان أكثرَ من غيرهما بما عانته المرأةُ العراقية ومازالت من ويلات الحرب التي قصمتْ ظهرها، ورمّلتها، وتركتها عرضة لوحوش الغاب وللعزلة والحزن والقهر والاكتئاب. 

والحربُ في نصّ هذه المسرحية تُعَدُّ الحدثَ الرّئيس الذي تلتقِي حولهُ الشّخصياتُ (25) وتتفجّرُ عبره الصّراعات ولحظاتُ التوتُّر والتأزُّم لتضفيَ عليهم جميعاً حضوراً مسرحيّاً يشُدُّ بشكلٍ أكثرَ عمقاً بصرَ الجمهور، مخترِقاً فكرَهُ ووجدانَهُ، وواضعاً إيّاهُ أمامَ الوجهِ الحقيقيِّ للحرب، بالضّبط كما فعلت مارغريت ميتشل مِنْ خلال روايتها (ذهب مع الرّيح) التي كانت تقرأها من حين لآخر بطلةُ مسرحيّة الأنباريّ. 

ولمْ يكتفِ الأنباري بالحربِ كحدث قامَ بِمَسْرَحَتِهِ على الخشبة، وإنما كواقعةٍ للكشفِ النّفسيّ عبر تقنية العزل والانتقاء، والتي أعني بها ذاك المجهود الذي بذله الأنباريّ لينتقي من حدث الحرب عنصرا واحداً هو المرأة ليتمكّنَ منْ معالجة علاقتِها بتداعيات الحرب بشكلٍ مكثَّفٍ ومُخْتَزَلٍ حتّى يضمنَ سرعةَ وصول رسالته إلى الجمهور والتأثير المباشر فيه، دون المبالغة في الإثارة العصبيّة للمُشاهد كيْ لا يصرفَه عن الالتفات إلى المعاني الإنسانيّة والمظاهر الفنيّة في المسرحية من رسم للشخصيات، وبناء فنّيّ متكامل لها، وإضاءةٍ وأصوات وما إليها.

وفي مقابل حدث الحربِ، يَظهرُ في هذه المسرحية حدث آخر لا يقلُّ أهمّية عن الحدث الأول، وأعني به الدّعوةَ إلى السّلام والوئام بين بني البشر من خلال عنصرٍ على قدر عالٍ من الرّقيّ والأناقة والوسامة الفنّية، وهو هديلُ اليمام، والذي ما هو في الحقيقة سوى هديل صباح الأنباريّ نفسه الموجّه للنّاس أجمعين، فهو الدّاعي إلى العفاف والمحبّة، وإلى الوفاء والسّلام عبر كلّ نصوصه القديم منها والجديد، السّلام الذي هو لغة الصّامتين، المُبتعدين عن ثرثرة العالم، وغباء وضجيج أهل الاستكبار والاستعلاء.

سيبقى الأنباريّ شاهداً على زمنه من خلال تجاربه الغنّية، ومسرحياته الصّامتة التي اخترقتْ حجب العوالم، وأدخلتِ القارئَ والمتفرّجَ على حدّ سواء إلى حضرة البَصَر والبصيرة ليعثُرَ فيها كلّ واحد على يمامته أو قمريته، ويهدلَ معهُ أو معها أنشودة السّلام الأبديّ، لذا فإنّي أقولُ ختاماً: لا تصدّقوا هذا الهرمَ إذا ما أصدر أعمالَه الكاملة مُعلناً ختامَ المشوار المسرحيّ، لأنّه بكلّ اختصار، رجلُ الورشات الكبيرة المفتوحة إلى ما لا نهاية، وما زال في جعبتهِ الكثير، ونصُّهُ الصّامت الأكبر والأهمّ مازال في الطّريق، فانتظروه، وانتظروا هذه اليمامة ذات الهديل السّاحرِ الشجيّ.

الهوامش:

(1) صباح الأنباريّ، المجموعة المسرحية الكاملة (ج1)، ط1،  منشورات ضفاف، لبنان، 2017.

(2) – طقوس صامتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000؛

– ليلة انفلاق الزمن، اتحاد الكتاب العرب – دمشق، 2001؛

– البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2002؛

– ارتحالات في ملكوت الصمت، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2004؛

– المخيلة الخلاقة في تجربة محيي الدين زنكنة الإبداعية، منشورات مجلة بيفين، السليمانية، 2009؛

– المقروء والمنظور… تجارب إبداعية محدثة في المسرح العراقي، دار سردم للطباعة والنّشر- السليمانية، 2010؛

– المكان ودلالته الجمالية في شعر شيركو بيكس، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011؛

– قاسم مطرود في مرايا النقد المسرحي، دار نون للنشر والإعلام، القاهرة، 2011

– تجليات السرد وجمالياته في قصص محيي الدين زنكنة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2011؛

– كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012؛

– التأصيل والتجريب في مسرح عبد الفتاح قلعجي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2013؛ 

– محيي الدين زنكنة / الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة، منشورات مهرجان كلاويز السابع عشر، السليمانية، 2013؛

– شهوة النهايات / ثلاث مسرحيات عراقية صائتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2013؛ 

– الرسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال، قوس قزح للطباعة، كوبنهاكن الدينمارك، 2014؛

– إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين، دار ضفاف / بيروت، 2014؛ 

– مذكرات مونودرامية / نصوص مسرحية صامتة، دار ضفاف / بيروت، 2015.

(3) انظر كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 185.

(4) المصدر نفسه، ص 191.

(5) المصدر نفسه، ص 206.

(6) المصدر نفسه، صص 213-233.

(7) المصدر نفسه، صص 234-266.

(8) ألّف صباح الأنباري عن محيي الدّين زنكنه في النّقد المسرحيّ أربعة كتب هي:

– البناء الدرامي في مسرح محيي الدّين زنكنه، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، العراق، 2002؛

– المخيّلة الخلاقة في تجربة محيي الدّين زنكنة، منشورات مجلة به يفين (10)، 2009؛

– تجلّيات السرد وجمالياته في قصص محيي الدّين زنكنه، ط1، دار الشؤون الثقافية العامّة، 2011؛

– ثمّ محيي الدّين زنكنه، الجبل الذي تفيّنا بظلاله الوارفة، مطبعة دلير، من مطبوعات مهرجان كلاويز السّابع عشر، 2013.

(9) – صباح الأنباري يتحدث لـ (الزمان) عن المسرح الصامت، (الزمان)، لندن، 10/ 7/ 2009؛

– حوار مع الكاتب المسرحي والناقد صباح الأنباري، (الدستور)، العراق، 1/12/2003؛

– ثمّ صباح الأنباري بين هواجس الكتابة والتمثيل والإخراج، (أشنونا)، العراق، 20 / 10 /2001، وغيرها من العشرات من اللقاءات.

(10) انظر مسرحية (الهديل الذي بدّد صمت اليمامة) والتي ظهرت فيها بعقوبة من خلال الحمولة الرمزية العالية لكأسيْ عصير البرتقال الموضوعـتين فوق المنضدة التي تجلس إليها الشخصية الرئيسة: كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 101.

(11) الرسم والفوتوغراف في مدينة البرتقال، قوس قزح للطباعة، كوبنهاكن الدينمارك، 2014.

(12) انظر في هذا الإطار صورة الأنباري (داخل صالة التصوير) وهو يجلس على مقعد مرتفع في شهره السادس وإلى جانبه فتاة كردية تضع يدها البيضاء الكريمة على صدره الصغير بكلّ محبّة وحنان: (الصورة موجودة بموقعه الرسميّ، وتحمل رقم 54).

(13) يشهد العديد من رجال ورواد المسرح العراقي المعاصر للأستاذ د. سيد علي إسماعيل بما يبذله من جهود حثيثة بكلّ محبة وإخلاص من أجل إعلاء صرح هذا الفن والوصول به إلى أكبر عدد من الجمهور والمتتبعين منَ البحاثة والنّقدة، وأذكر له شخصيّاً بكلّ تقدير ومودة واحترام ماقام به تجاه مشروع (فوبوس وديموس) للمسرحيّ العراقي ميثم السّعدي حينما جعلهُ ضمن المنهج الدراسي لطلبته في قسم النقد بكلية الآداب (جامعة حلوان / جمهورية مصر العربية)، وأصبح أيضا معتمدا في امتحانات الجامعة السنوية، وهو المشروع ذاته الذي سبق أن ألّفتُ عنهُ كتاباً نقديّاً بعنوان (ميثم السعدي وثنائية العرض المسرحي)، وصدر في بغداد، عن مطبعة تنوير عام 2016.

(14) وهي موجودة أيضا في (كتاب الصوامت)، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، صص80-148.

(15) المصدر نفسه، صص 157-166.

(16) مسرحية (الموت بين يدي القصيدة) عدد تموز 2014.

(17) مسرحية (جرذان سود وشمس بيضاء)، آذار 2015.

(18) مسرحية (دولة السّيّد وحيد الأذن)، عدد جزيران 2016.

(19) يبلغ عدد المسرحيات المنشورة في هذا الجزء الأول من المجموعة المسرحية الكاملة خمساً وعشرين مسرحية.

(20) صباح الأنباري، (الهديل الذي بدّد صمت اليمامة) من المجموعة المسرحية الكاملة، منشورات ضفاف، بيروت، 2017، ص 115.

(21) المصدر نفسه، ص5.

(22) صباح الأنباري، كتاب الصوامت، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2012، ص 5.

(23) المصدر نفسه، ص 100، وفي المجموعة المسرحية الكاملة، ص 115.

(24) انظر على سبيل المثال لا الحصر: صباح الأنباري، ليلة انفلاق الزمن، اتحاد الكتاب العرب – دمشق، 2001، صص 8-28-29.

(25) امرأة في الثلاثين ورجل الظلّ ثمّ الرجال الثلاثة.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *