شكسبير نصير اللاجئين – لندن

لا يُختزل النصّ الأدبي الجيّد بحقبته الزمنيّة بل إن في مضمونه، في الغالب، ما يبعث على الإيمان بأنه عابر للكرونولوجيا وعابر للثيمات الراهنة وعابر للهموم العارضة أيضاً.

أثبت شاعر ستراتفورد إيبون إيفون، ويليام شكسبير، في سياق مشروعه الأدبي كل ما تقدّم ذلك انه مكّن سرد الحياة من الانجدال باختلاجات النفس البشرية، فراح يسأل في نزواتها وتطرّفها وأهوالها.

وإذا كان مجلّد عناوينه إنفلش في أكثر من منحى فقد داس ومن دون خشية حقلا مُفخخاً بالألغام من خلال التمهّل عند الرذيلة والإنحلال كما الطموح والشرّ والنظام والفوضى والعنف والطغيان والذنب ويقظة الضمير ناهيك بسطوة السحر وقدرة الحبّ وسيادة المقت.
في صنف من أدب بتنا نخشى اغترابه عنّا، عرجّ البريطاني أيضا على القدر والإرادة الحرّة، فتصوّر تلك اللحظات الحرجة حيث يدفع بالمرء صوب مصائر مفزعة في وسعها، ويا للمفارقة، أن تتماهى ومخاوف الراهن تماماً، كأن يكتب في شأن لاجئين إيطاليين زرعوا البارانويا في مدينة الضباب لندن وتراهم أجداد لاجئي الراهن وهؤلاء يطرقون أبواب القارة القديمة علّها تُفتح لهم.

يفيد خبر حديث يأتينا من بريطانيا أن شكسبير الذي احتفي بقدرته على جعل الوعي سمة برانيّة وجوانيّة على السواء، كتب نصاً يجوز إستخدامه اليوم مرافعة لمصلحة لاجئي القرن الحادي والعشرين.

والحال أن شكسبير يحلّ موضوع معرض تنظّمه المكتبة الوطنية البريطانية “بريتش لايبريري” ويتضمّن بعض مقتنياته ناهيك بثلاث صفحات اقتطفت من مخطوط عمل “السير توماس مور” المسرحي وجرى نقلها إلى الصيغة الرقميّة أخيرا.
تشكّل هذه الصفحات مشهداً من 164 سطراً وهو الجزء الذي اشتغل عليه شكسبير في إطار نصّ لكتّاب مسرحيين عدة تمحور على السير توماس مور وكان مستشار الملك هنري الثامن.

في 1590 أي قبل قرون عدّة تخيّل شكسبير ردّ السير توماس مور على اعتراض حشد من المتظاهرين على نيل اللاجئين في لندن ثلة من “الامتيازات”. يكتب شكسبير في العمل المسرحي وبلسان مور “تخيّلوا مشهد هؤلاء الغرباء المساكين/ يحملون أطفالهم على ظهورهم مع صرّة أمتعتهم/ ويسيرون بصعوبة صوب الأبواب والسواحل حيث يجري ترحيلهم”.

وإذا كان ثمة اختلاف في الحيثية التاريخية بين نازحي القرن الحادي والعشرين المنتقلين من الجنوب إلى الشمال وبين أولئك الإيطاليين الواصلين إلى لندن في ظلّ انتفاضات زعزعت سلطة الملك البريطاني هنري الثامن في 1517، غير أن شكسبير تبدّى في نصه شاحب الوجه ومثقل القلب كأنه يقف في وسط الجموع المندفعة صوب المراكب المبحرة، كأنه واحد من هؤلاء الغرباء.
يقول الإيرلندي جايمس جويس في “عوليس” الزمن الحديث “تظنّ أنك تفرّ مهرولاً إلى داخلك. إن أطول الطرق هي أحيانا أكثرها إختصارا”، فيستدعي الطرق ذريعة ليحوم حول مسقطه وليتأمّل التاريخ كابوسا يسعى إلى الإستيقاظ منه.
يذكر جويس في نصّه شكسبير أيضاً فيسميه أرض الصيد المغبطة بالنسبة لجميع الأذهان التي فقدت اتزانها. ربما خربط شكسبير في كلامه الأدبي نظامنا الذهني، غير انه من صنوف التخريب الصحي الممهد للإنتظام.
في أي حال، وفي مسألة اللاجئين، منح شكسبير رحّالة الحاضر والماضي الذين تهملُ مصائرهم في عصف النزاعات، وجوهاً وأفواه تتكلم.
جعل شكسبير نصّه المستعاد وثيقة لا تنتهي صلاحيتها.
رلى راشد
(النهار)

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *